ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
( باب الآنية )
من عادة فقهاء الحنابلة إذا ذكروا أقسام المياه ذكروا باب الآنية ، لم ؟ لأن الماء سيال فيحتاج إلى ما يحويه ، والذي يحويه ويمنعه من الانتشار (الآنية ) .
قال رحمه الله :
( يباح اتخاذ كل إناء طاهر واستعماله ولو ثمينا إلا آنية الذهب والفضة والمموه بهما )
الشرح :
أي إناء طاهر حتى لو كان ثمينا أي باهظا في الثمن يجوز اتخاذه واستعماله ، يجوز أن يتخذه الإنسان للزينة ، ويجوز له أن يستعمله في مطعم أو مشرب أو وضوء أو غسل أو ما شابه ذلك ، لم ؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ورد عنه أنه ( توضأ في إناء من حجر) ( وفي إناء من صفر ) ( ومن إداوة ) ( ومن قربة ) فهذا يدل على أن الأصل في اتخاذ الأواني واستعمالها الإباحة ، إلا ما ورد الدليل على تحريم استعماله واتخاذه ، وإلا فالأصل في الآنية جواز الانتفاع و الاستعمال والاتخاذ .
بعض العلماء يرى أن اتخاذ الإناء الثمين لا يجوز لأنه إسراف ، ولكن الصواب جواز ذلك ، لأنه ليس كل شيء يتخذ أو يُستعمل يكون إسرافا .
واستثنى رحمه الله آنية الذهب والفضة والمموه بهما أو المطلي بهما ، لأنه ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة رضي الله عنه قوله عليه الصلاة والسلام ( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها ، فإنها لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة )
وقال عليه الصلاة والسلام ( الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) إلى غير ذلك مما ورد في أحاديث النهي عن استخدام آنية الذهب والفضة في الأكل والشرب .
وهل يجوز اتخاذ آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب ؟ مثل أن يتوضأ أو يغترف بإناء ذهب أو فضة ؟
قولان لأهل العلم : والأقرب هو رأي الجمهور أنه لا يجوز ذلك ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الأكل والشرب ذكرهما لأن هذا هو الغالب ، ولا يعني أن ما عداهما ليس بداخل ، هذا هو الأقرب والعلم عند الله .
بينما يرى شيخ الإسلام رحمه الله أنها لو استخدمت في غير الأكل والشرب لجاز ذلك .
وإذا كان هذا الإناء ليس خالصا من ذهب أو فضة ، ولكن به اطلاء أو وتمويه من ذهب أو فضة ، فإن الحكم باقٍ ، لأن الحديث عمم ، ولورود رواية في غير الصحيحين ( أو في شيء منهما ) فهذه تفيد أن الإناء لو كان به شيء من الذهب والفضة فإنه يحرم ، إلا ما أتى الشرع بالتسامح فيه كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
لو قال قائل : لماذا الذهب والفضة بالذات ؟
قال بعض العلماء : لأنها إسراف وتبذير ، وهذا فيه ما فيه ، لأننا لو أخذنا بهذه الحكمة مطلقا لمنعنا أي شيء باهظ الثمن .
وقال بعض العلماء : لأن في ذلك كسرا لقلوب الفقراء ، وأيضا هذه فيها ما فيها ، لأننا لو قلنا بذلك لمنُع الغني من أن يلبس ثيابا جميلة أو يركب مركوبا جميلا ، لأن في ذلك كسرا لقلوب الفقراء .
فإذاً / الصواب ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله : من أن الذهب والفضة يورثان ضعفا في العبودية في قلب صاحبها ، قال عليه الصلاة والسلام ( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها ، فإنها لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة ) ( لهم في الدنيا ) مَنْ ؟ الكفار ، لأن قلوبهم خالية من عبادة الله سبحانه وتعالى ، فإذا شرب الإنسان أو أكل في آنية الذهب والفضة حصلت عنده قلة في التوجه إلى الله وفي عبوديته لله .
قال رحمه الله :
( وتصح الطهارة بهما ، وبالإناء المغصوب )
يعني لو أن عنده إناء كبيراً فيه ماء واغترف من هذا الإناء بآنية ذهب أو فضة ، يقولون تصح الطهارة مع أنه آثم ، لأنه استعمل الذهب والفضة ، وقد سبق وهو رأي الجمهور أن آنية الذهب والفضة لا يجوز استعمالها لا في أكل ولا في شرب ولا فيما سوى ذلك ، فهو آثم ولكن تصح الطهارة بهما .
وهذا عجيب ، لأن هذا الحكم يتناقض مع ما تذهب إليه الحنابلة في مثل هذه المسائل ، فإنهم في بعض هذه المسائل يصححون العبادة ، وفي بعضها لا يصححونها ، ولكن الصواب / أن الوضوء صحيح كما ذهب إليه الماتن رحمه الله ، وهذا ينقض ما ذهبوا إليه في بعض المسائل التي ستأتي معنا إن شاء الله تعالى ، وقد مرت معنا مسألة ( الماء المغصوب ) قالوا لا يصح الوضوء به ، فلماذا اختلفت المسألتان ؟! وهذا مما يدخل عليهم ، وقد رجحنا أن الماء المغصوب يصح الوضوء به ، ولكن مع الإثم .
( وبالإناء المغصوب ) هنا صححوا الطهارة بالإناء المغصوب مع أنهم لم يصححوها في الماء ، وعلتهم في ذلك ، قالوا : لأن الماء مباشر للأعضاء ، بينما هذا ليس مباشرا ، ولكن نقول أين الدليل على التفريق ؟ إما أن تقولوا في الجميع لا يصح ، أو أن تقولوا يصح ، لأن كلاهما في الحكم واحد ، فالغصب في الشرع محرم .
قال رحمه الله :
( ويباح إناءٌ ضُبب بضبة يسيرة من الفضة لغير زينة )
هذا مما يستثنى من الفضة ، قلنا إن آنية الذهب والفضة لا يجوز استعمالهما في الأكل والشرب ، لكن هناك مسألة تستثنى في مسألة الفضة وهي : أن ينكسر عندك إناء ويمكن أن تصلحه بحديد أو بنحاس أو برصاص أو ما شابه ذلك ، فتعمد إلى أن تصلحه بقطعة فضة ، أيجوز هذا ؟ نعم ، لما جاء في صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله عنه ( أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة )
إذاً / لو انكسر الإناء وأراد أن يضببه بضبة من فضة وليس عنده أي نوع آخر يصلح به هذا الإناء ، هذه حالة ماذا ؟ حالة ضرورة ، هنا يجوز ولا إشكال في ذلك .
لو انكسر إناؤه وأراد أن يضبب هذا الإناء بضبة من فضة وعنده نوع آخر ؟ هنا يجوز ، لكن الحالة حالة ماذا ؟ حالة حاجة .
لو أن عنده إناءً قد انكسر وعنده ضبة من فضة وعند نوع آخر لكن أراد أن يضبب هذا الإناء بقطعة الفضة للزينة ؟ لا يجوز .
لو أراد أن يضببه بضبة من ذهب ؟ لا يجوز ، لأن الأصل التحريم ، ولكن الشرع استثنى الفضة كما سبق.
قال رحمه الله :
( وآنية الكفار وثيابهم طاهرة )
الكفار قد يستعملون أوانيهم في النجاسات ، وفي المحرمات مثل شرب الخمر وأكل الخنزير وما شابه ذلك ، بل في الميتات ، لأن ما ذبحوه يُعد ميتة إذا لم يكونوا أهل كتاب ، فهل يجوز استعمال أوانيهم بالنسبة لنا نحن المسلمين ؟ نعم ، لم ؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ( أكل عند اليهود ) والنبي صلى الله عليه وسلم ( استعمل مزادة امرأة مشركة ) ولأن ( عمر رضي الله عنه استخدم جرة امرأة نصرانية ) فهذا يدل على الجواز.
لو قال قائل : جاء في حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه كما في الصحيحين أنهم قالوا ( يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب ، أفنأكل في آنيتهم ؟ قالوا : لا تأكلوا فيها إلا ألا تجدوا غيرها ، فاغسلوها وكلوا فيها )
فالجواب عن هذا الحديث :
قال بعض العلماء : إن النهي في حديث أبي ثعلبة من باب التنزه ، لا من باب التحريم .
وقال بعض العلماء : إن هذا الحديث وهو حديث أبي ثعلبة مخصوص به قوم من أهل الكتاب قد عُرفوا أنهم يستعملون في أوانيهم شرب الخمور وأكل الخنزير ، كما جاءت بعض الروايات بالدلالة على ذلك .
إذاً / الأصل في أواني الكفار ( الطهارة ) إلا إذا علمنا أنها نجسة فهذا شيء آخر ، أما إذا علمنا أو جهلنا ربما هناك شك فالحكم الطهارة ، وكذلك ثياب الكفار ، فما صبغوه وما نسجوه وما خاطوه وما لاقى عوراتهم ، مع أنه قد يُشك من أنهم لا يتورعون عن البول ، ما لاقى عوراتهم من الثياب يجوز لبسها ، ما الدليل ؟ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس ما صنعه ونسجه الكفار ، فدل على الطهارة .
قال رحمه الله :
( ولا ينجس شيء بالشك ما لم تعلم نجاسته )
مبنى هذا الكلام على قوله تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}البقرة29 ، والمخلوق لنا يكون نجسا أم طاهرا ؟ يكون طاهرا ، وإلا لم يكن الانتفاع به متيسرا ، فالأصل في الماء الطهورية ما لم تعلم أنه نجس ، ولذلك لو شككا فالأصل أنه طهور ، وكذلك الشأن في الملابس وفي الفرش وما شابه ذلك .