الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
ثم ذكر رحمه الله :
كيف كانت معرفة النبي صلى الله عليه وسلم أصلا من هذه الأصول الثلاثة ؟
لأن الأصل الأول والأصل الثاني لا يمكن أن يُعرفا إلا عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه الواسطة بيننا وبين الله عز وجل ، فلما كان الواسطة بيننا وبين الله في معرفة الله – سبحانه وتعالى – ومعرفة أسمائه وصفاته وما له من الصفات والأسماء، وكذلك الدين متوقفٌ فهمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم صار في معرفته عليه الصلاة والسلام أصل من الأصول الثلاثة .
قال رحمه الله مبينا نسبه :
( وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ، وهاشم من قريش ، وقريش من العرب ، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل ، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام )
وهذا النسب ذُكِر من أجل أن يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم من أرفع الناس نسبا ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لما ذكر نسبه قال ( فأنا خيار من خيار ) وهذا يدل على أن العرب أفضل من العجم إذا استوت التقوى وإلا فالأصل كما قال تعالى { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } الحجرات13 ، لكن لو استووا فمن حيث فضل الله – سبحانه وتعالى – على العرب جعلهم أفضل من العجم .
( وقريش ) صفة لرجل اسمه ( النضر ) لأنه جَمَعَ قبائل قريش ، لما جمعهم ، يقولون كانوا ( متقرشين ) يعني اجتمعوا ، كانوا متفرقين فجمعهم ، قرشهم يعني جمعهم .
ثم قال رحمه الله :
( وله من العمر ثلاث وستون سنة )
ومن فضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ( أنهما توفيا وعمرهما ثلاث وستون سنة ) كرسول الله صلى الله عليه وسلم .
( منها أربعون قبل النبوة ، وثلاث وعشرون نبيا رسولا )
وهو عليه الصلاة والسلام أُمِّي لا يقرأ ولا يكتب عليه الصلاة والسلام ، وهذا العمر الذي قضاه صلى الله عليه وسلم في تعلم والوحي وفي تبليغه يدل على أن طالب العلم ينبغي له أن لا يستعجل في نتيجة وثمرة طلب العلم ، فهو يحتاج إلى طويل زمن ، لا يؤخذ في سنة ولا سنتين وإنما يؤخذ مع الليالي والأيام ، ولذلك القرآن ما نزل جملة واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما نزل مُفَرَّقا على حسب الوقائع والأحداث ، بل كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل سنة في رمضان .
ثم قال رحمه الله :
( نُبِّئ بـ { اقْرَأْ } وأُرسل بـ { الْمُدَّثِّرُ } وبلده مكة ، بعثه الله بالنذارة عن الشرك ، ويدعو إلى التوحيد ) .
يعني بداية كونه نبيا أن الله – سبحانه وتعالى – أرسل جبريل عليه السلام إليه وهو في الغار فقال له { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }العلق1، ( وأُرسل بـ { الْمُدَّثِّرُ } ) بداية الرسالة ، بداية الإنذار ، بداية تبليغ الدعوة متى ؟ حينما نزلت عليه سورة { الْمُدَّثِّرُ } .
( وبلده مكة ) ومكة من أفضل البلدان ، فدل هذا على فضله عليه الصلاة والسلام ، فكما أن له فضلا في النسب ، كذلك له فضل في محل الولادة .
( بعثه الله بالنذارة عن الشرك ، ويدعو إلى التوحيد )
( والدليل : ) على أن الله أرسله لينذر الناس ويحذرهم من الشرك ويدعوهم إلى التوحيد ( قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ{1} قُمْ فَأَنذِرْ{2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ{3} وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ{4} وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ{5} وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ{6} وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ{7} [ المدثر : 1- 7 ] ) .
ثم هو رحمه الله فسرها ، وهناك تفاسير أخرها لكنه رحمه الله اقتصر على الأشمل منها ، وإلا فقد فُسرت هذه السورة بتفاسير أخرى .
قال :( ومعنى { قُمْ فَأَنذِرْ } أي ( يُنذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد ).
وكلمة { قُمْ } تدل على كسل أم نشاط ؟ نشاط { قُمْ } ليس هذا الوقت وقت كسل وإنما وقت دعوة وتبليغ وتنذير .
( { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } أي ( عظمه بالتوحيد ) .
( { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} طهر أعمالك عن الشرك ) .
اختار رحمه الله تفسير مَنْ قال بأن الثياب هي الأعمال ، لأن الثوب هو العمل ويؤكده قوله تعالى { وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ } الأعراف26.
( { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } الرجز : الأصنام ، وهجرها تركها وأهلها والبراءة منها وأهلها ، أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد )
سبحان الله – هذا يدل على عِظم التوحيد إذ ظل عليه الصلاة والسلام عشر سنين يدعو إليه ، لم ؟ لأنه هو الأصل والأساس ، فإذا لم يكن لدى الإنسان أساس ولا أصل كيف يبني عليه فروعا ؟ ولذلك لا يستعجل الداعية حينما يدعو الناس إلى التوحيد .
قال: ( وبعد العشر عُرِج به إلى السماء ، وفرضت عليه الصلوات الخمس ، وصلى في مكة ثلاث سنين ، بعدها أمر بالهجرة إلى المدينة ) .
الصلاة لها فضلها ومع ذلك ما أتى الأمر بها إلا بعد عشر سنين ( وصلى في مكة سنين بعدها أُمر بالهجرة إلى المدينة ) متى فُرضت الصلاة على ما اختاره المؤلف وإلا فهناك أقوال أخرى ، لكن المشهور هو ما ذكره رحمه الله ، متى فرضت ؟ فرضت قبل الهجرة بثلاث سنين .
( والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام )
لو قال قائل : هناك بعض المسلمين في بلد الكفر فلماذا لم يهاجروا ؟ الهجرة تكون واجبة إذا لم يستطع المسلم أن يُظهر شعائر الدين ، أما إذا استطاع أن يظهرها فلا بأس بالبقاء ، ولكن الهجرة في حقه أفضل من البقاء ، لا شك في ذلك ، لكن إن استطاع أن يقيم شعائر الدين في بلد الكفر فلا بأس ببقائه ، لكن الأفضل أن يرحل وأن يهاجر عنها ، ولكن وللأسف في هذا العصر نجد أن هذه البلدان الكافرة تُسهل أمور العبادة لهؤلاء أكثر من البلدان الإسلامية ، فيقولون لو ذهبنا إلى البلدان الإسلامية لربما ضُيِّق علينا – سبحان الله – والله المستعان .
ثم قال رحمه الله :
( وهي باقية إلى أن تقول الساعة )
الهجرة باقية إلى أن تقوم الساعة ، وسيأتي دليل ذكره المصنف رحمه الله يدل على ذلك ، سيأتي بعد قليل سأبينه إن شاء الله تعالى .
( والدليل :) أي الدليل على أن الهجرة واجبة ( قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً{97} إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً{98} فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً{99} [ النساء : 97-99] ) .
بيَّن – سبحانه وتعالى – هنا أن هناك طائفة قد أسلمت في مكة ولم تهاجر ، فلما جاءتهم الملائكة تأخذ أرواحهم وبَّختهم على البقاء ، وقد توعدهم الله – سبحانه وتعالى – بجهنم ، واستثنى منهم مَنْ أسلم ولم يتمكن من الهجرة لعذر { لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } ما عندهم حيلة ولا قدرة على الانتقال { وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } عندهم حيلة لكنهم لا يستطيعون الطريق إلى المدينة { فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً } و { عَسَى } من الله عز وجل واجبة ، يعني تدل على أن مغفرة الله وعفو الله قد تحقق لهم ، وهذه الآية السابقة تدل في ظاهرها على أن مَنْ ترك الهجرة فهو كافر ، أليس كذلك ؟ ( بلى ) تدل على ذلك .
( وقوله تعالى ) وهو الدليل الثاني ( { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } العنكبوت56 ) .
هذه الآية تدل على أن مَنْ ترك الهجرة ليس بكافر ، وإنما ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب ، كيف ؟ اسمع إلى ما ذكره رحمه الله عن البغوي رحمه الله .
( قال البغوي رحمه الله : سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين في مكة لم يهاجروا ، ناداهم الله باسم الإيمان ) .
فدل على أنهم مؤمنون ، لكنهم ارتكبوا كبيرة من كبائر الذنوب ، إذ لو كانوا كافرين بتركهم للهجرة لما ناداهم بوصف الإيمان ، و أوضحت هذه الآية أن مَنْ ضُيِّق عليه في بلد فيجب عليه أن يذهب إلى بلد أخرى فأرض الله عز وجل واسعة ، لأنك ما خُلقت إلا للعبادة ، وما دُمت مخلوقاً للعبادة فلتعلم أن الله قد وسَّع عليك في كل شيء ، كما تكفَّل لك بالرزق أيضا تكفَّل لك بأن تكون الأرض واسعة الأطراف لك ، كما قال تعالى{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } النساء100 .
ثم قال رحمه الله :
( والدليل على الهجرة من السنة : قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التَّوبة ، ولا تنقطع التَّوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ) .
فإذا كانت التوبة لا تنقطع إلا بطلوع الشمس من مغربها فكذلك الهجرة لا تنقطع ، وهذا الدليل يدل على ما ذكره المصنف رحمه الله إذ قال كما مر معنا قال : ( وهي باقية إلى أن تقوم الساعة ) متى تقوم الساعة ؟ إذا طلعت الشمس من مغربها ، حينها { لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً }الأنعام158 .
ثم قال رحمه الله :
( فلما استقر في المدينة ، أُمر ببقية شرائع الإسلام : مثل الزكاة ، والصوم ، والحج ، والأذان ، والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وغير ذلك من شرائع الإسلام ، أخذ على هذا عشر سنين ) .
هذا يشير إلى أن الآيات المدنية تتحدث عن ماذا ؟ عن الشرائع ، والآيات المكية تتحدث عن العقائد ( فالشرائع مثل الزكاة ، والصوم ، والحج ، والأذان ، والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وغير ذلك من شرائع الإسلام ، أخذ على هذا عشر سنين )
أيهما أكثر في الدعوة ، دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد ، أم دعوته إلى الفروع في مكة؟ دعوته إلى التوحيد .
( وبعدها توفي ، صلاة الله وسلامه عليه ، ودينه باقِ وهذا دينه )
الإشارة هنا تعود إلى ماذا ؟ تعود إلى ما ذكره رحمه الله من الأصول الثلاثة وإلى فروعها ، ثم بيَّن صفة فيه عليه الصلاة والسلام دلَّت عليها آية سابقة وهي قوله تعالى { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } التوبة128 .
( لا خير إلا دلَّ الأمة عليه ، ولا شر إلا حذرها منه )
وأعظم هذا الخير ، قال رحمه الله :
( والخير الذي دلَّها عليه : التوحيد ، وجميع ما يُحبه الله ويرضاه )
( جميع ما يحبه الله ويرضاه ) تفسير لماذا ؟ تفسير لـ [ العبادة ] فالعبادة كما فسرها شيخ الإسلام رحمه الله [ اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ] .
( والشر الذي حذرها منه : الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه ، بعثه الله إلى الناس كافة ، وافترض طاعته على جميع الثقلين الجن والإنس ).
فائدة عابرة [ والفوائد كثيرة لكني أختصر لأن الوقت مخصص في هذه المدة ، وإلا هذه الرسالة تحتاج إلى كثير وقت ]
لماذا سمي الإنس والجن بالثقلين ؟ لأنها تمر معنا في كتاب الله عز وجل فأحببت أن أبيِّن ما سبب تسمية هذين الصنفين بالثقلين ؟
قيل : لأن لهما ثقلا في الأرض ، فلهما وزنها وقدرها ، ولذلك قال تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } الذاريات56 .
وقيل : لأنها أُثقِلا بالذنوب .
( والدليل ) على أن الله – سبحانه وتعالى – بعثه إلى الناس كافة ( قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } الأعراف158) .
وأكد ذلك بقوله { جَمِيعا } تأكيد لهذا العموم السابق .
( وكمَّل الله به الدين ، والدليل: قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } المائدة3 ) .
والكامل لا يزاد عليه ولا يُنقص منه ، فهو الاعتدال ، فمن انتقص من الدين شيئا فهذا مُعرض للوعيد ، ومن زاد في الدين شيئا فابتدع معرض للوعيد .
ثم مما يدل على فضل الإسلام أن الله – سبحانه وتعالى – قد رضيه لنا دينا ، فلماذا لا نراضاه لأنفسنا ؟!
ثم قال رحمه الله :
( والدليل على موته صلى الله عليه وسلم : قوله تعالى: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ{30} ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ{31} [ الزمر : 30 ، 31] ) .
لماذا ذكر الدليل على موته ؟
الجواب :ليرد على أولئك الذين يتوسلون ويستغيثون بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنهم يقولون : ما مات ، ولذا ندعوه ، نستغيث به ، لأنه حي ، ونقول : قد كذبتم ، فإن القرآن نص على موته صلى الله عليه وسلم ، فهو ميت جثماني ، من حيث البدن ميت ، لكن من حيث الحياة البرزخية فإن له حياة برزخية لا نعرف كنهها ولا طبيعتها ، لكنه من حيث البدن ميت ، وقد تواتر النقل على موته عليه الصلاة والسلام .