الدرس ( 58 ) باب التيمم ( 3 ) ( هل يجوز التيمم للجنب ـ إن وجد ما يكفي بعض طهره استعمله ثم تيمم )

الدرس ( 58 ) باب التيمم ( 3 ) ( هل يجوز التيمم للجنب ـ إن وجد ما يكفي بعض طهره استعمله ثم تيمم )

مشاهدات: 497

بسم الله الرحمن الرحيم

باب التيمم – الدرس الثامن والخمسون- من الفقه الموسع

لفضيلة الشيخ/ زيد البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مسألة/ [يجمعُ الجنبُ بين ما يمكنُه مِن غَسْلِ جِسْمِه وكذا الوُضوء مع التيممِ عن باقي الجسم]

الشرح/ هذه المسألة قبل أن ندخلَ في هذا الفرع مِن تيممِ الجنب، نذكر اختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- في جواز التيمم للجنب:

فبعضُ الصحابة -رضي الله عنهم- لا يرى أن التيممَ جائزٌ للجنب، بل عليه أن يبقى حتى يجِدَ الماء وهو قولُ: عمرَ بنِ الخطاب، وعبد الله بن مسعود – رضي الله عنهم-

وقولُ عمر -رضي الله عنه-: ما جاء في صحيح البخاري ومسلم:

” أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ، فسأله عن تيمم الجنب إذا لم يجد الماء؟ فقال رضي الله عنه: لا يتيمم،

 فقال عمّار رضي الله عنه: أما تذكُرُ يا أميرَ المؤمنين إذ كنتُ معك في سَرِيّة فأجنبنا، فأما أنا فتمرغتُ في الصعيد كما تتمرغُ الدابة، فأتيتُ إلى النبي ﷺ فأخبرتُه، فقال:

” إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الْأَرْضَ، ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ “

وقال: ” إِنْ شِئْتَ ألا أتحدثَ به، ما تحدثتُ به ” فقال عمر رضي الله عنه -كما في رواية مسلم-

 ” نُوِلِّيكَ ما تَوَلّيت “.

 

وأما قولُ ابنِ مسعودٍ -رضي الله عنه-: فقد جاء في صحيح البخاري أنه قال:

أخشى إذا مَسّه بَرْدٌ تَرَكَ الماءَ وتيممَ، فقال أبو موسى رضي الله عنه: وماذا تقولُ في حديثِ عمّار؟

 فقال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: أوما سمِعتَ أن عمرَ رضي الله عنه لم يُقِرَّه!

فقال أبو موسى رضي الله عنه: دعكَ مِن حديث عمّار، ماذا تقول في قولِه عز وجل:

{ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا } فما يدري ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه ماذا يقول.

 

وأما القولُ الثاني/ فهو القائلُ بأن الجنبَ له أن يتيمم، ويُستدَلُّ على ذلك بأدلّة منها:

الدليلُ الأول: حديثُ عمّار -السابق- الذي أرشَدَه النبي ﷺ بالإرشاد القولي صورةَ التيممِ للجُنُب،

 وجاء في إحدى الروايات: أنه عليه الصلاة والسلام أرشَدَه بالإرشادِ الفِعلِيّ في صورةِ التيممِ للجُنُب.

 

الدليل الثاني: إقرار النبي ﷺ لعمرو بن العاص في تيممِه عن الجنابة.

 

الدليل الثالث: عموم قولِه تعالى في آية المائدة – وهي تسمى بآية الوضوء، وتسمى بآية التيمم – قوله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا }

وهذا عام في عادِمِ الماء للطهارَتين، ولذا قال تعالى في هذه الآية:

{وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ} وهذا هو سببُ الحَدَث الأصغر، ثم قال:

 {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وهذا هو سبب الحدثِ الأكبر – على الصحيحِ مِن قولَي العلماء كما سبق في درس سابق – {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}

الدليل الرابع: أن التيممَ بَدَلٌ عن الماء، والماء تحصُلُ به الطهارةُ مِن الحَدَثِ الأكبر، فكذلك التراب تحصُلُ به الطهارةُ من الحدث الأكبر، لأن البدل يأخذ حكم المُبْدَلِ منه،

وأما قولُ عمرَ وابنِ مسعود رضي الله عنهم: فالحُجَّةُ في قولِ الشارع، ومع جلالةِ قدرِهما -رضي الله عنهما- فلا يُعارِضُ قولُهما قولَ النبي ﷺ ولذا قال ابنُ عباس -رضي الله عنهما – في مقولَتِه الشهيرة:

“يوشِكُ أن تنزِلَ عليكم حجارةٌ من السماء، أقول لكم قال: قال رسولُ الله ﷺ وتقولون قال أبو بكرٍ وعمر”

 

ثم إن الشُّرَّاحَ لأحاديث التيمم ( المباركفوري وصاحب عون المعبود ) ذكروا أن عمرَ وابنَ مسعودٍ قد عدَلا عن هذا القول إلى قولِ بقيّةِ الصحابة،

وبهذا يكونُ التيممُ عن الجنابةِ مَحَلَّ وِفاق بين صحابةِ النبيِّ ﷺ،

 فتكون هذه المسألةُ التي نحن بصدد الحديثِ عنها فَرْعٌ عن المسألةِ الكبرى وهي:

 مسألةُ التيممِ عن الجنابة، فالمُثبِتُ للتيممِ عن الجنابة يُثبتُ هذه المسألة، والنافي للتيممِ عن الجنابة لا تطرأُ هذه المسألةُ عندهم،

 وقد سبق القولُ بأن هذَين الصحابيين قد رَجَعا عن قولِهما رضي الله عنهما،

أما مسألتُنا هذه فأصلُها هو حديثُ عمرو بن العاص -رضي الله عنه- فقد جاء في إحدى الروايات:

 أنه رضي الله عنه: توضأ وغَسَل مغابِنَه وتيمم؛ قال ابنُ حجر رحمه الله:

 فهذا يدلُّ على أنه غسَلَ ما أمْكَنَه غَسْلَه مِن جِسمِه وتيممَ عن الباقي،

 ومِن ثَم/ فإن هذه الروايةَ تقتضي بأن المسلمَ عليه أن يتقيَ اللهَ عز وجل ما استطاع، قال تعالى:

 {فاتقوا اللهَ ما استطعتُم} وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}

وقال تعالى: { لا تُكلفُ نفسٌ إلا وُسعَها}

وقال النبي ﷺ: ” إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ “

فمن استطاع أن يغسلَ شيئا مِن بدنه فيجبُ عليه أن يفعل ذلك.

 

 أما حديثُ عمار في صفة التيمم عن الجنب: فهذا في حقِّ مِن انعَدَمَ عنده الماء، أو مَن خَشيَ مِن ضَرَرٍ يلحقُه ببدنه لو استعملَ الماءَ ولو في جُزءٍ مِن بَدَنِه، فمقتضى هذه الرواية:

 أنه يجبُ أن يتوضأ وأن يغسلَ ما استطاع من بدنه ويتيمم عن الباقي.

 

وكان عمارُ رضي الله عنه قد توهّم أن التيممَ كالماء على حدٍّ سواء، ولذلك تمرّغَ كما تتمرغُ الدابةُ حتى يُعَمِّمَ بدنَه بالتراب، وهذا يدلُّ على أن البَدَلَ يأخُذُ حكمَ المُبْدَلِ منه، فالنبي ﷺ لم ينكر عليه هذا الاعتقاد وإنما أنكر عليه هذا الصنيع، فيكونُ البدل كالمُبدَلِ منه إلا ما استُثني،

  وقد قال ابنُ القيم رحمه الله: إن الترابَ ولو كان يُلَوِّثُ هذين العضوين حِسّا فإن به الطهارةَ معنى، فالمقصودُ من التيمم: التطهيرُ معنًى لا حِسًّا، ولذا لو كان المقصودُ التطهيرَ حِسًّا لأقرَّ النبي ﷺ عمارا على فِعله.
ومِن ثَم فحديثُ عمّار يدلُّ على/ أن صفةَ التيممِ واحدة لمن حَدَثُه حدثا أكبر أو حدثا أصغر:

 وذلك بأن يضرِبَ الأرضَ ويمسحَ كفيه ووجهَه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

مسألة / [ إن وَجَد ما يكفي بعضَ طُهرِه استعمَلَه ثم تيمم]

الشرح/ صورة هذه المسألة:

أن يكونَ هناك ماءٌ قليل لا يكفي لِغَسْلِ جميعِ أعضاءِ الوُضوء، فإذا كان هذا الماءُ يكفي مثلا لِغَسْلِ وجهِه ويدَيه فإنه يغسِلُهما ويتيممُ عن الباقي، والدليل على هذا:

قال عز وجل: {فاتقوا اللهَ ما استطعتُم}

وقال عليه الصلاة والسلام: ” إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ “

وما شابه ذلك مِن نصوص تأمُرُ بالإتيان بالواجب على قدر المستطاع،

ولكن يجِبُ عليه والحالةُ هذه: أن يُقَدِّمَ غَسْلَ هذَين العضوَين ثم يتيمم لِيَصدُقَ عليه قوله تعالى:

{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}

فإنه لو تيمم أولا ثم غَسَل بهذا الماء بعضَ أعضاءِ وضوئه: فإن هذه الطهارةَ لا تصح،

 فالواجبُ عليه: أن يقدمَ طهارةَ الماء، فإذا نَفَذَ الماءُ يتيممُ عن الباقي.

 

هذه المسألة جُمِعَ فيها بين طهارةِ الماء وطهارةِ التراب، ومِن ثَم:

 فإن العلماءَ قد اختلفوا في هذه المسألة:

(فإن العلماء اختلفوا في حقِّ مَن وَجَدَ بعضَ ما يكفي طُهرَهُ)

فالقول الأولُ هو ما ذُكِر: من أنه يغسِلُ أعضاءه بهذا الماء، وما بقيت مِن أعضاء فيتيمم عنها، لأن هذا الأمْرَ هو قدرتُه، وقد قال عز وجل: {فاتقوا اللهَ ما استطعتُم}

وقال النبي ﷺ: ” إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ “

 

القول الثاني: قال بعضُ العلماء (إن في هذه الصورةِ المذكورةِ مِن أصحابِ القول الأول جَمْعًا بين المتضادين، فكيف يُجمَعُ بين طهارةِ الماء وطهارةِ التراب) ومِن ثَم قالوا:

 إنه يغسِلُ أعضاءه بهذا الماء، وما بَقِيَ فلا يُتيممُ عنه.

 

القول الثالث: كما قال أصحابُ القولِ الثاني – لكن يفترقون عنهم – فيقولون:

(إن كان هذا الماء يكفي لنصفِ الأعضاء فأكثر: فيتوضأ، وإن كان يكفي لأقل من النصف: فيتيمم)

وعِلّةُ هذا القول: هي علةُ القولِ الثاني.

 

ولكن الراجح هو القول الأول: لأنه ليس هناك جمْعٌ بين المتضادين، وذلك لأن الأعضاء التي غُسِلَت بالماء ليست هي الأعضاء التي تُيُمِّمَ عنها؛ فإن التيمم واقِعٌ على أعضاء لم تتطهر بطهارة الماء،

 وأما قولُكم هذا: فتردُّه النصوصُ الشرعية، مِن بينها:

 حديثُ صاحبِ الشّجَة، فقد جاء في بعض الروايات: ” أن النبي ﷺ أرشدَهم إلى أن يكونَ حالُ هذا الرجل بأن يعصِبَ رأسَه ويمسحَ عليها ويتيمم، ويغسِلَ سائرَ جسده ” هذا على القول بصحة هذه الرواية،

وهناك نصٌّ آخَر – وهو نصٌّ صحيح – وهي: قصةُ عمرو بنِ العاص فإنه رضي الله عنه توضأ وغَسَل مَرافِغَه، وتيممَ عن الباقي، فدل على جوازِ هذا الأمر.