بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
بابٌ في المواقيت
حديث رقم -396-
( صحيح ) حدثنا عبيد الله بن معاذ ثنا أبي ثنا شعبة عن قتادة سمع أبا أيوب عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : وقت الظهر ما لم تحضر العصر ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ووقت المغرب ما لم يسقط فور الشفق ووقت العشاء إلى نصف الليل ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس )
من الفوائد :
أن صلاة الظهر وصلاة العصر ليس بينهما قدر مشترك ، كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء ، ومعنى الزمن المشترك – وقد ذكرنا ذلك مرارا – أن لو صلى إنسان حينما صار للشيء ظل مثله صلى أربع ركعات يريد صلاة الظهر وآخر صلى أربع ركعات يريد بها صلاة العصر وفرغ كلاهما منها صحت صلاة هذا وصلاة هذا ، لم ؟ لأن بينهما زمنا مشتركا بقدر أربع ركعات ، والذي حملهم على هذا القول ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في إمامة جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم إذ صلى صلاة الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه صلاة العصر في اليوم الأول .
ولكن الجملة التي معنا ( وقت الظهر ما لم تحضر العصر ) تدل على أنه متى ما حضر وقت صلاة العصر فقد خرج وقت صلاة الظهر ، فيكون تأويل حديث ابن عباس رضي الله عنهما في إمامة جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما فرغ من صلاة الظهر إذا بصلاة العصر قد دخل وقتها فصار للشيء ظل مثله ، لا على أنه صلى الظهر حينما صار للشيء ظل مثله ، وسبقت هذه المسألة ، ولكن هذا الحديث فاصل في الموضوع .
ومن الفوائد :
أن صلاة العصر ينتهي وقتها المختار إذا اصفرت الشمس ، أما وقتها الضروري فكما جاء في الصحيحين ( من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ) فلا تناقض بين الحديثين ولا تعارض ، إنما حديثنا الذي معنا يدل على أن وقت صلاة العصر المختار إلى اصفرار الشمس، بينما وقتها الضروري إلى غروب الشمس ، ومن ثم فلا يجوز للمسلم أن يؤخر صلاة العصر مهما كان العذر إلى ما بعد اصفرار الشمس .
ومعنى الوقت الضروري لصلاة العصر : أنه لو جُرح جرحا عظيما وتدفقت منه الدماء وخشي لو صلى قبل اصفرار الشمس قبل أن يضمد جراحه أن يهلك أو أن يتضرر فله أن يؤخرها إلى ما بعد اصفرار الشمس حتى يضمد جراحه .
ومنها : أن يسلم الكافر بعد اصفرار الشمس فتلزمه صلاة العصر .
ومنها : لو طهرت الحائض .
ومنها : لو أفاق المجنون أو أفاق المغمى عليه .
ومن الفوائد :
الصواب أن الصلوات الخمس ليس لها وقتان اختياري واضطراري إلا صلاة العصر ، وألحق بعض العلماء صلاة العشاء فقالوا إن لها وقتين اختياري واضطراري فالاختياري إلى نصف الليل والاضطراري إلى طلوع الفجر الثاني .
ومن الفوائد :
أن صلاة المغرب تمتد إلى مغيب الشفق ، ولذلك وصف بأنه ( ثور ) وهو السطوع والبيان والظهور ، وضبط ( فور الشفق ) كما هنا أي فورانه ، فإذا سقط بمعنى غاب فقد خرج وقت صلاة المغرب ، وضبط بالنون ( نور الشفق ) ونسب صاحبه إلى التصحيف ، بمعنى أنه أنقص من كلمة ( ثور ) نقطتين فأصبح ( نور الشفق )
إذاً المضبوط ( فور الشفق ) أو ( ثور الشفق )
ومن الفوائد :
أن الذي عليه الفقهاء أن الشفق هو الحمرة التي تكون في الأفق ، هذا هو المشهور عند الفقهاء ، مع أن هناك من يرى أن الشفق هو البياض ، ولكن المشهور عند الفقهاء أن الشفق هو الحمرة .
ومن الفوائد :
أن فيه ردا على من قال إن وقت صلاة المغرب مضيَّق بمعنى أنه من حين ما تغرب الشمس يصليها ، فإذا أخرها فقد أخر الصلاة عن وقتها ، ودليله ما جاء في حديث جبريل عليه السلام ( أنه صلى برسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الأول صلاة المغرب بعد غروب الشمس وكذلك فعل في اليوم الثاني )
ولكن الحديث الذي معنا يبين أن المغرب ممتد إلى مغيب الشفق ، لأن ما ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما كان بمكة وهذا الحديث بالمدينة ، فإما أن يكون حديث جبريل منسوخا بهذا الحديث ، وإما أن يقال إن هذا الحديث الذي معنا فيه رخصة وزيادة خير من الله عز وجل للأمة ، إذ زاد لهم في وقت صلاة المغرب إلى هذا الوقت .
ومن الفوائد :
أن صلاة العشاء تنتهي بنصف الليل ، وهل هو وقت واحد كما أسلفنا ؟ أم أنه وقتان ؟ بمعنى أنه إلى نصف الليل وقت اختياري ، وما بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر الثاني وقت اضطراري ؟
هذا ما ذهب إليه بعض العلماء .
والصواب / أن صلاة العشاء تنتهي بنصف الليل لصراحة هذا الحديث الذي معنا ، ومن قال بأن لها وقتين استدل بحديث أبي قتادة رضي الله عنه عند مسلم ( ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى ) وسيأتي معنا إن شاء الله وسنبين وجه الدلالة لهم وكيف يجاب عن حديثهم .
ومما يؤيد أن صلاة العشاء تنتهي بنصف الليل قوله تعالى {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } يعني قراءة الفجر { إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً }الإسراء78
فبين سبحانه وتعالى أن الصلوات تبدأ من دلوك الشمس يعني من الزوال إلى غسق الليل ، فدل على أن ما بعد الزوال إلى غسق الليل وقت صلاة و{ غَسَقِ اللَّيْلِ } شد الظلمة ، وشدة الظلمة لا تكون إلا في منتصف الليل ، ثم جعل فاصلا بين غسق الليل وبين صلاة الفجر ، فدل على أن صلاة الفجر ليست مرتبطة بخروج وقت صلاة العشاء ، لأنه قال { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً }الإسراء78 ، ويؤيد هذا قوله تعالى { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ{1} مِن شَرِّ مَا خَلَقَ{2} وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ{3}
الغاسق : كما جاء عند الترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى القمر وقال لعائشة رضي الله عنها ( تعوذي بالله من شر هذا ، فإنه الغاسق إذا وقب )
ومعلوم أن القمر يكون غيابه في أواخر الليل أي بعد منتصف الليل وذلك حينما يذهب ثلثا الليل أو أقل من ذلك بقليل ، فسماه سبحانه وتعالى غاسقا باعتبار الزمن الذي يغيب فيه أو يغيب قريبا منه .
ومن الفوائد :
مر معنا في الحديث السابق أن ( صلاة العشاء إلى ثلث الليل ) وفي هذا الحديث ( صلاة العشاء إلى نصف الليل ) فما الجواب عن هذا ؟
سبق وأن ذكرنا كلام شيخ الإسلام رحمه الله ، ويمكن أن يدخل الحديث السابق في الحديث الذي معنا هنا ، وهو أن بعض الصحابة قال ( إلى ثلث الليل ) وقال آخرون ( إلى نصف الليل ) فكأن هذا تخمينا منهم رضي الله عنهم ، ومعلوم أنه إذا مضى ثلث الليل أصبح نصف الليل قريبا ، فلا يكون تعارض باعتبار أن بعض الصحابة حكم على تلك الصلاة بأنها إلى نصف الليل ، فيكون معنى قوله بعضهم ( إلى ثلث الليل ) أي حينما ذهب ثلث الليل .
ومن الفوائد :
أن صلاة الفجر ينتهي وقتها بطلوع الشمس .
ومن الفوائد :
أن فيه بيانا أن الصلوات قد حدد الشرع لها أوقاتا في البداية وفي النهاية ، فمن أوقعها في غير هذا الوقت فقد أوقعها في غير محلها ، فإذا أوقعها قبل دخول وقتها فصلاته باطلة ، وإذا أوقعها بعد انتهاء وقتها فخلاف بين العلماء ، وسبق ذكر هذه المسألة فيما مضى .
قال المصنف رحمه الله :
باب في وقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وكيف كان يصلِّيها ؟
حديث رقم -397-
( صحيح ) حدثنا مسلم بن إبراهيم ثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن محمد بن عمرو وهو بن الحسن بن علي بن أبي طالب قال : سألنا جابرا عن وقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال كان يصلي الظهر بالهاجرة ، والعصر والشمس حية ، والمغرب إذا غربت الشمس ، والعشاء إذا كثر الناس عجَّل وإذا قلُّوا أخَّر ، والصبح بغلس )
من الفوائد :
بيان أن صلاته صلوات ربي وسلامه عليه لصلاة الظهر إنما كانت بالهاجرة ، والهاجرة : هي شدة الحر ، ويكون ذلك بعد الزوال ، وسميت بهذا الاسم لأن الناس يهجرون أعمالهم اتقاء حر الشمس .
لو قال قائل : إن هذا يتعارض مع ما جاء الأمر بالإبراد بصلاة الظهر ، فلماذا يصليها في الهاجرة وهي شدة الحر ويكون بعد الزوال ؟
الجواب – وهذا بعد التأمل – أن صلاته صلى الله عليه وسلم هنا بالهاجرة لا يتعارض مع الأمر بالإبراد ، لم ؟
لأن الهاجرة كما عند بعض علماء اللغة تكون من الزوال إلى وقت الإبراد أو يحمل الحديث على أن هذا الزمن كله وهو أول صلاة الظهر إلى نهاية صلاة الظهر أن هذا الزمن كما أسلفنا يسمى هاجرة ولكن متى ما وجد شروط الإبراد أبرد وإلا فالأصل أنه يصلي الظهر من أول ما يدخل وقتها أي من الزوال ، فيحمل هذا الحديث على أن شروط الإبراد غير موجودة في هذا الفعل منه عليه الصلاة والسلام .
وقال بعض العلماء : يمكن أن يكون هذا الحديث منسوخا بالأمر بالإبراد .
ويمكن أن يكون هذا الحديث من باب بيان أن صلاة الظهر لو اشتد الحر فللمسلم من باب الجواز أن يصليها بعد الزوال وليس بمحرم ، إنما الإبراد سنة .
والقول بالنسخ قول ضعيف، وهي قاعدة ينبغي لطالب العلم أن يجعلها نصب عينيه [ لا نقول بالنسخ ما دام لنا مجال للجمع بين الدليلين ] أو كما يعبر عنها [ إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ] كما هي القاعدة في الأصول .
ومما يدل على النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في أول وقتها بعد الزوال أننا لو تأملنا الجمل التي بعدها لأدركنا أن جابرا رضي الله عنه أراد أن يبين أول أوقات الصلاة ، ماذا قال رضي الله عنه ؟ ( كان يصلي الظهر بالهاجرة ، والعصر والشمس حية ، والمغرب إذا غربت الشمس ، والعشاء إذا كثر الناس عجَّل وإذا قلُّوا أخَّر ، والصبح بغلس )
ومن الفوائد :
أن الأفضل في صلاة العصر أن تؤدى أول وقتها ، وهي قاعدة في هذا الباب ” الأفضل في جميع الصلوات أن تصلى في أول وقتها ” لأنه صلى الله عليه وسلم ( سئل أي الأعمال أحب إلى الله ؟ فقال الصلوات على وقتها ) وفي رواية عند الترمذي ( الصلوات لأول وقتها ) ولأن الصلاة أول الوقت من باب المسابقة إلى الخيرات ، إلا إذا دل دليل يخرج صلاة من هذه القاعدة ، كما جاء في صلاة الظهر في شدة الحر وكما جاء في صلاة العشاء كما في هذا الحديث .
ومن الفوائد :
أن قوله ( والشمس حية ) يعني أنها لم يدخلها الموت ، لأن ضد الحياة الموت ، متى تموت الشمس ؟ إذا بدأت الصفرة تدخل فيها ، بمعنى إذا تغير لون الشمس من الصفاء والإشراق إلى الاصفرار .
ومن الفوائد :
أن قوله ( والشمس حية ) الواو هنا حالية ، أي حالة كون الشمس حية ، والجملة الحالية كما أسلفنا مرارا تقيد الحكم ، فقيدت صلاته عليه الصلاة والسلام للعصر في زمن كون الشمس حية لم تذهب قوتها وحرارتها .
ومن الفوائد :
أن الأفضل في صلاة المغرب أن تؤدى في أول وقتها بعد غروب الشمس .
ومن الفوائد :
بيان مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لحال أصحابه رضي الله عنهم ، فكان يحب كما سيأتي معنا إن شاء تعالى – يحب أن يؤخر صلاة العشاء إلى ثلث الليل ، لكن مع ذلك إذا رأى الصحابة رضي الله عنهم اجتمعوا صلى مبكرا وإذا رآهم تأخروا تأخر مراعاة لأحوالهم ، لأنهم إذا بقوا إلى هذا الوقت المتأخر لم يؤدوا الصلاة على أكمل وجوهها من الخشوع وحضور القلب ، لأن النوم يدب في أعينهم ،والأحاديث في هذا كثيرة ( كانوا يضعون جنوبهم ) فدل على أن هذا الفعل يدخل ضمن القاعدة التي تقول [ إن الفضل المتعلق بذات العبادة أولى بالفضل المتعلق بزمانها أو مكانها ] فزمانها الأفضل فيه ثلث الليل ولكن مراعاة للخشوع وما شابه ذلك صلاها في أول وقتها من باب أن يظفروا على فضل الخشوع فيها .
ومن الفوائد :
أن أول وقت صلاة الفجر حينما يطلع الفجر الثاني ، والفجر نور ،والغلس ظلمة الليل المتبقية من الغسق ، فمعنى الغلس : هو اختلاط نور النهار بظلمة الليل ، وهذا دليل من قال من العلماء إن التغليس بصلاة الفجر أولى من الإسفار ، وقد مضت معنا هذه المسألة وستأتي إن شاء الله تعالى أيضا .
ورجحنا فيما سبق أن الأفضل في صلاة الفجر أن تؤدى بغلس فيخرج منها وقد ظهر نور الفجر أكثر وأكثر .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد .