الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
باب الأرض يصيبها البول
حديث رقم -380-
( صحيح ) حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وبن عبدة في آخرين وهذا لفظ بن عبدة أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة : أن أعرابيا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فصلى- قال بن عبدة – ركعتين ، ثم قال اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد تحجرت واسعا ، ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد فأسرع الناس إليه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين صبوا عليه سجلا من ماء أو قال ذنوبا من ماء )
ومن الفوائد :
أن الأعرابي : هو من سكن البادية سواء كان عربيا أم عجميا ، فمن سكنها ولو كان من حيث الأصل في المدن فإنه يعتبر أعرابيا ، ومن سكنها في القدم ثم تحضَّر وعاش في المدن فلا يطلق عليه أعرابي .
ومن الفوائد :
أن [ ياء ] النسب ، يفرق بها بين المفرد والجمع ، فالجمع ” أعراب “إذا أردنا أن نأتي بالمفرد أضفنا ياء النسب ” أعرابي ” وكذلك يفرق في بعض الجموع بين مفردها وجمعها بالتاء ، مثل ” بقر – بقرة ” تمر – تمرة ” .
ومن الفوائد :
أن بعض الشراح ذكر أن هذا الأعرابي هو ذو الخويصرة اليماني .
ومن الفوائد :
أن العيش في المدن وبين العلم وأهله يكون فيه نفع لصاحبه بخلاف من سكن الصحاري فإنه يجفو ويقسو قلبه ، ولذلك قال عز وجل {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }التوبة97
معنى الآية : أن الأعراب أشد كفرا ونفاقا من أهل المدن ، وليس معنى ذلك أن أهل المدن ليس فيهم نفاق وليست فيهم قسوة – كلا – لكن أهل المدن قلَّ فيهم باعتبار وجودهم عند العلماء ، ويؤكده أيضا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من سكن البادية جفا )
ولما عندهم من الغلظة وعدم التوقير فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينتظرون الأعرابي أن يأتي فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لجرأته على السؤال ، بينما هم رضي الله عنهم كانوا يخشون أن يسألوه سؤالا لا ينبغي أو لا يليق .
ومن الفوائد :
أن هذا الرجل من جفائه قال هذه الكلمات في الدعاء ( اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا ) فحجر رحمة الله عز وجل ، والحجر هو المنع ، ومعلوم أن رحمة الله عز وجل واسعة
{ ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ }الأعراف156.
ومن الفوائد :
أن في بعض الروايات ( فبال في طائفة المسجد ) فالطائفة : مفسرة هنا أي ( في ناحية المسجد )
ومن الفوائد :
أن البول قرب الناس مع ستر العورة لا بأس به ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بين مالا ينبغي أن يفعله هذا الأعرابي لم ينكر عليه البول قريبا من الناس وإنما أنكر عليه البول في المسجد ، وقد ثبت في الصحيحين ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبول أمر حذيفة أن يقف عند عقبه )
ومن الفوائد :
أن ( أل ) لها معاني ، من معانيها أن تكون للعهد ، فإنه ذُكر في قصة هذا الأعرابي ذكر المسجد ، أي المسجد المعهود في الذهن وهو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما لو قلت لزميلك الذي يحضر معك في درسنا ” هل حضرت الدرس بالأمس ؟ ” فيفهم من ذلك الدرس المعهود الذي تعاهد أن يحضره هو وزميله .
ومن الفوائد :
أن المنكر يجب أن ينكر شريطة ألا يترتب عليه منكر أكبر ، فالصحابة رضي الله عنهم أنكروا عليه ، وما زجرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنكارهم وإنما زجرهم لئلا يترتب على إنكارهم منكر أعظم وأكبر .
ومن الفوائد :
أن هذا الحديث دليل للقاعدة الشرعية [ ترتكب أدنى المفسدتين دفعا لأعلاهما ] أو ما يعبر عنه بعض العلماء [ يختار أهون الشرين ]
لأن زجرهم لهذا الأعرابي في ثنايا بوله لا شك أنه خير أن ينكر عليه ، لكن لو أنه زجر في تلك اللحظة زال منكر في ظنهم وهو عدم بوله ، لكن سيترتب على زجره منكرات متعددة ،من بينها :
أولا : أن البول لما كان في ناحية واحدة سيتناثر في نواحي متعددة ، فيكون في ذلك تلويث أكثر للمسجد .
ثانيا : أن هذا الرجل قد يصاب بمرض في أعضائه التناسلية إذا زجر وقطع عليه بوله .
ثالثا : أنه ربما يرتد عن الدين إذا رأى هذه الغلظة والشدة ، لاسيما وأنه قال في دعائه ( اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا )
رابعا : أن ثيابه قد تتلوث بهذا البول .
خامسا : أن عورته قد تنكشف أثناء زجره ، إلى غير ذلك من المفاسد .
ومن الفوائد :
مشروعية صلاة ركعتين عند دخول المسجد والجلوس فيه ، فإن الظاهر من هاتين الركعتين أنهما سنة .
ومن الفوائد :
أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكد على الصحابة إنكار المنكر ولكن بالطريقة المناسبة التي تترتب عليها المصالح ، ولذلك قال ( إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) وكرر الجملة الثانية مع أنها من حيث المعنى داخلة في الجملة الأولى ، وهذا عند البلاغيين بما يسمى ( بالطرد والعكس ) من باب التأكيد ، لأنه يفهم من قوله عليه الصلاة والسلام ( إنما بعثتم ميسرين ) يفهم عدم التعسير ، فلو اكتفى بإحدى الجملتين لدخلت الأخرى ، لكن هذا من باب التأكيد على الداعية ليكون لطيفا رقيقا ، لأن ثمرة الهداية ونتائجها ليست بيدك ، فما عليك إلا أن تقرب قلوب الناس إلى دين الله عز جل ، إن استجاب فبما ونعت وإن لم يستجب فقد بذلت ما في وسعك .
ومن الفوائد :
أن بعض الروايات جاء فيها ( فزجره الصحابة ) وفي رواية ( مَهْ مَهْ ) يعني اكفف ، ويمكن أن هذه الروايات لما تعددت أن بعض الصحابة قال بعض الجمل والبعض الآخر ذكر الجملة الأخرى .
ومن الفوائد :
أن على الداعية أن يبين لفاعل المنكر ما ينبغي أن يفعله ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له ( لقد تحجَّرت واسعا ) لما دعا بذلك الدعاء ، وأيضا قال له ( إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من هذا القذر إنما هي للتسبيح والصلاة وقراءة القرآن ) .
ومن الفوائد :
أن الشرع لما نهى عن البول في الطرق العامة كان من الأولى أن يكون النهي ولو لم يأت هذا الدليل أن يكون النهي في المساجد ، لأنها ملتقى ومجمع المسلمين الديني .
ومن الفوائد :
أن بول الآدمي نجس حتى ولو كان بول الغلام الرضيع الذي لم يأكل الطعام ، لكن نجاسة بوله كما سبق مخففة ، ما معنى مخففة ؟ يصب عليها الماء دون أن تغسل وتفرك .
ومن الفوائد :
أن الأرض وما يتصل بها من أحجار وصخور إذا تنجست بأي نجاسة كما نص على ذلك الفقهاء ، سواء كانت نجاسة مخففة أو متوسطة أو مغلظة كنجاسة الكلب ، فإن تطهيرها يكون بصب الماء عليها حتى يذهب أثر النجاسة .
ومن الفوائد :
أن ( السَجْل ) أو ( الذنوب ) هو الدلو الكبير المملوء بالماء ، فإذا لم يكن فيه ماء فلا يسمى لا سجلا ولا ذنوبا .
ومن الفوائد :
أنه قال هنا ( ” سجلا من ماء” أو قال ” ذنوبا من ماء ” )
فهل ( أو ) للشك كما هو محتمل ؟ أو أن معنى ( أو ) الترادف ، لأن السجل هو الذنوب ، وهذا هو الأقرب ، لأن الروايات الأخرى لم تأت بالشك ، فالسجل أو الذنوب شيء واحد .
ومن الفوائد :
أن من طرق غسل النجاسة أن تكاثر بالماء ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأرض .
ومن الفوائد :
أن النجاسة إذا غسلت بالمكاثرة فإن غسالة النجاسة طاهرة ، فإذا ذهبت النجاسة بالمكاثرة فإن غسالة النجاسة فيما يظهر أنها طاهرة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صب عليها الماء ، فلو لم تكن الغسالة طاهرة لزادها هذا الصب تلويثا ، هذا إذا كان الماء كثيرا أما إذا كان قليلا فلا يدخل هنا ، لأن السجل أو الذَنوب هو الدلو الكبير المملوء بالماء .
ومن الفوائد :
أن في هذا الحديث دليلا للحنابلة الذين قالوا إن النجاسة لا تزال إلا بالماء ، فلو زالت بمنظفات أو بمواد أخرى ، فإنها لا تطهر ، لم ؟ قالوا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صب الماء عليها .
والصواب / أن النجاسة عين مستقذرة متى ما زالت زال حكمها ” .
ومن الفوائد :
أن النجاسة إذا كانت على الأرض وكان لها جرم فإنه لابد أن يزال هذا الجرم ثم يصب الماء ، أما إذا كانت نجاسة سائلة كحال بول هذا الأعرابي فصب الماء كافي .
ومن الفوائد :
أن في بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم ( أمر أن يزال التراب الذي بال عليه هذا الأعرابي ويلقى خارج المسجد ويصب على مكانه الماء ) فأخذ بها بعض العلماء .
والصواب / أن صب الماء كافي ، أما ما ورد من هذه الروايات فإنها روايات ضعيفة لا تصح ، ومع أنها ضعيفة من حيث السند ، فإنها ضعيفة من حيث المتن ، لم ؟ لأنه لو أمر بإزالة التراب الذي بال عليه الأعرابي لما كانت هناك حاجة أن يصب عليها الماء .
ومن الفوائد :
أن بعض العلماء خصص الأرض الرطبة ، أما إذا كانت صلبة لا تشرب السوائل فلا تأخذ هذا الحكم .
والذي يظهر أنه عام ، اللهم إلا إذا كان مبلطا ، فهذا لا يأخذ نفس هذا الحكم .
ومن الفوائد :
قال بعض العلماء إن دعاء إنما كان بعدما زجره الصحابة ، لكن ظاهر الرواية يدل على أن الدعاء هو المتقدم .
ومن الفوائد :
أن أهل الصلاح قد يبدر منهم عن حسن نية ما قد يكون خطأ كما حصل لهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم مع أن لهم فضلا ومكانة وقدرا ، فعلى من يعيش في هذا العصر أن يغض الطرف عن ما يصدر من بعض أهل الخير والصلاح في قضايا إنكار المنكر وما شابه ذلك ، لا يعذر الإنسان فعليه أن يتعلم وأن يتدرب على الطريقة النبوية ، ولكن لو صدر منهم ما صدر فيكون له قدوة في ذلك ، فالصحابة رضي الله عنهم جرى منهم مثل هذا الشيء، وهذه طبيعة ابن آدم لا يمكن أن يكون على درجة الكمال والتمام .
وسيأتي في الباب الذي يليه إن شاء الله طرق أخرى في تطهير الأرض في حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
حديث رقم -381-
( صحيح ) حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا جرير يعني بن حازم قال سمعت عبد الملك يعني – بن عمير – يحدث عن عبد الله بن معقل بن مقرِّن قال ” صلى أعرابي مع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه القصة قال فيه وقال يعني النبي صلى الله عليه وسلم ” خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماء ”
قال أبو داود : وهو مرسل بن معقل لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم .
والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد