الشرح الموسع لكتاب التوحيد ـ الدرس (45) قوله تعالى {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ..}

الشرح الموسع لكتاب التوحيد ـ الدرس (45) قوله تعالى {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ..}

مشاهدات: 441

الشرح الموسع لكتاب التوحيد ـ الدرس ( 45 )

قوله تعالى :

 { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فضيلة الشيخ :  زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال رحمه الله :

وقول الله تعالى :

{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

 

فقوله عز وجل :{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ }

إن /  :

من أدوات التوكيد فهذا توكيد بالثناء على إبراهيم عليه الصلاة والسلام

{ كَانَ أُمَّةً } / :

الأمة هنا هي الإمامة في الدين وسبق بيان معاني الأمة في القرآن وهي تأتي على أربعة معاني ذكر هذا عند قوله تعالى:{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ }

وطريقة نيل الإمامة في الدين :

قال شيخ الإسلام رحمه الله قال : ” تحصل بالصبر واليقين دليلها قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }

فقال:{ لَمَّا صَبَرُوا } هذا هو الأمر الأول .

{ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } هذا هو الأمر الثاني .

والحاكم  : إذا وفق بتطبيق شرع الله عز جل نال الإمامة في الدين والدنيا فالإمامة في الدنيا تكون واضحة والإمامة في الدين قال عز وجل:{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }

فختمت الإمامة باليقين :

ففيه إرشاد للولاة :  إذا أرادوا الإمامة في الدين والدنيا عليهم بتطبيق شرع الله عز وجل ؛ لأن في تطبيقه صبرا على مقولة الأعداء ، ويقينا بموعود الله .

ولذا قال عز وجل مبينا بإلماحة أن الإمامة في الدين تكون بالصبر واليقين قال في سورة البقرة : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ }

فالابتلاء لا بد فيه من الصبر واليقين لذا عقبها بقوله عز وجل :{ إني جاعلك للناس إماما }

وقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام:{ ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين }

فقوله عز وجل :{ كان أمة }:

أي إماما يقتدى به :

وبالفعل هو إمام يقتدة به

وهذا النصوص إذا ذكرت الحنيفية أو الحنفاء فالغالب أن إبراهيم يذكر معها

 ووجه تسميته بالأمة : لأنه عليه الصلاة والسلام اجتمعت فيه الخصال الحميدة ما تجتمع في أمة ، وكأن شخصه عليه السلام ارتسمت فيه صفات أمة من الأمم ولذا كان عباد الله يقولون فلي دعواتهم :{ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً }

ولم يقولوا واجعلنا أئمة وإنما طلبوا الأعلى :{ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً }

فإذا كنت إماما للمتقين دل على أنك أعلى مرتبة من هؤلاء المتقين فهذا هو الوصف الأول لإبراهيم عليه الصلاة والسلام بأنه أمة

ثم قال عز وجل واصفا له بوصف ثاني :{ قانتا }

والقنوت / :

هو دوام الطاعة لأن القنوت له معان متعددة من بينها الدعاء قال الحسن رضي الله عنه : (( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم قنوت الوتر ))

ويحمل عليه حديث أنس رضي الله عنه : (( أن النبي عليه الصلاة والسلام ما زال يقنت حتى توفاه الله ))

فالمراد إطالة القيام بعد الركوع بالذكر والدعاء

ومن معاني القنوت / :

طول القيام قال عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم ( أفضل الصلاة طول القنوت ) أي القيام

ومن معاني القنوت / :

السكوت عن الكلام في الصلاة والخشوع قال الله عز وجل : {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ }

قال زيد بن أرقم كما في الصحيحين : (( فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ))

ومن معاني القنوت /  :

دوام الطاعة لله عز وجل كما في هذه الآية

والقنوت من حيث أصله ثلاثة أنواع  :

1-           قنوت خاصة الخاصة

  • قنوت الخاصة
  • قنوت العامة

فقنوت خاصة الخاصة  :

هو قنوت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما قال عز وجل هنا عن إبراهيم :{ إن إبراهيم كان أمة قانتا }

وقالت عائشة رضي الله عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه فدوام ذكره عليه الصلاة والسلام لربه هو القنوت

النوع الثاني :

هو قنوت عباد الله المتقين قنوت الخاصة 

قال عز وجل:{ أمن هو قانت أناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه }

النوع الثالث :

 قنوت العامة وهم عموم الخلق وهو قنوت التذلل والانقياد لحكمه عز وجل

قال تعالى :{ وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات وما في الأرض كل له قانتون }

فهذا القنوت قنوت تذلل وخضوع لله عز وجل لا يستطيع احد أن يخرج طرفة عين عن هذا القنوت فالكل في قبضته وسلطانه وملكه عز وجل

ووصف إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالقنوت الذي هو دوام الطاعة ثناء عليه باستمراره على التوحيد فلم يزل في حياته عليه الصلاة والسلام موحدا فلم يطرأ عليه الشرك في حياته

وقوله عز وجل { قانتا لله } :

فيه دليل على دوام إخلاص القنوت لله عز وجل فهو لم يقنت لملك ولا لوزير ولا غني وإنما محض قنوته لله عز وجل

الوصف الثالث : { حنيفا } :

والحنيف  :

كما قال ابن القيم رحمه الله : “هو المقبل على الله المعرض عمن سواه ، فلم يلتفت قلبه عليه السلام لأحد غير الله والجمع بين القنوت والحنيفية يدل على تحقيق التوحيد لأن التوحيد يتحقق بتنقيته من الشرك كبيره وصغيره مع الإتيان بلوازمه ومقتضياته وكمالياته وهذا يدل عليه وصفه بأنه كان قانتا .”

 ونبينا صلى الله عليه وسلم لا شك أن  فيه هذه الصفات وأعظم ولذا قال عليه الصلاة والسلام  ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر )

ولذا قال عليه الصلاة والسلام لما أمر باتباع ملة إبراهيم عليه السلام أمره عز وجل بأن يقول :{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ{163}}

فالمتأمل في هذه الآية يجد تحقيق التوحيد في أعلى مراتبه ولذا قال { وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } فكونه أول المسلمين من هذه الأمة واضح جلي وأما كونه أول المسلمين من عموم الأمم ليس باعتبار الزمن بل باعتبار الدرجة فهو أعلى الكل إسلاما لله عز وجل وتوحيدا

الوصف الرابع : { ولم يك من المشركين }

وفي هذا ثناء على إبراهيم عليه السلام بأنه لم يكن من المشركين

وفي هذا ثناء عليه بأنه لم يشرك بأول حياته وكلمة قانتا

وحنيفا تدل على عدم وقوع الشرك منه في الحاضر والمستقبل وكلمة : { ولم يك من المشركين }

تدل على أنه لم يقع منه شرك في أول أمره وذلك لأن كلمة { يك } فعل مضارع والفعل المضارع يدل على الحال فإذا دخلت عليه أداة النفي ( لم ) قلبته إلى المضي فبدلا من أن يكون في الحاضر يكون في الماضي فلم يقع منه الشرك البتة والدليل كما سبق آنفا { ولقد أتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين }

وأما قوله عز وجل عن إبراهيم :{ فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي }فقد سبق الجواب عنه .

والتعبير بالجملة الفعلية تدل على مقام المدح على الاستمرار لأن الجملة الفعلية في أصلها كما قال البلاغيون تفيد التجدد والحدوث ولكن إن كانت في مقام مدح أو ذم فإنها تفيد الاستمرار

وهنا في مقام مدح فقوله :{ ولم يك من المشركين } فلم يقل من المشركين الشرك الأصغر أو الأكبر أو نحو ذلك وإنما حذف المعمول وحذف المعمول عند أهل اللغة يفيد العموم فلم يك من المشركين مطلقا

فظهر بهذا مناسبة ذكر المصنف رحمه الله لهذه الآية تحت هذا الباب

ومناسبتها  :

أن إبراهيم عليه السلام قد حقق التوحيد ونحن أمرنا باتباع ملته فمن إتباع ملته أن يسار على طريقته فيحقق التوحيد كما قال عز وجل :{ شاكرا لأنعمه } وهذا شأن من أنعم عليه بنعمة دينية أو دنيوية فلما أنعم عليه بهذه النعم العظيمة شكر الله عز وجل كما كان النبي عليه الصلاة والسلام تتفطر قدماه من طول القيام فتقول عائشة رضي الله عنها : ( كيف تصنع بنفسك هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال عليه الصلاة والسلام أفلا أكون عبدا شكورا )

ولذا قبل أن يذكر عز وجل  قصة إبراهيم قال

{ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)  }

ثم قال { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) } ففيه إشارة إلى أن إبراهيم قد شكر الله وهذه النعم التي أعطيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما أعطيها إلا بعد تمحيص وابتلاء من الله قال تعالى { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ }

وقال عز وجل {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} فمن ابتلتي فصبر ظفر بإذن الله وإذا ظفر لا ينسى أن يشكر الله

ولذا يذكر الله الصبر مع الشكر فالصبر تنال الخيرات { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } قال تعالى { وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } فإذا صبر ظفر فيجب عليه أن يشكر قال تعالى في آيات كثيرة { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } قد ذكرت في عدة مواضع من كتاب الله وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، وليس ذلك إلا للمؤمن ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وإن أصابته  سراء شكر فكان خيرا له )

نسأل الله أن يوفق الجميع بالعلم النافع والعلم الصالح وأن يجعلنا هداة مهتدين