بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثامن والسبعون من الفقه الموسع
لفضيلة الشيخ زيد البحري
باب الأذان والإقامة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[والأذانُ يعد مانعا للإنسان الماكثِ في المسجد أن يَخرُجَ منه إلا لعذر]
فيحرُم عليه أن يخرج من غير عذر حسي او شرعي.
فإن كان لديه عذر حِسي: كمن يريدَ قضاءَ حاجة،
أو لديه عذر شرعي كوضوء ونحوه، فيجوز له الخروج.
وأما إذا خرج بلا عذر ولم يرد الرجوع: فإنه آثِم، لقولِ أبي هريرة رضي الله عنه كما عند مسلم، لما رأى رجلاً قد خرَجَ بعد الأذان: ” أَمَّا هذا فقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ “(3)
وقال ﷺ كما عند ابن ماجه: ” مَن أدرَكَه الأذانَ في المَسجِدِ ثم خَرَجَ لم يَخرُجْ لحاجةٍ، ولا يُريدُ الرَّجْعةَ، فهو مُنافِقٌ ” (4)
فالخروجُ من غير عذر مدعاةٌ إلى أن يتخلف عن صلاة الجماعة، والتخلفُ عن صلاة الجماعة مِن سماتِ المنافقين،
إلا إذا كان يريد ان يصلي في مسجد آخَر لاسيما مع فضْل إمامه: فهذا يجوز، لأنه يريد الأفضل
وهنا يقول الإمام أحمد، ويؤيده شيخ الإسلام: أن الراغب في الخروج من المسجد لعذر عليه ان يتأنّى حتى يمضيَ شيءٌ من الأذان، حتى لا يتشبه بالشيطان، فإن الشيطان كما سبق من حين ما يسمع النداء يُدبرُ وله ظراط، فيقول رحمه الله: يبقى يسيرا حتى لا يتشبه بالشيطان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويستحبُّ في الوقت الذي يكونُ بين الأذان والاقامة أن يستغلَّه في الدعاء:
لما جاء في المسند وغيره: ” الدُّعاءُ بينَ الأَذانِ والإقامةِ لا يُردُّ “
ولقوله ﷺ كما مر: ” قُلْ كما يقولونَ، فإذا انتهَيتَ فسَلْ تُعْطَه “
وقد جاء بيان ما يقولُه، قال النبي ﷺ:
” فَسلُوا اللَّهَ العافِيَةَ في الدنيا والآخرة ” وهذا الجملةُ فيها مَقالٌ بين المُحدثين
والدعاءُ بالعافية حَثَّ عليه النبيُّ ﷺ في أحاديثَ مُطلَقَة، ولذا لما جاءه عمُّه العباسُ يسألُه قال:
” سلِ اللهَ العافية ” فأتاه أخرى فقال: ” سلِ اللهَ العافية “
عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ : ” سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ “، فَمَكَثْتُ أَيَّامًا، ثُمَّ جِئْتُ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ، فَقَالَ لِي : ” يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ، سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ “.
قال النبي ﷺ: ” فما أُوتِيَ أحدٌ بعْدَ اليَقينِ خَيرًا مِن العافيةِ “
فهذا الوقتُ مِن الأوقات التي يُستجاب فيها الدعاء، لصريح عبارته ﷺ:
” الدُّعاءُ بينَ الأَذانِ والإقامةِ لا يُردُّ “
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والسُّنَّةُ أن يصليَ ركعتين بين كلِّ أذانٍ وإقامة، ولو لم تكن هناك سُنَّةٌ قَبْليّة:
لما في الصحيحين:
“بيْنَ كُلِّ أذانَيْنِ صَلاةٌ، بيْنَ كُلِّ أذانَيْنِ صَلاةٌ، بيْنَ كُلِّ أذانَيْنِ صَلاةٌ ” ثُمَّ قالَ في الثَّالِثَةِ: ” لِمَن شاءَ “(4)
وقد جاء في حديث بريدة: يَستثنى المغربَ، ولفْظُه: ” بينَ كلِّ أذانينِ صلاةٌ ما خلا المغربِ “
وقد ضعّف هذه الزيادة ابنُ حجر في التلخيص، قال البيهقي: ويُبطِلُها قول النبي ﷺ عند البخاري:
” صَلُّوا قَبْلَ صَلَاةِ المَغْرِبِ ” قال في الثالثة: ” لِمَن شاءَ “.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإذا سمِعَ المسلمُ الإقامةَ فلا يَعجَل، فإن مِن آدابِ المشي إلى المسجد الوقارَ والسكينة:
وسياتي حديثٌ مفصلٌ فيه عن آدابِ المشي إلى المسجد بإذن الله تعالى.
لقول النبي ﷺ كما في الصحيحين: ” إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فلا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وأْتُوهَا تَمْشُونَ، عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَما أدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وما فَاتَكُمْ فأتِمُّوا “
وقال ﷺ: ” إِذَا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَلَا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا ” (1)
ومن جملة هذه الأشياء: ألا يُكثِرَ الالتفات، ولذا جاء في مستدْرَك الحاكم:
” أن النبي ﷺ كان إذا مشى لا يلتفت ” وصح عنه ﷺ أنه إذا مشى كأنما ينحط مِن صَبَب ” لكنها سُرعَةٌ غيرُ مُفرِطَة، ولذا صح عنه ﷺ ” أنه إذا مشى أقلع كأنه يتوكأ “
فالسكينةُ والوقار مَطلَبٌ للمسلم في كلِّ أحيانه، إلا إذا كانت هناك مصلحةٌ تفوقُ هذه المصلحة، لِمَا جاء في صحيح البخاري: أن النبي ﷺ صلى بالصحابة ذات يوم العصر فلما انصرف قام مسرعا فتعجب الصحابة فأخبرهم فقال:
” ذَكَرْتُ وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ تِبْرًا عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يُمْسِيَ أَوْ يَبِيتَ عِنْدَنَا فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ “
أي: أن يُشغِلَه، فأراد ان يتصدقَ به، فهذا من باب المسارعة الى الخيرات، ومن باب تخليصِ الذهن من الصوارِف والشواغل؛ ثم إن هذه السرعةَ لا تُنافي الوقارَ والسكينة، لكنها سُرعةٌ غيرُ معتادةٍ منه ﷺ ولذا عجِبَ أصحابُه رضي اللهُ عنهم.
ـــــــــــــــــــــــ
فقوله ﷺ: ” إِذَا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَةَ ” يدل على أن الإقامةَ قد تُسمَعُ خارِجَ المسجد، ولذا ما يُشَدِّد فيه البعض في هذا العصر، بل قد يُوصِل الأمرَ إلى التبديع إذا أُقيمَت الصلاة بأجهزة مكبرات الصوت!
ليس بحسن أن يُسارَعَ في تبديعِ الناس، فدل على أن الإقامة تُسمَع، يُرفَع بها الصوت، وإلا لما قال النبي ﷺ ” إِذَا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَةَ ” لأنه لو كان قريبا من المسجد لما احتاج إلى الإسراع، فدل على أن الإسراعَ إنما يكون لمن بَعُدَ، وقد كان ابنُ عمر رضي الله عنهما يُقَدَّم له العَشاء فيتعشّى وهو يسمعُ الإمام، ومُرادي مِن هذا: ألا يُبالَغ في هذا الأمْر، وألا يسارَع في إطلاق الأحكام التي هي مَحلُّ اجتهاد.
ـــــــــــــــــــــــ
ثُم إن السكينةَ والوقار ليست محصورةً في المأموم بل حتى في الإمام:
وذلك أن الإمام قد يتأخر، فيُسرِعُ مِن أجلِ أن يصلي بالناس، مع أنه لم يسمع الإقامة، وهذا يدخل تحت عموم قول النبي ﷺ
” إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وائْتُوهَا تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ “
فسواءٌ كان هذا الإتيانُ بسكينة ووقار عند الإقامة أو قبلَها، فالحكمُ سواء.
وقد بين النبي ﷺ كما عند مسلم، فقال: ” فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلاَةِ فَهُوَ فِي صَلاَةٍ “
فمِن حين خروج المسلمِ مِن بيته فهو في صلاة، حتى لو فاتته الصلاةُ كلُّها،
لأنه قد يُستدل بحديث النبي ﷺ على أن الإنسان مُطالَبٌ بالتأنّي في المشي إذا كان سيُدرِكُ ولو جزءا يسيرا من الصلاة، لكن ما جاء في مسند الإمام أحمد يدل على أن السكينة والوقار مطلوبان ولو فاتت المسلمَ كلُّ الصلاة، قال النبي ﷺ:
” مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوؤهُ ثُمَّ رَاحَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا أَعْطَاهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلاَّهَا وَحَضَرَهَا لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَجْرِهِمْ شَيْئًا “
وكما أسلفتُ: فالحديثُ عن آدابِ المشي إلى الصلاة له بابٌ مستقلٌ بإذن الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والإقامة / هل يتابع فيها؟
ورد حديثُ أبي أمامةَ في سنن أبي داود، كحديثِ عمر في متابعة المؤذن، إلّا أنه يقال عند جملة:
قد قامت الصلاة: ” أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا “، ولكنه حديث ضعيف، ومِن ثَم: فلا يقال
والعجيب أن البعض يستدل بقول النبي ﷺ كما في الصحيحين ( بين كل أذانين صلاة ) يستدل بهذا الحديث أن هناك متابعةً للمؤذن في الإقامة! وأعظمُ من ذلك أن يَستدلَّ به على أنه يقولُ الأذكارَ بعد الفراغِ مِن الإقامة كما يقولُ بعد الفراغِ من الأذان! وهذا مردود، لِمَا يأتي:
فمِثلُ هذا الاستحسان غيرُ حَسن، ولو كان كذلك لما احتِيج إلى أن يُقال أن حديث أبي أمامةَ ضعيف، والواجبُ الوقوفُ على النص
وبعضُ الناس ياتي بزيادات فيقول قبل الصلاة!
( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض حنيفا ) ( اللهم اجعل لنا منها حظًّا ونصيبا ) أو نحوَ ذلك مِن هذه الألفاظ، فالواجبُ على طلابِ العلم أن يُبينُوا، والواجب على المسلمين أن يمتثلوا.
(3) ــ أخرجه مسلم، في كتاب المساجد،باب النهي عن الخروج من المسجد إذا أذن المؤذن، برقم 655.
(4) ــ سنن ابن ماجه باب إذا أذن وأنت في المسجد فلا تخرج رقم /734، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه رقم /734، وفي الروض النضير (1074)، الصحيحة (2518)
(4) ــ متفق عليه
(1) ــ متفق عليه البخاري بَاب لَا يَسْعَى إِلَى الصَّلَاةِ وَلْيَأْتِ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ برقم /636، ومسلم باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة برقم /602