بسم الله الرحمن الرحيم
الفقه الموسع – الدرس السادس عشر
فضيلة الشيخ زيد البحري
[ آداب الخلاء ]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
آداب الخلاء: ويطلق عليه بعض العلماء بآداب الاستطابة، أو باب الاستطابة،
ويطلق عليه البعض [ باب التخلي]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأولى مسائل هذا الباب:
مسألة/ [يستحب عند الدخول تقديم الرجل اليسرى ويقول: ” بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث “
وعند الخروج يقدم اليمنى ويقول: “غفرانك “]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح/ فقولنا: [ يستحب عند الدخول تقديمُ الرجلِ اليُسرى ]:
لما ورد في المسند عن حفصة رضي الله عنها قالت: أن النبي ﷺ:
” َكَانَ يَجْعَلُ يَمِينَهُ لِأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَوُضُوئِهِ وَثِيَابِهِ وَأَخْذِهِ وَعَطَائِهِ، وَيَجْعَلُ شِمَالَهُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ “
ولقول عائشة رضي الله عنها:
(( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وفي طهوره وفي شأنه كله ))
فمن هذين الحديثين وغيرهما استوحى العلماء قاعدة وهي:
[ أن ما كان من باب التكريم فتُقدم فيه اليُمنى، وما سوى ذلك فتقدم فيه اليسرى سواء كانت يدا أم رجلا ]
ولذا/ ندب عليه الصلاة والسلام في النعلين أن تُلبس اليمنى ابتداءً، وأن تُخلع انتهاءً، وذلك لأن لُبس النعال تكريم، ولذا قال عليه الصلاة والسلام:
” اسْتَكْثِرُوا مِنَ النِّعَالِ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ ” رواه مسلم، وعلى هذا فقس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويستحب أن يقول ( بسم الله )
لما جاء في سنن الترمذي وغيره قال:
” ” سِتْرُ مَا بَيْنَ الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إِذَا دَخَلَ الْكَنِيفَ أَنْ يَقُولَ: بِاسْمِ اللَّهِ “
فالبسملة حجابٌ وسِتار بين عورتك وبين الجن
والمراد في هذا الذكر ما كان قبل الدخول
ولذا:
كان عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين إذا دخل الخلاء قال:
( ( أعوذ بالله من الخبث والخبائث ) )
فظاهر هذا الحديث: أن هذا الذكر يقال وهو داخل في الخلاء وليس هذا هو المراد
وإنما المراد: إذا أراد أن يدخل الخلاء
ونظيرُ هذا قوله تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
يعني إذا أردت أن تقرأ، وليس المراد أن تقال الاستعاذة بعد الفراغ من القراءة
وقد جاء في الأدب المفرد عند البخاري التصريحُ بهذا:
(( كان إذا أراد الخلاء ))
وهذا التصريح يفيدنا فائدة:
وهو أن هذا الذكر يقال لمن أراد أن يقضي حاجته ولو في الفضاء فيستحب له أن يقول:
(( أعوذ بالله من الخبث والخبائث ))
وورد في رواية أخرى: (( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ))
فينبغي للمسلم: أن ينوع، مرةً يقول هذا ومرة يقول هذا
فصيغة ” أعوذ بالله من الخبث والخبائث ” صيغة خبرية كما هو مقرر في البلاغة،
أما صيغة: “اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ” فصيغة إنشائية نوعها: دعاء
ومعنى: ” اللهم “
يعني: يالله فحذف حرف النداء ( الياء ) وعُوِّضَ عنه ( بالميم ) وجُعلت هذه ( الميم ) في آخِر المُنادى وهو لفظُ الجلالة ولم تُجعَل في أوَّلِه تيمُّنًا وتبرُّكًا بتقديم اسمه جل وعلا
وإنما كانت ( ميما ) ولم تكن حرفا آخَر: لأن ( الميم ) تُضم بها الشفتان، والضم والجمع مناسب للدعاء فيجتمع الضمُّ والجمع على دعائه في قلبه وفي جوارحه
( وأعوذ بالله ): أي أعتصم وألتجئ بالله
(من الخُبْث ): ويصح (من الخُبُث) فالأولى بتسكين الباء، والثانية بضم الباء.
قال الخطابي في معالم السنن:
( أكثر روايات الشيوخ بتسكين ( الباء )
وفرقٌ بين التسكين والضم في المعنى، فإذا قلت:
( أعوذ بالله من الخبْث ) بتسكين ( الباء ) فيكون معناها: الشر
ويكون معنى (الخبائث ) أهل الشر، من شياطين الجن .
وإذا قلت: من ( الخبُث ) بضم ( الباء ) فيكون معنى ( الخبُث ) ذُكران الشياطين،
ويكون معنى ( الخبائث ) إناث الشياطين .
والتسكينُ أعم وأشمل:
لأن فيه استعاذةً بالله عز وجل من الشر وأهله،
وأما الضم: ففيه استعاذةٌ بالله عز وجل من الشياطين ذَكَرِهم وأنثاهُم
ولو نوّع الإنسان لكان حسنا.
وقد جاءت أذكار لكنها ضعيفة، مثل:
( اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم الرجس النجس الخبيث المُخْبِث )
ومن الأحاديث غير الصحيحة جاء قول: ( يا ذا الجلال )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويسن عند الخروج:
أن يقدم رجله اليمنى بناء على القاعدة السابقة، فإنه في مكان قذر والخروج منه تكريمٌ وتشريف، فاستحقت اليمنى التقديم تكريما لها
ويتسحب أن يقول بعد خروجه ( غفرانك ) بالنصب:
وهو منصوب على المصدرية لفعل محذوف تقديره ( اغفر )
ويصح أن يكون منصوبا على المفعولية لفعل محذوف تقديره ( أسألك غفرانك )
والمغفرة هي / سِتْرُ الذنب
ومناسبة ذكر هذا الذكر بعد الخروج من الخلاء -مع أنه لم يقترف ذنبا فيستغفرُ منه-
مناسبته كما قال بعض العلماء:
[( انحباسه عن ذِكر الله عز وجل في هذا الخلاء ) ]
فَعَدّه نوعا مِن الذنب أو شبيها به
وقد استدلوا على ذلك بقول: ” حسنات الأبرار سيئات المقربين “
فإن المُقَرّب يرى أن حسنة البار ليست بشيء، بل هي في مقام السيئة، وذلك لأن نفوس المقربين قد علت إلى درجة كبرى فتستصغر الطاعة بل تعدها نوعا من الذنب .
وقد ذُكِرَ هذا الحديث على أنه حديث مرفوع، وليس كذلك فلا يصح مرفوعا بل في نظري أن في معناه خللاً إذ كيف تكون الحسنةُ سيئة!
ولذا: فإن هذا التوجيه أو هذه المناسبة ضعيفة
والصحيح: ما ذكر ابن القيم رحمه الله من أن المناسبة هي:
( ذِكْرُ الشيءِ بالشيء )
فإن هذا الرجلَ لما خَرَجَ مِن الخلاء وكان مُثقلا بالأذى فخفف اللهُ عنه، تَذَكّر الحِمْلَ الأعظم والثقلَ الأكبر وهو حِمْلُ وثِقْلُ الذنوب، فسأل ربَّه عز وجل كما أزال عنه هذا الأذى أن يزيل عنه الأذى الأعظم.
وقاعدتنا المعروفة:
( أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم هو أعلى المناسبات )
ونستروح بهذه المناسبات التي ذكرها العلماء.
وقد ورد حديث عند ابن ماجه:
حديث فيه ذِكر الخروج من الخلاء وهو:
” الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني “
وهذا يحسنه الحافظ ابن حجر رحمه الله، ويُضعفه آخرون كالنووي والألباني رحمهما الله
ومن ثم: لو قيل تارة وتُرِكَ لكان حسنا.
وقد جاءت أذكار أخرى لكن فيها ما فيها، مثل:
” الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فيه قوته وأذهب عني أذاه “
وجاء حديث حكم عليه الألباني بالوضع:
” الحمد لله الذي أحسن إليّ في أوله وفي آخره “
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومثل هذه الأذكار وإن كانت في حكم المستحب إلا أن المسلمَ لا ينبغي له أن يغفل أو يتغافل عنها، سواء كانت أذكار آداب الخلاء أو غيرها
ولذا/ قال بعض العلماء:
[ من لهج لسانه بذكر الله عز وجل في كل موضِع سَنَّهُ الدين، فيكونُ من الذاكرين الله كثيرا ]
ومُرادُهم أنه مثلا: إذا أراد دخول البيت أن يقول الذكر الوارد وعند الخروج من البيت، وعند دخول المسجد عند الخروج منه، عند السفر، أثناء السفر، عند الجماع، ونحو ذلك.
وقد استحب بعض العلماء:
حالَ قضاء الحاجة أن يعتمد على رجله اليسرى وأن ينصب اليمنى، واستندوا في هذا على حديث
مِن فِعله عليه الصلاة والسلام، لكنه حديث ضعيف، والضعيفُ لا تقوم به حُجّة؛
لكن لو عُمِلَ بهذه الصفة لا لأنه سُنّة واردة منه عليه الصلاة والسلام وإنما لأجل ما ذَكَره العلماء والأطباء فلا بأس بذلك، واستَحِبُّ ألّا يستمرَّ عليها.
وقد استنبط بعض العلماء:
بناءً على صحة الحديث عنده؛ قد استنبط أن هذا الفعل تكريما للرجل اليمنى وذلك أن تنصب فترتفع عن موضع الخلاء، ويكون الاعتماد على الرِّجل اليسرى.
أما علة الأطباء: فقد ذكروا أن اعتماد الإنسان على الجهة اليسرى أسرعُ في خروجِ الفضلات،
والعلم عند الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سؤال/ الحديث الوارد عند ابن ماجه:
” الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني “
هذا الحديث قلنا إن ابن حجر رحمه الله يحسنه والنووي والألباني رحمهما الله يضعفانه، فلماذا حكمنا عليه بأن الإنسان لو قاله تارة وتركه تارة أخرى لكان حسنا؟
الجواب/ الحديث يُعرَف أنه صحيح:
ـــ إما بوجوده في كتب علماء تلتزم الصحة كالبخاري ومسلم
ـــ أو بالبحث والنظر في الأسانيد
ـــ أو بتنصيص عالمٍ يُعَدُّ إمامًا في هذا الفن
فلما تعارض قول أئمة في هذا الفن قلنا: يترُكُه أحيانا على افتراض أنه ضعيف، ويفعله أحيانا بناء على أن الحديث صحيح أو حسن مقبول عند البعض،
وهذا يذكر له العلماء نظائر:
مثلُ: رفع اليدين في الدعاء ثم مَسْحُ الوجه بهما، وردت في أحاديث
قال بعض العلماء: إنها أحاديث ضعيفة، ومن ثم لا يمسح وجهه.
وقال بعض العلماء: لا، هو حديث حسن له طرق، كابن حجر رحمه الله في البلوغ يرى أنه حسن، ويقول: قد وهم من زعم أنه مضطرب؛ فالحديث عنده حسن وعند غيره أنه ضعيف.
ولذا/ يقول العلماء: لو أنه فعل المسح أحيانا فلا بأس من باب الجمع بين القولين في ثبوت هذا الحديث من ضعفه.
ولذا/ عند بعض العلماء أن الحديث إذا كان فيه ضعف، لكن هذا الضعف ليس بقوي: فيُنظر هل هو في جانب الأمر أم في جانب النهي؟ فيُجعَل في منزلة بين منزلتين
فإن كان في جانب الأمر:
فيكون الحكم فيه الاستحباب
وإن كان في جانب النهي:
فيكون الحكم فيه الكراهة
ولا شك أن تعارض قولين لإمامين في هذا الفن يجعل الحديث ليس ضعيفا بتلك الدرجة، بناءً على القول بأنه ضعيف.