بسم الله الرحمن الرحيم
تقريب شرح السنة لعامة الأمة
صحيح البخاري ـ حديث ( 48 ـ 49 ) ـ
[الدرس السادس عشر]
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
16/4/1446
(36) – بَابُ: خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ.
وَيُذْكَرُ عَنِ الحَسَنِ: مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ.
وَمَا يُحْذَرُ مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥)} [آل عمران: ١٣٥].).
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد:
فقد ذكر البخاري رحمه الله بابًا فقال: (بَابُ: خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ) لَمَّا ذكر ما ذكر في حديث اتباع الجنازة إيمانًا واحتسابًا، ذكر هنا هذا الباب ليبين أن المؤمن عليه أن يكون حذرًا مما يرد على النفس من رياء ونحو ذلك، ولعله أيضًا لما ذكر ما ذكر من عبادات من الإيمان والإسلام؛ فليحذر كل الحذر من أن يذهب ما عمله سدى
ولذلك قال: (بَابُ: خَوْفِ) من؟ (المُؤْمِنِ)
(مِنْ أَنْ يَحْبَطَ) أي أن يبطل عمله وهو لا يشعر
وهنا قال: (أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ) وحبوط العمل كلية إنما هو يكون بالكفر بالله عز وجل، لكن ما لم يكن خالصًا، فإنه يحبط يذهب الثواب والحبوط هو الهلاك من حيث اللغة.
قال: (أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ) وهذا يدل على أن الرياء له أبواب، ولذلك جاء في الأثر قال: ” الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء “
(وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ) هذا من عُبَّاد البصرة، ومن فقهائهم، ومن الوعاظ
قال: (مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا) هو يعظ الناس، فهو يقول: خوفًا مما يقوله ولم يطبقه
قال: (إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا.) يعني من أنه يقول ما لا يفعل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] فيكون حاله هو يقول: يكون حالي كحال من هو شبيه بالمُكذِّب، وإن لم يكن مكذِبًا، لكن شبيه بالمُكذِّب
وضُبِطَت -والضبط الأول هو الأشهر والأكثر- وضُبِطَت: [إلا خشيت أن أكون مُكَذَّبًا] أي: من يرى قولي ووعظي مع عملي يقول: إنه لم يَصدُق فيما قاله، ولذلك الأولى هي الأظهر، لأن الناس يرونه من العُبَّاد، فهو يخشى على نفسه من أن ما يقوله لا يطبقه، إن ثبتت (إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ كذابًا) فهي تؤيد مكذبًا.
(وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – كُلُّهُمْ) ولم يستثنِ أحدًا.
(يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ) لا يلزم من الخوف أن يقع منهم، لكن لكمال ورعهم ولشدة خوفهم من محبطات الأعمال، لأن الإنسان ضعيف إلا إن حفظه الله ورعاه وتولاه، (كُلُّهُمْ) ولم يستثنِ أحدًا
(كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ) ولا سيما أنهم أدركوا في أواخر حياتهم ما لم يعهدوه فيما مضى من التغير، فخشوا أنهم لم يقوموا بواجب الإنكار على أكمل وجه، سبحان الله من يرى أحوال بعض الناس في وسائل التواصل من تصويره لنفسه ولأصحابه من أداء العمرة، والإتيان بالعبادات في المدينة أو ذِكر ما صنعه في وسائل التواصل من حضور درس أو إكمال حفظ لمتن أو ما شابه ذلك يجد أن الناس في غفلة، هذا مع قلة العمل في هذا الزمن، فكيف تقارن أعمالنا بأعمال الصحابة هؤلاء رضي الله عنهم، كلهم يخاف النفاق على نفسه
(مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ) لأن إيمان جبريل وميكائيل لا يرد عليه النفاق، فهم ملائكة معصومون لكن البشر يعتريه ما يعتريه من النقص والضعف
ولذلك ما أتت الأحاديث الكثيرة بكثرة ذكر لا حول ولا قوة إلا بالله إلا لبيان ضعف الإنسان، ولو قيل فيه ما قيل من كثرة عبادة أو علم أو حفظ فهو مسكين؛ يعني ما أوصله إلى هذا الأمر من عبادة وعلم إلا ربه، ولا ثبات له ولا زيادة له إلا بربه، وفي هذا رد على المرجئة الذين يجعلون الكل بمنزلة واحدة في الإيمان.
(وَيُذْكَرُ عَنِ الحَسَنِ) وهو الحسن البصري، والبخاري قال هنا: ويذكر بصيغة التمريض والتضعيف، كلمة يُذكَر أو ذُكِر أو يُروَى أو رُوِي هذه من صيغ تضعيف الحديث أو الأثر.
قال: (وَيُذْكَرُ عَنِ الحَسَنِ) الحسن البصري
(مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ) بعض العلماء كالنووي يقول: ما خافه إلا مؤمن يعني الله، فالمؤمن يخاف الله، ولا أمن عقوبة الله إلا منافق {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
(مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ) المؤمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] لكن ليعلم أن الضمير هنا على الصحيح يعود إلى النفاق، وإن كان الضمير يعود إلى الله متضمنًا ولا شك في ذلك، لكن أراد الحسن النفاق.
ولذا قاعدة ويخطيء فيها بعض طلاب العلم ولا سيما من أصحاب تخصص الحديث، طبعا يقولون- وهذا هو المشهور- يقولون: إذا أورد البخاري حديثًا أو أثرا بصيغة التمريض فهو ضعيف عنده كما هنا: (وَيُذْكَرُ عَنِ الحَسَنِ).
لكن ليس هذا على إطلاقه لا، هذا ثابت عند البخاري هذا هو المشهور،
لكن ليعلم أن البخاري إذا أورد صيغة التمريض لأثر أو لحديث قد يراد منه التضعيف نعم، لكن ليس على إطلاقه، لكن يأتي بصيغة التمريض والتضعيف إذا اختصر الأثر أو الحديث أو أتاه بمعناه، وهنا أتى بصيغة التمريض لأنه اختصر، ولذلك لما اختصر ولم يُوقَفْ على تتمة ما قال، من قال: إن الضمير يعود إلى الله بناء على ظاهر النص، لكن لو رجع إلى التتمة؟ الحسن ماذا يقول؟
ما مضى مؤمن ولا بقي إلا خاف من النفاق، ولا مضى منافق ولا بقي إلا من النفاق هو آمن.
ثم قال: (وَمَا يُحْذَرُ ) أي وباب ضمن بابين في ترجمة
(وَمَا يُحْذَرُ مِنَ الإِصْرَارِ) هو كذلك يُحْذَّرُ
(مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥)} [آل عمران: ١٣٥]) هذه الآية مَدْحٌ لمن تاب من الذنب، ولم يصر عليه
إذًا من أصر ممدوح أو مذموم؟
مذموم، فإن كان مذمومًا فأين عقولكم أيها المرجئة؟ تقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، ولذلك جاء الحديث الذي حسنه ابن حجر قال عليه الصلاة والسلام: “وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ” توعدهم في الحديث توعدهم بويل، للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون، وهو في مسند الإمام أحمد.
وأيضًا جاء عند الترمذي بإسناد حسن وابن حجر مرفوعًا إلى النبي عليه الصلاة والسلام “مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ، وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً “
ما أوسع رحمة الله وعفوه ومغفرته، يعني قال: وإن عاد في اليومِ سبعينَ مرةً إلى الذنب، ما دام أنه يذنب ويستغفر نادمًا، وعازمًا على ألا يعود، فضعفت نفسه ولذلك أتت السبعين فقد تكون من باب المبالغة، وليس للحصر، وهذا إن دل يدل على أن الموفق هو الذي لا يغيب عن قلبه، ولا عن لسانه الاستغفار والتوبة.
ولذلك من قرأ كتاب الله عز وجل يجد أنه يجمع بين التوحيد والاستغفار، فلا غنى للعبد عن التوحيد الذي به النجاة، ولا غنى له عن الاستغفار الذي يُرقِّع الخلل الحاصل في التوحيد، ولذلك قال: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6]، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] واقرأ سورة هود ماذا قال الأنبياء؟
{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:3] فيحرص المسلم.
أصلا مما يدل على وهن وضعف ليس رأي المرجئة فحسب، بل على وهن وضعف عقولهم، لو كان الذنب لا يضر بالإيمان ما شرع التوبة، ولا كان لنصوص الأمر بالتوبة أي فائدة، وهذا يدل على أن الإنسان إذا لم يتَّبع حتى لو كان صاحب عقل، فإنه لا يوفق.
ولذلك نُقل عن السلف عن أصحاب الكلام والرأي قالوا: أُعطُوا ذكاء ولم يُعطَوا زكاء، وأُعطُوا عقولًا ولم يُعطَوا فهومًا، تريد الفهم من حيث العلم الشرعي؟ في النصوص الشرعية، تريد الزكاء الذي هو الطهر والإيمان؟ عليك بالنصوص الشرعية لا تخرج منها.
48 – حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنْ المُرْجِئَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: “سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ”.
ثم ذكر رحمه الله حديث عبد الله
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ) البصري ثقة
(قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) مر كثيرًا شعبة بن الحجاج البصري الثقة الحافظ المتقن كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، لولا الله ثم هو ما تنقى الحديث في البصرة قد ذبَّ عن السنة رحمة الله عليه.
(عَنْ زُبَيْدٍ) وهو زبيد بن الحارث الكوفي ثقة، ثبت، عابد، نسأل الله أن يكرمنا بما أكرم به القوم.
(قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ) وهو شقيق اسمه شقيق الأسدي أدرك النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه لم يره من الثقات.
(سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنْ المُرْجِئَةِ) ولذلك في رواية قال: زبيد لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل، فذكرت له قوله، طبعا أبو وائل توفي سنة تسع وتسعين وقيل: اثنتين وثمانين، هذا يدل على أن بدعة الإرجاء كانت قديمة.
(سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنْ المُرْجِئَةِ فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ) عبد الله بن مسعود الهذلي الكوفي قد قال بعض العلماء إن أبا وائل تفرد بروايته عن ابن مسعود، لكن ليعلم أن هناك جماعة رووه عن ابن مسعود غير أبي وائل، فانتفت تهمة تفرد أبي وائل به.
وانظروا سبحان الله إلى العالم الذي تشربت النصوص في عقله وفي قلبه وفي فهمه، لم يقل شيئًا فقط، استدل بما رواه عن ابن مسعود.
(قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ) يعني هو يقول له كيف يكون معتقدهم سليمًا وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام هذا القول، وهذا كما أسلفت كل قول يخالف النص؛ فلْيُطرح ولا يُعبأ بصاحبه كائنًا من كان، يعني كيف يكون كلامهم ومعتقدهم صحيحًا وقد قال عليه الصلاة والسلام هذا الحديث ما هو؟
(“سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ) يعني وصفه بالفسق، والمرجئة ليس بفاسق، لكن ليعلم أن أبا وائل لعلمه من أن زُبيدًا من العلماء أو ممن سيفهم الحديث ذكر له الدليل من غير بيان الحكم، لكن على حسب الأحوال والأشخاص، بعض الناس قد لا يفهم، فتذكر له الحكم مع الدليل.
(قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: “سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ) سباب: السباب أبلغ فظاعة من السب، فالسباب المبالغة في عيبه بما فيه وبما ليس فيه، وهذا يدل على أن السب درجات.
(“سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ) أي خروج عن طاعة الله عز وجل، لكنه فسق لا يخرج عن الملة، هناك فسق يخرج عن الملة وهو الكفر الأكبر، {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] وهناك أدلة كثيرة من أن الفسق الأكبر يكون بمعنى الكفر الأكبر.
(“سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ) وجاء عند أحمد: “سِبَابُ الْمُؤْمِنِ فِسْقٌ” الحديث واحد، لكن لما ذكر الراوي المؤمن بدل المسلم، دل على أن المعروف عند العلماء -في غالبهم- أنه إذا أطلق الإسلام دخل فيه الإيمان، وإذا أطلق الإيمان دخل فيه الإسلام، فلا غنى لأحدهما عن الآخر لا بد منهما.
(“سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ) وهذا ردًا على المرجئة
(وَقِتَالُهُ كُفْرٌ”) وهذا قد يكون دليلًا للخوارج هم يقولون: نقاتل صاحب الكبيرة لأنه كافر، لكن هنا المراد (وَقِتَالُهُ كُفْرٌ) المبالغة في التشنيع من قتال المسلم، بدليل أن الله عز وجل قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ} [الحجرات:9] أبقي عليهم وصف الإيمان {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] ثم قال بعدها: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وفي سورة البقرة فيما يتعلق بالقتل العمد {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] فجعل المقتول والقاتل أخوين.
فهذا من باب المبالغة والتشنيع: (وَقِتَالُهُ كُفْرٌ”).
ولما وصف السباب بأنه فسوق، ووصف القتال بأنه كفر -قتال المسلم- لأنه أصلا المقصود بالكفر هنا الكفر الأصغر، يعني لأن من شأن من يقاتل المسلم من؟ الكفار.
(وَقِتَالُهُ كُفْرٌ”) هنا اختلفت الدرجة هذا فسوق، وهذا كفر، لكن لو قال قائل: قال عليه الصلاة والسلام: “لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ” قاعدة في اللغة العربية المشبه به أعلى من المشبه.
مثال: المشهور في اللغة العربية مثلا هند كالقمر هل هما متساويان؟
إنما أراد الجمال، لكن تجد أن القمر أجمل من المشبه الذي هو هند، فهنا لما قال: “لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ” القتل أعظم من اللعن، لكن لماذا ساوى بينهما لمَ؟
لأن اللعن اعتداء على العرض، والقتل اعتداء على النفس، وكلاهما من ضروريات حياة البشر، من الضروريات الخمس.
فقوله: “لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ” كلاهما بلغ في التأثير أعظمه هذا في العرض، وهذا في النفس، فالتشبيه من حيث بلوغ أكبر التأثير.
(٣٦ – بَابُ: خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ)
ثم ذكر رحمه الله تحت هذا الباب (بَابُ: خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ) حديث: (“سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ”) تبع باب: (وَمَا يُحْذَرُ مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ)
من الإصرار على النفاق والعصيان، في نسخة أخرى: (وَمَا يُحْذَّرُ مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى التَّقَاتُلِ وَالعِصْيَانِ) والتقاتل أوضح لدلالة الحديث.
إذًا حديث ابن مسعود هو يستدل به لأي باب؟
الثاني: (وَمَا يُحْذَرُ مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ)
أما هذا الحديث فهو تبعٌ للباب الأول: (بَابُ: خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ) سبحان الله ما فيه أي دلالة تدل على ما بوب به، لكن كما أسلفنا البخاري دقيق وما أتت دقته إلا لعظم فهمه رحمه الله، ما يصل إلى هذه الدقائق الغامضة إلا من هو مرتبط بالنصوص الشرعية ارتباطًا في حياته كلها، بل كما جاء في سيرته أنه يقوم بالليل أحيانًا عشرين مرة وهو نائم على فراشه إذا تذكر مسألة أو فائدة قام فدونها، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، الله أكرم من عبده.
49 – أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ: “إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ؛ التَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالخَمْسِ
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) مر معنا الثقفي ثقة ثبت.
(حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) المدني ثقة ثبت قارئ أهل المدينة؛ علمٌ بالحديث وعلمٌ بالقرآن.
(عَنْ حُمَيْدٍ) وهو حميد بن أبي حميد الطويل البصري ثقة، لكن إشكاله أنه مدلس، وهنا قال: عن أنس، لكن ورد في نسخة من أنه قال: “حَدَّثَنِي أَنَسٍ ” بن مالك
(قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ) هنا رواية صحابي عن صحابي أنس عن عبادة
(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ القَدْرِ) أي بتعيينها في تلك السنة، ولحرصه عليه الصلاة والسلام على بيان الخير لأمته خرج ليخبرهم.
( فَتَلَاحَى ) أي اختصما.
(رَجُلَانِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ: “إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ) ليس المعنى أنها رفعت نهائيًا لا، أو رفعت تلك السنة لا، وإنما رفعت علامتها.
ولذلك في رواية ” يَحْتَقَّانِ معهُما الشَّيْطَانُ، فَنُسِّيتُهَا” يحتقان كل منهم يقول: الحق معي، وهذا يدل على أن المخاصمة والمنازعة محبوبة للشيطان، لكن لو قال قائل: هما يحتقان على حق، هما يطالبان حقًا! فأصبحت منازعتهما أن مع أحدهما الحق، أصبحت سببًا لفوات الخير لمَ؟ هل إذا طالب الإنسان حقه يكون مذمومًا؟
لا، لكن المخاصمة في شهر فاضل في رمضان، المخاصمة في المسجد النبوي، المخاصمة بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام، فارتفعت الأصوات والله عز وجل ماذا يقول؟
{وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] انظروا كيف أورد البخاري هذا الحديث في باب خوف المؤمن أن يحبط عمله، لأن الحديث يتوافق مع الآية {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]
أين مكمن المناسبة؟
من أن المخاصمة برفع الصوت بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام، {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] يعني أيؤاخذ الإنسان بشيء يجهله أو أنه لم يتعمده؟ قال: {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] لا يؤاخذ، لكن ما معنى هذه الآية؟
معناها أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون لننظر إلى السبب الأول وهي المخاصمة، يعني أنكم وأنتم لا تشعرون، يعني لا تظنون أن هذا الفعل يؤدي إلى حبوط العمل، يعني تستصغرونه، وليس بصغير، نظيره قوله عليه الصلاة والسلام: “إنَّهُما لَيُعَذَّبَانِ، وما يُعَذَّبَانِ في كَبِير بلى إنّه كبير” هو في ظنهما أنه ليس بكبير، لكن هو كبير في الشرع.
(وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ) ابن أبي حدرد وكعب بن مالك هما صحابيان فاضلان.
(فَرُفِعَتْ) أي رفعت علاماتها تلك السنة.
(وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ) عسى من أفعال الترجي، من أفعال الرجاء فأين الخير من ذهاب التحقق من ليلة القدر؟
سيقومون العشر، نعم سيجتهدون في العبادة، وإن كان إيقاع العبادة في زمنها المتحقق المتعين آنَس للقلب، إلا أنها لما رفعت سيضطرون إلى أن يجتهدوا في ليالي العشر كلها هنا صارت الخيرية، وإذا اجتهدوا سيدركون ليلة القدر في هذه الليالي لا محالة، ومع إدراكهم لها الاجتهاد في سائر الليالي محسوب لهم.
قال: (وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ) نعم هو خير لهم مائة بالمائة، ولا ينقص من مائة بالمائة ولا أقل ما يكون لمَ؟
لأن عسى من الله في النصوص الشرعية، وعسى من الرسول عليه الصلاة والسلام في النصوص الشرعية متحققة مائة بالمائة من قال: وعسى؟
الرسول عليه الصلاة والسلام.
إذًا (وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ) أي متحققة الخيرية لكم مائة بالمائة، ولذلك لما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بثمانية أبواب الجنة، قال أبو بكر رضي الله عنه: “ما علَى مَن دُعِيَ مِن تِلكَ الأبْوَابِ مِن ضَرُورَةٍ، فَهلْ يُدْعَى أحَدٌ مِن تِلكَ الأبْوَابِ كُلِّهَا، قالَ: نَعَمْ وأَرْجُو أنْ تَكُونَ منهمْ” سبحان الله يعني بعض الأسئلة تفتح لصاحبها خيرًا، السائل أبو بكر فلما سأل -وسيأتي الحديث إن شاء الله- فلما سأل فاز بها.
(التَمِسُوهَا) أي اطلبوها.
(فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالخَمْسِ) يعني من حيث أنها تُرجى في ليلة السبع والتسع والخمس، قدَّم السبع هنا لأنها أرجاها، وقد ورد تقديم التسع على السبع.
(التَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالخَمْسِ) معظم الروايات بتقديم السبع على التسع، فاتضح الآن مناسبة إيراد هذا الحديث من البخاري تحت الباب، لأن له علاقة بالآية.