الشرح الموسع لكتاب التوحيد ــ الدرس ( 47 )
حديث ( سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب) الأول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن حصين بن عبد الرحمن قال : كنت عند سعيد بن جبير :
فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟
قلت : أنا ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت
قال : فما صنعت ؟
قلت : ارتقيت
قال : فما حملك على ذلك ؟
قلت : حديث حدثناه الشعبي
قال : وما حدثكم ؟
قلت حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال : لا رقية إلا من عين أو حمة
قال : قد أحسن من انتهي على ما سمع ، ولكن حدثنا :” ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد ، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي : هذا موسى وقومه ، ولكن انظر إلى الأفق الآخر فنظرت،فإذا سواد عظيم فقيل لي : (( هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب )) ثم نهض فدخل منزله ، فخاض الناس في أولئك فقال بعضهم : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا .
وذكروا أشياء .
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فقال لهم : ما الذي تخوضون فيه ؟
فأخبروه ،فقال : (( هم الذين لا يسترقون ، ولا يكتوون ،ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ))
فقام عكاشة بن محصن فقال : ” ادعوا الله أن يجعلني منهم “
فقال : (( أنت منهم ))
فقال رجل آخر فقال : ادعوا الله أن يجعلني منهم .
فقال :((سبقك بها عكاشة ))
هذا هو النص الثالث الذي أورده المصنف تحت هذا الباب وهو من السنة .
فعن حصين بن عبد الرحمن /:
هو حصين بن عبد الرحمن السلمي،وهو من المحدثين ومن التابعين الأجلاء عاش في القرن الثاني من القرون المفضلة .
قال رحمه الله : كنت عند سعيد بن جبير
سعيد بن جبير :
هو التابعي الجليل الذي تلقى العلم عن بن عباس رضي الله عنهما ،فتلقى العلم من ابن عباس، وقد قُتل بيد” الحجاج بن يوسف الثقفي” ولما قتله لم يغمض له جفن بعد قتله له وقد رأى في المنام أنه قُتل بكل قتيل قتلة،أما سعيد فقد قتل به سبعين قتلة .
قال حصين : كنت عند سعيد بن جبير، فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟
انقض يعني : سقط
والكواكب قد تسقط لرمي الجن ، ولذا جاء عند مسلم أنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون بأن رمي الكوكب لولادة عظيم أو وفاة عظيم
فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟
وقوله : ” أيكم ” يدل على أن كان هناك جمعا في مجلس سعيد بن جبير رحمه الله
ومنهم : حصين بن عبد الرحمن
وقوله : ” البارحة ”
البارحة تختلف عن الليل في لغة العرب:
فالبارحة : هو الليل الذي قد مضى
والليلة : هو الليل الذي يكون في حاضر الإنسان
والعرب :إذا أخبروا عن شيء وقع بالليل مما مضى ، وكان قبل الزوال يقولون ” البارحة ” باعتبار أن ما قبل الزوال قريب من الليل الماضي .
وأما إذا كان بعد الزوال فيقولون : ” الليلة “
فنستفيد من هذا من أن هذا الحوار الذي دار بينهم كان قبل الزوال ، وليس بعده .
وقول حصين ، فقلت : ” أنا ” :
يستفاد من هذا : أن كلمة ” أنا ” مخبرا بها الشخص عن نفسه ليست مذمومة في جميع الأحوال .
لأن البعض إذا تحدث وقال : أنا ، قال : أعوذ بالله من أنا
وليست على إطلاقه .
وقد عدّ ابن القيم رحمه الله كلمة ” أنا ” من الطواغيت:
قال : ” لتتق الطواغيت الثلاثة : كلمة أنا ، وكلمة ” عندي ” وكلمة ” لي ” ثم فصل رحمه الله :
فقال : إنها في بعض المواطن تكون غير مذمومة بل تكون محمودة .
فإذا كانت في موضع التذلل لله عز وجل والخضوع له ، فهذه كلمة محمودة
فمثلا لو قال العبد – هذا العبد المذنب المقصر أو كان فيها إغاظة لأعداء الله عز وجل ، لأن إغاظتهم من محبة الله عز وجل
كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة حنين : ” أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب “
وقول حصين : ثم قلت : أما إني لم أكُ في صلاة
ثم إن قول حصين ” أنا “ قد يتوهم منها البعض أنه كان في صلاة ، فأراد أن يبعد هذا الظن لأنه لم يك في حقيقة أمره في صلاة .
وهذا يدل على حرص السلف رحمهم الله في تحقيق الإخلاص لله عز وجل
وذلك لأن قيام الإنسان في الليل في تلك العصور السابقة لا يكون القيام فيها إلا لحاجة ظاهرة :
إما لحضور ضيف
وإما لصلاة
وإما لقيام ليل
وإما لقراءة قرآن
أو نحو ذلك
امتثالا لكراهة النبي عليه الصلاة والسلام للحديث بعد صلاة العشاء
ولو قيل : هذا السؤال في هذا العصر لما حصل مثل هذا التوهم ، وهذا الظن ـــ لم ؟
لأن الناس قد قلبوا ليلهم نهار ا من غير فائدة ، لم يكن هناك غرض محقق على دين الإنسان ودنياه
فأراد أن يبعد هذا التوهم
ثم قلت : ” أما إني لم أكن في صلاة “
وقوله : ” أما “
أما ــــــــ أداة استفتاح يفتتح بها الكلام
مثل : ألا ” ” ألا وإن في الجسد مضغة “
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
فيؤتى بها لافتتاح الكلام
وبعضهم قال : إنها بمعنى : أحقاً ، أحقا أني لم أك في صلاة
والأول أحسن لسلاسته
وقوله رحمه الله : ” لم أكن في صلاة “
لنفي أي نوع من أنواع الصلاة
فليس هذا القيام للتعبد لله عز وجل ، وإنما لظرف نز ل به ، وهذا الظرف ظاهر في قوله : ولكني لُدغت
واللدغ واللسع قيل هما بمعنى واحد
وقيل :
إن اللسع يكون بالناب
واللدغ يكون بالفم
فقال سعيد : فما صنعت ؟
قلت :
القائل ” حصين “
قال : ” ارتقيت “
وفي رواية مسلم : ” استرقيت ” فتكون معنى ” ارتقيت ” أي طلبت من يرقيني ويقرأ عليّ .
قال : أي سعيد بن جبير : فما حملك على ذلك ؟
أي ما الذي دعاك إلى أن تطلب من يرقيك
قلت : والقائل حصين : حديث حدثناه الشعبي
والشعبي :
ــــــــــــــــــ
هو عامر بن شراحيل من كبار فقهاء التابعين ، وكان قوي الحفظ .
قال : ما كتبت سواد في بياض ولا سمعت حديثا من أحد إلا حفظته
فلما قال : سعيد ما حملك على هذا ؟.
يعني ما حجتك ودليلك على هذا الطلب
قال : حديث حدثناه الشعبي
قال : وما حدثكم ؟
قلت : والقائل ” حصين ” : حدثنا عن بريدة بن الحصيب
وبريدة : هو أحد الصحابة
أنه قال -أي بريدة : (( لا رقية إلا من عين أو حمة ))
فالناظر والمتأمل في هذا الحوار يجد أن السلف رحمهم الله قد بلغوا المنازل العليا في حسن المحاورة والمناقشة ، فحينما تسمع مثل هذا الكلام يوجب عليك أن تكون متأسيا بهم في ثنايا نقاشك وحوارك مع الآخرين .
فانظر إلى هذا النقاش والذي اتسم بالهدوء وطلب الحق ، مع أن سعيد رحمه الله لما علم طلب حصين للرقية أنكر في نفسه بأن لديه علما يختلف عن هذا الأمر الذي أقدم عليه حصين .
فأراد أن يطلب الحق ، ومن ثم فلا يتعنت أحد في الثبات على رأيه ، ولا يظن أحد أن الحق معه مطلقا بل يتح المجال والفرصة للآخرين ، فلربما كان أصغر القوم معه من العلم ما ليس معك .