الدرس ( 54 ) باب الغسل ( 4) ( صفة الغسل المجزئ ـ صفة الغسل الكامل )

الدرس ( 54 ) باب الغسل ( 4) ( صفة الغسل المجزئ ـ صفة الغسل الكامل )

مشاهدات: 558

بسم الله الرحمن الرحيم

باب الغُسل/ الدرس الرابع والخمسون من الفقه الموسع

لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري

______________________________________

 

مسألة / صفة الغسل الكامل معروفة، ولكن يُراعى فيها ما يأتي:

أولًا/ أن يُرَوِّيَ أصولَ شَعرِه.

ثانيًا/ أن يتعاهد مغابِنَهُ.

ثالثًا/ أن يغسل أعضاءَ الوضوءِ مرةً أخرى.

رابعًا/ أن يُقللَ مِن الماء.

 

صفة الغسل:

 الغسل له صفتان: 1// غُسلٌ كامل. 2/ وغُسلٌ مجزئ.

 

وصفة الغسل الكامل: هو الذي أتى به صاحبه مطبقًا السنن.

 

وأما صفة الغسل المجزئ: فهو الذي أتى بالواجب.

_________________________

 

وقبل الحديث عن صفة الغسل الكامل، نتحدث عن صفة الغسل المجزئ.

 

فالغسل المجزئ:

أن يعم بدنه بالماء لقوله عز وجل: ﴿ وَإِن كُنتُم جُنُبًا فَاطَّهَّروا﴾ [[المائدة: ٦]

ولقوله عليه الصلاة والسلام لذلك الرجل الذي أجنَبَ وأمَرَه بالتيمم فصلى، ثم لما وَجَد الماء قال عليه الصلاة والسلام، خُذ هذا فأفرغه عليك: قال كما عند البخاري: ” اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ “

___________________________

 

والغسل المجزئ هل تُشترط فيه المضمضة والاستنشاق أم لا تُشترط؟

جنح الإمامُ البخاري رحمه الله إلى أن المضمضة والاستنشاق ليسا واجبين في الغُسل، بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يتمضمض ولم يستنشق في غُسلِه إلا للوضوء.

وقال بعض العلماء: إن المضمضة والاستنشاق واجبان وهذا هو الصواب للأدلة التالية:

 

أولًا/ أن قوله عز وجل: ﴿ وَإِن كُنتُم جُنُبًا فَاطَّهَّروا﴾ [المائدة: ٦]  يشمل البدنَ كلَّه، والمرادُ بالبدن أي الظاهرُ منه، والفمُ والأنف لا شك أنهما من الظاهر، بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في حديث لقيط: ” وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا “

فلو كانتا مِن غيرِ ظاهِرِ البدن لما جاز للصائم أن يتمضمض وأن يستنشق.

 

الدليل الثاني/ على افتراض صحته لأن فيه ضعفًا- قال ﷺ:

” إنَّ تحتَ كلِّ شعرةٍ جنابةً، فاغسِلوا الشعرَ وأنقُوا البَشَر”

وقوله ﷺ “اغسلوا الشعر” يشمل شعرَ الأنف؛ وكلمة ” أنقوا البشر” يشمل الفم.

 

الدليل الثالث / قوله ﷺ: ” الصعيد الطيب طَهور المسلم إذا لم يجد الماء ولو عشر سنين، فإذا وجده فليتقِ الله ولْيُمِسَّه بَشَرَتَه ” والفمُ والأنف داخلان في البشرة.

 

وأما كونه ﷺ تمضمض واستنشق للوضوء لا يدل على أن النبي ﷺ لم يجعلهما مُجزِئَين عن مضمضةِ واستنشاقِ الغُسلِ تَبَعا وذلك لأن الأصل في الغُسل تعميمُ البَدَن.

 

___________________________

 

وهل يجوز بهذا الغسل المجزئ أن يصلي الصلاة؟

فالجواب:

1- إن كان نوى الحدَثَين في غُسلِه- إن كان نوى الأصغر والأكبر أجزأ- وذلك لأن الحَدَثَ الأصغر دخل في الحدثِ الأكبر.

وإن كان بعضُ العلماء يرى أنه لا بد مِن الوُضوء على وجهِ الوُجوب، لكنَّ الأكثرَ كما قلنا.

 

2- وأما إن نوى الحدث الأكبر فقط: فإن حدَثَه الأصغر لا يرتفع وذلك لعدم النية، واختار شيخُ الإسلام رحمه الله  أن الحدث الأصغر يرتفع ولو لم ينوه اكتفاء بنية الحدث الأكبر، وذلك لأن الله عز وجل لم يأمر إلا بالتطهر، قال عز وجل: ﴿ وَإِن كُنتُم جُنُبًا فَاطَّهَّروا﴾ [المائدة: ٦]

ولأن النبي ﷺ كما في الصحيحين قال لذلك الرجل: “قم فأفرغه عليك ” ولم يبين له مع أنه كان جاهلاً في أمر التيمم وذلك لأنه لم يصل، فقال ﷺ: ما شأنك؟ فأخْبَرَه، فقال ﷺ: عليك بالصعيد “

وهذا هو الصحيح، وما ذُكِرَ حالتان، فتكون الحالةُ الثالثة:

3- أن ينويَ بِغُسلِهِ ما لا يُباحُ إلا بالوضوء، وذلك كأن يغتسل لِمَسِّ المِصحف، فهذا لم يطرأ في باله لا الحدثُ الأصغر ولا الحدثُ الأكبر، فإذا نوى بِغُسلِه ما لا يُباح إلا بالوضوء فإن الحَدَثين يرتفعان.

 

الحالة الرابعة:4/ أن ينوي ما لا يباح إلا بالوضوء والغسل كالصلاة فيرتفع الحدثان.

 

الحالة الخامسة:5- أن ينوي بغسله ما لا يباح إلا بالغسل فقط،

مثلُ: قراءة القران فلا يرتفع إلا الحدث الأكبر.

 

 

ولْتعلم أن دخولَ الحدث الأصغر في الحدث الأكبر: إذا كان عن جنابة،

 

أما إذا كان عن سُنَّة: فإنه لا يرتفع -أعني الحَدَثَ الأصغر-.

 

فمثلاً: لو عَمَّمَ بدَنَه بالماء لِغُسلِ يومِ الجمعة:

فلا يجوزُ أن يصلي به؛ لأنه ليس عن حدث، حتى على القول بوجوب الغُسل يوم الجمعة.

 

ومن باب أولى إذا اغتسل للتبرد أو التنظُّف بتعميم بدنه فلا يجزئ أن يصليَ به، وذلك لفقدانه فَرْضًا مِن فروض الوُضوء وهو: الترتيب.

 

ولكنه لو رَتَّبَ في الغُسل المسنون أو في الغسل الذي ليس عن حدث أو في الغسل المراد للتنظف أو التبرد فيجزئ.

 

وعدمُ الإجزاء هنا؛ لأن الترتيبَ فرضٌ من فروض الوضوء.

 

لكن الترتيب في غُسل الحدث غيرُ مُشتَرط، وكذلك الموالاة لا تشترط في غُسل الحدث.

 

ويستدلون على عدم فرضية الترتيب:

بقوله عز وجل ﴿ وَإِن كُنتُم جُنُبًا فَاطَّهَّروا﴾ [المائدة: ٦]   فهو نصٌ مطلق.

ولقوله عليه الصلاة والسلام للرجل:

” خذ هذا فأفرغه عليك ” وكذلك يكونُ هذان الدليلان يدلان على عدمِ فَرْضِيَّةِ الموالاة، ويؤيده أحاديث وفيها ضَعْف منها:

ما جاء في سنن ابن ماجه: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما اغتسل وجد بعد ذلك لُمعة لم يصبها الماء فعصر مِن ماءِ شَعرِه فأصاب هذا الموضِع.

 

___________________________

 

وأما صفة الغسل الكامل:

روتها عائشةُ وميمونةُ رضي الله عنهما زوجا النبي ﷺ، ومن مجموع ما جاء في الروايات في صفة غُسل النبي ﷺ يكونُ كالتالي:

أولًا / يغسلُ كَفَّيه: وهذا الغَسلُ للكفين ليس للتنظيف وإنما هو الغَسْل الذي يكونُ بعد الاستيقاظ من النوم بدليل أنه ﷺ ” غَسَلَ كَفّيه قبل أن يُدخِلَهما في الإناء،

 ثم غسل ﷺ فرجه ” وفي رواية:” مذاكيره ” وهذا يشملُ حتى الخُصيتين؛

 ” ثم دلك ﷺ يده بالحائط ” وهذا من باب استحباب تنظيف اليدِ بعد الاستنجاء

“ثم توضأ ﷺ وضوءه للصلاة ” فيكونُ بعد دَلْكِه ليَدِه بالحائطِ غَسَلَهما فتوضأ ﷺ وضوءه للصلاة.

وفي حديث ميمونة رضي الله عنها: ” أنه توضأ حتى أبقى غَسلَ القدمين، فغسلهما بعد فراغه من الغُسْل، ثم أفرع ﷺ على رأسه الماء: أخَذَ غَرْفةً فغَسَل الشِّقَ الأيمنَ مِن رأسِه، ثم غَرفَةً فَغَسَلَ الشِّقَ الأيسرَ مِن رأسِه، ثم غَرفَةً فَغَسَل بها وَسَط رأسِه، ثم غَسَلَ الشِّقَ الأيمنَ ثم الأيسر”.

وفي حديث ميمونة: ” أنه تنحى فغَسَلَ قدَميه “

فهذا هو مُجْمَلُ صفةِ غُسلِه ﷺ، وهذا جاء في الصحيحين وفي السنن، فهذا هو المجمل.

___________________________

 

وإليكم التفصيل:

من بين هذا التفصيل:

أولًا / هل يُسَن أن يبسمِل؟

ما ذُكر من خلاف في الوضوء يكونُ في الغُسل؛ وذلك أن الحنابلة يرون أنها واجبة

وتسقُطُ مع النسيان.

وليس هناك دليلٌ على البسملة إلا إذا كانت هذه البسملة يُرادُ منها البسملةُ على الوضوء في الغسل،

وأما إذا اغتسَلَ غُسلاً كاملاً قد قالت الحنابلةُ: بأنها تجبُ مع الذِّكْر وتسقطُ مع النسيان،

وليس فيه دليل إلا حديثُ: ” كلُّ أمْرٍ ذي بال لا يُذكَر فيه اسمُ اللهِ فهو أقْطَع ” والغُسْلُ مِن الأمورِ المُهِمّة.

 

ثانيًا/ أنه ورد أنه ﷺ:

أ/ توضأ للصلاة وضوءًا كاملًا ولم يُذكَر غَسلُ القدمين بعد الغُسل.

ب/ وورد أنه ﷺ توضأ للصلاة إلا قدميه أخَّرَ غَسلَهما بعد الغُسل.

ج/ وورد أنه ﷺ توضأ وضوءَه للصلاة ثم بعد الغُسْل غَسَل قدَميه.

ومِن ثَم اختلفَ العلماءُ في غَسلِ القدَمين بعد الغُسْل:

ففي حديث ميمونة واضحٌ تأخيرُ غَسْلِ القدم، لأن غَسلَهما تتمةٌ للوضوء الذي في أول الغُسل،

لكن حديث عائشة عند مسلم: ” أنه توضأ وضوءه للصلاة ثم غَسل قدميه بعد الغُسل ” هو مَحَلُّ الحديث؛ فهل يستحبُّ أن يغسل قدميه بعد الغُسْل؟

قال بعضُ العلماء: نعم.

وقال بعض العلماء: لا يستحب،

فيُحمل حديثُ عائشةَ -رضي الله عنها- على أنه ﷺ لم يتوضأ الوضوءَ الكامل وإنما أرادت أكثرَ الوُضوء ومَن قارب على فراغ الشيء فكأنه انتهى منه.

والذي يظهر والله أعلم: أنَّ فِعلَها أحياناً مِن السنة جمعاً بين النصوص؛ وذلك لأن الأصل في الوُضوء أن يكون هو الكامل.

إذًا منهم من قال: يستحب، ومنهم من قال: لا يستحب إلا إذا كان في موضع الغُسل أذًى من طين ونحوه فيكون غَسْلُهُما من أجل هذا الأذى.

 

ثالثًا/ أنه ﷺ لم يأتِ أنه مَسَحَ رأسَه في هذا الوُضوء، وإنما جاء الحديثُ مُجملاً:

” توضأ وضوءَه للصلاة ” ولذا قال بعضُ العلماء: يكفي فيه الغَسْل

فيكفي غَسْلُ الرأسِ في الوُضوء إذا كان مع الغُسل

ولكن الصحيح: أن مالم يذكر هنا ذُكِرَ في مكانٍ آخَر.

 

رابعًا/ أنه يستحب دلْكُ أعضاء الغُسْل: لقوله عز وجل: ﴿ فَاطَّهَّروا﴾ ولم يقل: ” فتطهروا “

وقياساً على الوُضوء -كما مر معنا- أنه ﷺ لما توضأ دلك ذراعَيه،

وقد أوجبه بعض العلماء بل جعله شرطاً، ولكن الصحيح: أن الأمر في الآية ليس للوجوب وإنما هو للاستحباب لقوله ﷺ لأم سلمة كما عند مسلم:

” إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ، فَتَطْهُرِينَ “

والإفاضةُ المرادُ منها: صَبُّ الماءِ دون دِلْك.

فيكون الواجب هو:

تعميمُ الأعضاءِ بالماء، وذلك بأن يسيلَ الماء.

أما المسح فلا يكفي: ولذا لو أمرر الثلج على العضوِ فابتَلَّ ولم يَسِل فإنه لا يُجزئ.

 

خامسًا/ عليه أن يبالغ في إيصال الماء إلى أصولِ الشعر:

لقول عائشةَ رضي الله عنها: ” حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ “

وهذا هو الأصل للحديث -إن ثبت- ” اغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَ “

ولحديث: ” إن تحتَ كلِّ شعرةٍ جنابة فاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَ

ولِما جاء في السنن أن النبي ﷺ قال:

” مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعَرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يُصِبْهَا مَاءٌ فَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ؛

فقال عليٌّ رضي الله عنه: فمنها عاديتُ شعري، وكان يَجُزُّه ” كلما طال.

وهذا الحديثُ صححه ابنُ حجر رحمه الله في التلخيص.

وقد قال بعضُ العلماء: إن الصواب وَقْفَه على عليٍّ رضي الله عنه.

 

وأما بالنسبة للمرأة: فقد جاء عند مسلم أن النبي ﷺ سألته أم سلمة فقالت:

” يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي، فَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ. قَالَ: لَا، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ، فَتَطْهُرِينَ “

ومِن ثَم اختلف العلماءُ في هذا الأمر:

ولذا قال بعض العلماء: يجب أن يُنقَضَ شَعرُها؛ والظفائرُ معروفةٌ: وهي نَسْجُ الشعر، ولَفُّ بعضِه ببعض، وهي ما تسمى عندنا بـ “القرون” -قَرْنُ المرأة-

فقال بعض العلماء: يجب النقض، ولذا/

” بَلَغَ عَائِشَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَأْمُرُ النِّسَاءَ إِذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ، فَقَالَتْ : يَا عَجَبًا لِابْنِ عَمْرٍو هَذَا يَأْمُرُ النِّسَاءَ، إِذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ، أَفَلَا يَأْمُرُهُنَّ أَنْ يَحْلِقْنَ رُءُوسَهُنَّ، لَقَدْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَلَا أَزِيدُ عَلَى أَنْ أُفْرِغَ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ إِفْرَاغَاتٍ ” وقولها: ” أَفَلَا يَأْمُرُهُنَّ أَنْ يَحْلِقْنَ رُءُوسَهُنَّ ” هذا من باب النكير.

 

وبعض العلماء يقول: إذا وصل الماءُ إلى أصول الشعر فإنه كافٍ ولو لم تنقُض شعرَها

وأما إذا لم يصِل: فيجبُ نَقْضُه، والصواب: أنه لا يَلزَمُ النقض، بل عليها أن تحثيَ على رأسِها ثلاثَ حَثَيات، وذلك لأن المرأةَ يصعبُ عليها -لاسيما في الجنابة- يصعب عليها أن تنقُضَ شعرَ رأسِها، فهذا من باب دفْعِ المشقة.

وأما ما جاء في السنن أن عائشةَ رضي الله عنها قالت:

” كنت احثي على رأسي خمْسَ حَثَيات” فهو حديثٌ ضعيف،

 وليس معنى هذا في شأن المرأة ألا تتعاهَدَ الأصول، لأن الحديثَ إنما رَفَع الحَرَج في نَقْضِ الشعر،

 لذا قال ﷺ لأم سلمة: ” اغمزي قرونَك “

وهذا يدل على أمْرِها بتعاهد شعرِ رأسِها المضفور،

وفيه رَدٌّ على مَن قال: إن المُسترسِلَ مِن شعرِ رأسِ المرأة لا يجبُ غَسْلُه قياسًا على الوضوء.

وسبق الحديثُ عن مسألة شعرِ الرأسِ المُسترسل في الوضوء، فنقول:

 إن هذا القياسَ مُخالفٌ لهذا النصِّ الصريح: ” اغمزي قرونَك “

 

وهل المرأةُ الحائضُ كالمرأةِ الجُنُب في هذا الحكم؟

 فالجواب: أن هناك حديثٌ ورد عند مسلم في حديث أم سلمة:

” أفأنقضه لغُسْل الحيضةِ والجنابة؟ فقال: لا “

فبعضُ العلماء يأخُذُ بهذه الزيادة ويقول: إن النقضَ مستحب في الحيض كما هو مستحب في الجنابة لكنه لا يجب.

ولذلك أمَرَ النبيُّ ﷺ عائشةَ -رضي الله عنها – لما كانت حائضاً أن تمتشِط، وأمَرَ عليه الصلاة والسلام  أسماءَ بنتَ شَكَل أن تغتسل بالسدر، وغَسْلُ الرأس بالسدر يحتاجُ إلى نَقْض.

وبعضُ العلماء: يرى أن المحفوظ عند مسلم هي روايةُ الجنابة، ويقول إن روايةَ الحيضة خالَفَ أحدُ الرواةِ فيها الجمهور؛ وهذا اختيارُ ابنِ القيمِ والألباني رحمهما الله، فيرون أنها غيرُ محفوظة،

ويقولون: إن النبي ﷺ في حديثٍ أمَرَ المرأة أن تبالغ في دلْكِ شعرِها حتى يبلُغَ شؤونَ رأسِها،

أمَرَها في الجنابةِ وفي الحيض.

فجاءت روايةُ الجنابة مُخْرِجَةً الجنابةَ، وبقِيَ الحيضُ على الأمْرِ بإيصالِ الماءِ إلى شؤونِ الشعر،

 وأما أمْرُه عليه الصلاةُ والسلامُ بالسدر: فلا يَلزم أن يكون معه نقْض،

 وأما أمْرُه عليه الصلاة والسلام لعائشة وهي حائض: فقالوا إنه ليس لغُسل الحيض وإنما هو لغُسلِ الدخولِ في الحج.

ولا شك أن الأحوط أن المرأة تنقض شعرَ رأسها في الحيض، ولا سيما أن التفريقَ بين الحيضِ والجنابة فيه معنى وهو: أن الجنابة يكثُرُ حصولُها، بينما الحيض لا يحصُل في الشهر إلا مرةً واحدة،

وقد لا يحصل في الشهر إنما يحصُلُ في الشهرين،

 وأما ما قاله بعض العلماء: من أن شعرَ أمِّ سلَمَةَ كان خفيفاً قصيراً فلا دليل عليه.

 

سادسًا/ أَخَذَ بعضُ العلماء من الثلاث الغَرَفَات في غَسلِ رأسه ﷺ أن السنة هي التثليث في الغُسل، فالبدنُ مَقيسٌ عليه، ولأن التثليثَ في الغُسل أحَقُّ مِن التثليثِ في الوُضوء وذلك لأن النبي ﷺ بالَغَ في غُسلِ الجنابةِ مِن حيثُ أمْرُهُ ﷺ بإنقاءِ البَشَر وغَسلِ الشعر.

ولأن التثليثَ في الوُضوء قد يكونُ فيه بعضُ المشقة لكَثرَتِه، فيكون مع الغُسل من باب أولى لقلّتِه.

والقول الثاني: أنه لا يستحب التثليث، وهو رأيُ شيخِ الإسلام رحمه الله لعدم الدليل، وإنما الوارد أنه غَسَلَ بَدَنَه، ولأن الأمْرَ في قوله عز وجل ﴿ فَاطَّهَّروا﴾ يقتضي المرة الواحدة، وهذا هو الصواب.

 

وعندي/ أن الجوابَ عمّا ذكروه: أن يُقال إن ما استدلوا به من الأقيسة لا اعتبارَ لها، وذلك لأن ما قاسوه يمكن أن يُعكسَ عليهم، فيقال: إن تَرْكَ التثليث هو السنة من باب التخفيف في الغُسل، وذلك لأن الغُسل يشمُل البدنَ كلَّه، بينما الوُضوء في أربعة أعضاء.

وأما غَسْلُه ﷺ لرأسِه بثلاثِ غَرَفات فليس المرادُ ثلاثَ مرات وإنما المرادُ استيعابُ الرأس، ولذلك غَسَلَ شِقَّهُ الأيمن ثم الأيسر ثم وسَط رأسِه؛ ولو سلَّمنا بهذا لقلنا:

 إن التثليث في الرأس فقط من بابِ المبالغةِ في إيصالِ الماءِ إلى جذورِ الشعر.

 

سابعًا/ أنه تكفي غَلَبَةُ الظن في إيصالِ الماء إلى جذور الرأس: لقول عائشة رضي الله عنها:

” حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ “

 

ثامنًا/ أن السنة أن يتيامن لفعله عليه الصلاة والسلام في الرأس، ولعموم:

” كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ “

والطهور شامل للوُضوء والغُسل.

 

تاسعًا/ مع هذه المبالغة، السنةُ أن يقلل الماء: فقد كان ﷺ كما في الصحيحين:

” يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ “

وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- :

” كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، مِنْ قَدَحٍ، يُقَالُ لَهُ: الْفَرَقُ “

جاء عند مسلم: ” وَالْفَرَقُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ ” أن الفرق يسع ثلاثة أصواع

وقد أجِيبَ عن هذا في مسائل الوضوء.

 

عاشرًا/ هل يُعيدَ غَسْلَ أعضاءِ الوُضوء مرةً أخرى؟

فالجواب: أن بعضَ الروايات جاء فيها: ” ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ ” أي: باقيه.

فيُستفادُ مِن ذلك: أن أعضاءَ الوُضوء لا يُعادُ غَسْلُها، بدليل حديثِ ميمونة -رضي الله عنها- أنه أخَّرَ غَسْلَ القدَمين -وهما قَدَما الوُضوء- أخّرَهما بعد فراغِه مِن الغُسل، وجاءت روايةٌ عند البخاري:

” ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ “

فتفيد أنه بعد فراغِه من الوضوء غَسَلَ البَدَنَ كلَّه بما فيه مِن أعضاءِ الوُضوء،

 فتُحمَلُ روايةُ: ” سَائِرَ جَسَدِهِ ” على الكل؛

 وقال بعضُ علماءِ اللغة: إن كلمة ” سَائِرَ ” لا تأتي للكل وإنما للبقية،

 ولا شك أن الأحوَط أن يُعيدَ غَسْلَهما لأن الامر مُحْتَمَل.

 

الحادي عشر/ أن الواجب عليه أن يتعاهد مغابِنَه: مثلُ: الآباط، وعُمْقُ السُّرَّة، وغضاريف أذُنَيه

لما جاء في سنن أبي داود: ” ثُمَّ غَسَلَ مَرَافِغَهُ ” أي: مغابَنَه.

ويجبُ أن يتعاهدَ في أولِ أمْرِه غَسْلَ الدُّبُر، لأنه داخِلٌ ضِمنَ كلمةِ الفَرْج.

 

الثاني عشر/ أن السنةَ له إن كان قد توضأ وُضوءًا منفصلاً، بمعنى: أنه اغتَسَلَ غُسلاً كاملاً، فإنه يقول الذِّكر الذي بعد الوضوء: وأما إذا اغتَسَلَ غُسلاً مجزئًا، فهل يقول هذا الذكر؟

 سبق الحديث عنه في مسائل الوُضوء، وما جرى فيه مِن خلافٍ بين العلماء.

 

 

الثالث عشر/ لا يستحب الوُضوء بعد الغُسل: لقول عائشة رضي الله عنها كما في سنن الترمذي وأبي داود: ” أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُسْلِ “

وظاهِرُه أن هذا الوُضوءَ ممنوعٌ منه، سواءٌ كان غُسلاً كاملاً أم غُسلاً مجزئًا،

 فأما الغُسل الكامل: فظاهرٌ عدمُ الاستحباب،

 وأما الغُسل المُجزئ: فلأن الحدثَ الأصغر يدخُلُ تحت الحدثِ الأكبر.

 

الرابع عشر/ أن النبي ﷺ كما جاء عند ابن ماجه وغيره، كان يستدفئ بعائشة رضي الله عنها –:

” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ يَسْتَدْفِئُ بِي قَبْلَ أَنْ أَغْتَسِلَ ” وأيضا: “عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: رُبَّمَا اغْتَسَلَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ جَاءَ فَاسْتَدْفَأَ بِي، فَضَمَمْتُهُ إِلَيَّ، وَلَمْ أَغْتَسِلْ “

وهذا الضَم مِن غيرِ حائل، وذلك ليستدفئ مِن رطوبةِ الماء بِجِسْمِ عائشةَ رضي الله عنها.

 

الخامس عشر / أن ميمونة -رضي الله عنها- أتت له بالمَنديل فَرَدَّهُ، وَجَعَلَ ينفُضُ الماءَ بيدِهِ ﷺ،

 وسبق الحديثُ عن التمندُل في الوضوء؛ يعني: في تنشيفِ أعضاءِ الوُضوء.

 

السادس عشر/أن بعضَ العلماء قال: يستحبُّ لمن أراد جِماعَ زوجتِه أن يتطيّب: لأن النبي ﷺ تطيّبَ ثم طاف على نسائه ثم اغتسل ودخَلَ في إحرامه.

 فهذا ما استُحضِرَ مما وَرَدَ عن النبي ﷺ في صفةِ الغُسل.