بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
باب بول الصبي يصيب الثوب
حديث رقم -375-
( حسن صحيح ) حدثنا مسدد بن مسرهد والربيع بن نافع أبو توبة المعنى قالا ثنا أبو الأحوص عن سماك عن قابوس عن لبابة بنت الحرث قالت ” كان الحسين بن علي رضي الله عنه في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال عليه فقلت البس ثوبا وأعطني إزارك حتى أغسله ، قال إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر ” )
من الفوائد :
هذا الحديث يتبع الحديث السابق الذي بين حكم النجاسة المخففة وهي نجاسة بول الغلام الرضيع الذي لم يأكل الطعام
ومن الفوائد :
بيان رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالأولاد ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يضعهم في حجره ويلاعبهم ويلاطفهم ، وهذا يدل على رقته صلى الله عليه وسلم .
ومن الفوائد :
أن الأصل في الصبي الطهارة ولا يلتفت إلى الظنون حتى يحصل يقين بخروج النجاسة منه ، فإذا حمل المصلي طفلا ذكرا كان أو أنثى فإن صلاته صحيحة ولا يلتفت إلى الظنون والشكوك ، فلربما طرأ عنده أن هذا الطفل قد بال في ثيابه أو أن ثيابه كانت متنجسة فلا يلتفت إلى هذه الأشياء .
ومن الفوائد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم فرَّق بين بول الجارية وبين بول الغلام ، فبول الجارية يغسل وبول الغلام يرش بالماء .
لو قال قائل : ما الحكمة في ذلك ؟
الجواب / أعظم الحكم أن هذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنحن حينما نبحث عن الحكم نضع أول حكمة هذه الحكمة ، وهي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو نهيه ، لما جاء في الصحيحين ( أن امرأة سألت عائشة رضي الله عنه ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ ) فهي سألت عن الحكمة ، فردتها عائشة رضي الله عنها إلى أعظم الحكم ( فقالت رضي الله عنها كان ذلك يصيبنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ) ولا حرج ولا جناح على الإنسان أن يسأل عن الحكمة ، والأدلة على ذلك كثيرة منها ما جاء في صحيح مسلم لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم النساء فقال ( إني رأيتكن أكثر أهل النار ، فقامت امرأة جزلة ) يعني صاحبة رأي ( قالت لم يا رسول الله ؟ قل بكفرهن ، قالت يكفرن بالله ؟ قال لا ، يكفرن العشير ) يعني الزوج ( لو أحسن إلى إحداكن الدهر كله ثم رأت منه شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط )
فلا بأس أن يسأل عن الحكمة ، ولكن الحرج والإثم أن يتوقف الإنسان عن فعل الأوامر أو ترك النواهي حتى تستبين له الحكمة ، هذا من أعظم ما يكون من الذنوب ، إذا أتاك أمر الله عز وجل فائتمر ، إذا أتاك أمر الشرع تأتمر وإذا أتاك نهي الشرع تنتهي ، قال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً }الأحزاب36، ليس لك خيار ، أنت عبد ويجب عليك أن تتعبد لله عز وجل بفعل الأمر أو بترك النهي ، فإذا عمل الإنسان الشيء أو تركه ولم يعرف حكمته كان ذلك أبلغ في انقياده وإذعانه لأوامر الشرع ، وإذا استبانت له الحكمة فعمل بما اقتضاه الشرع كان ذلك أبلغ في الاطمئنان ، فإن الإنسان إذا علم حكمة الشيء اطمأن قلبه ، فيا ترى ما هي الحكمة التي استنبطها العلماء من رش بول الغلام وغسل بول الجارية ؟
قال بعض العلماء : حصل التفريق دفعا للمشقة ، وذلك لأن الأولاد الذكور يُحملون غالبا فيفرح بهم أكثر من الأنثى ويؤتى بهم في المجالس ، بينما الجواري يندر ما يؤتى بها إلى المجالس ، فحملها أقل من حمل الذكور ، فخفف الشرع في حق الغلام دفعا للمشقة .
وقال بعض العلماء : يرش من بول الغلام لأن بوله ينحصر بينما بول الجارية ينتشر ، فانتشاره أكثر وأوسع من بول الغلام .
وقال بعض العلماء : لأن بول الغلام مستلطف بمعنى أن لدى الذكر من القوة في تلطيف الطعام ما ليس لدى الجارية ، فإن لديه قوة في بدنه تجعل هذا البول أخف من بول الجارية .
وهذه حكم استنبطت وربما تستنبط حكم أخرى ، المهم أن هذا هو أمر الشرع .
ومن الفوائد :
أن الصغيرة يمكن أن يطلق عليها أنثى ، فإن كلمة الأنثى ربما تطلق على البالغة وغير البالغة ، وذلك لأن الحكم في مقابل الطفل الصغير ، فربما توصف بأنها جارية وربما توصف بأنها أنثى .
ومن الفوائد :
أن الحكم هنا خاص ببوله ، فهل يدخل في ذلك قيء الغلام الرضيع الذي لم يأكل الطعام ؟
قولان لأهل العلم ، والصواب أنه لا يدخل لأن الأصل في النجاسات أن تغسل ، لكن الشرع خفف في بوله فيبقى ما عداه من النجاسات على الحكم الأول وهو الغسل .
ومن الفوائد :
أن غائط الذكر الرضيع حكمه الغسل ، فغائط الغلام الرضيع كحكم بول الجارية ، لأن الشرع نص على بول الرضيع .
لو قال قائل : ما يرضع به الأطفال في هذا العصر من الحليب المعلب المجفف ، أيأخذ هذا الحكم أم لا ؟
الجواب / لا يأخذ هذا الحكم لأن المقصود هو لبن الأم ، أما هذا الحليب المجفف فإنه من الطعام ، فإذا شربه وتغذى به كما هو حاصل في هذا الزمن يكون قد صدق عليه وصف أكله للطعام ، فإذا بال من يشرب ذلك الحليب المجفف فإن حكم بوله يغسل ولا يرش .
ومن الفوائد :
أن بعض العلماء يرى أن بول الغلام يغسل ولا ينضح ، لم ؟
قالوا لأن النضح من معناه الغسل .
ويرد عليهم بأدلة كثيرة ، لكن مكمن الاستشهاد من هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرَّق بين بول الأنثى وبين بول الغلام فقال ( إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر ” ) فدل على أن النضح في بول الغلام ليس كالغسل وإلا لكان هذا التفريق عبثا ، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بشيء لا فائدة منه .
ومن الفوائد :
أن بول الغلام نجس ، لكنه نجاسته نجاسة مخففة ، فلا يظن أحد أنه طاهر .
حديث رقم -376-
( صحيح ) حدثنا مجاهد بن موسى وعباس بن عبد العظيم العنبري المعنى قالا ثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثني يحيى بن الوليد حدثني محل بن خليفة حدثني أبو السمح قال ” كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا أراد أن يغتسل قال ” ولني قفاك ” فأوليه قفاي فأستره به ، فأتي بحسن أو حسين رضي الله عنهما فبال على صدره فجئت أغسله فقال يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام ” )
قال عباس حدثنا يحيى بن الوليد قال أبو داود وهو أبو الزعراء قال هارون بن تميم عن الحسن قال الأبوال كلها سواء .
من الفوائد :
أن خدم النبي صلى الله عليه وسلم متعددون ، وهؤلاء الخدم رضي الله عنهم أحبوا ذلك ورغبوا فيه ، فترك لهم النبي صلى الله عليه وسلم المجال لتحقيق رغبتهم ، وإلا لم يكن هذا من أمر صادر منه .
ومن الفوائد :
أن الستر يحصل بأي نوع من أنواع الستر ، فكان أبو السمح رضي الله عنه يولي قفاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يعطيه ظهره ليستره ، فيكون وجه أبي السمح في الجهة المقابلة .
ومن الفوائد :
أن البول ما حصل على صدر النبي صلى الله عليه وسلم وإنما حصل على الثياب التي تستر صدره صلى الله عليه وسلم .
ومن الفوائد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذه الرواية أن النضح المذكور في الحديث السابق هو الرش ، قال ( يرش ) .
حديث رقم -377-
( صحيح موقوف ) حدثنا مسدد ثنا يحيى عن بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال : يغسل من بول الجارية وينضح من بول الغلام ما لم يطعم )
من الفوائد :
هذا موقوف على علي رضي الله عنه .
والموقوف : ما رواه التابعي .
والمرفوع : ما رواه الصحابي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
والمقطوع – ويختلف عن المنقطع – فالمقطوع ما رواه التابعي ومن بعده ، والمقصود ما رواه عن نفسه ولم ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، لو نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم صار مرسلا .
فإذا قال الصحابي قولا فهذا موقوف ، وإذا قال التابعي فمن بعده قولا فهذا مقطوع ، لكن لو أن التابعي ومن بعده قال قولا ونسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون مرسلا
ومن الفوائد :
أن عليا رضي الله عنه قيَّد بالطعام بـ ( ما لم يطعم ) فإذا أكل الطعام فإن حكم بوله ينتقل إلى الغسل ، فيكون من النجاسات المتوسطة التي تغسل .
حديث رقم -378-
( صحيح ) حدثنا بن المثنى ثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ” فذكر معناه ولم يذكر ” ما لم يطعم ” زاد قال قتادة ” هذا ما لم يطعما الطعام فإذا طعما غسلا جميعا ” )
من الفوائد :
هذا يقرر ما سبق من أن نجاسة بول الغلام تنتقل إلى النجاسة المتوسطة إذا أكل الطعام .
والمقصود من أكل الطعام ” أن تشرئب نفسه إليه ، فإذا وضع شيء من الطعام في فمه كما تضع بعض الأمهات في فم أطفالهن شيء من الطعام فإنه لا ينتقل عن حكم النجاسة المخففة ، لأن الطفل لم تشرئب نفسه إليه ، لكن إذا رأى الطعام وصاح إذا رآه هنا ينتقل الحكم إلى الغسل .
ومما يؤكد هذا : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحنك الأطفال بالتمر إذا ولدوا ، والتمر طعام ، فلما كان هذا التحنيك من غير رغبة من الطفل وإنما يوضع هكذا في فمه ، لم يخرج عن كونه طفلا رضيعا يتغذى باللبن .
حديث رقم -379-
( صحيح ) حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر ثنا عبد الوارث عن يونس عن الحسن عن أمه : أنها أبصرت أم سلمة تصب الماء على بول الغلام ما لم يطعم فإذا طعم غسلته ، وكانت تغسل بول الجارية )
من الفوائد :
بيان فضل القرون المفضلة ، فإن بعضهم يأخذ من بعض حتى ولو كان من أهل بيته ، فإن الحسن أخذ الحكم من أمه خيرة التي كانت مولاة لأم سلمة ، وهذا يدل على أن بيئة القرون المفضلة بيئة صالحة متعلمة خيرة ، بل إن أفراد الأسرة الواحدة يتوارثون العلم فيما بينهم ، بخلاف ما يحصل في هذا الزمن لما تغيرت بيئة الأسر تغيرت بيئة المجتمع بأسره ، لأن الأسرة هي نواة المجتمع ، فلو صلحت أسر المسلمين صلح المجتمع ، لأن المجتمع مكون من الأسر .
ومن الفوائد :
أن أم سلمة رضي الله عنها بينت وصف الرش ، وذلك بأن يصب الماء ، فلو قال إنسان كيف ننضح ؟
نقول افعل كما فعلت أم سلمة ، فتصب الماء صبا من غير فرك ولا دلك ، فصب الماء يعد رشا .
ومن الفوائد :
أن الأحاديث لم تتعرض لنفض هذا الماء أو لتجفيفه ، فدل على يسر الشريعة .
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .