بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
حديث رقم -399-
( حسن ) حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا ثنا عباد بن عباد ثنا محمد بن عمرو عن سعيد بن الحرث الأنصاري عن جابر بن عبد الله قال : كنت أصلي الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآخذ قبضة من الحصى لتبرد في كفي أضعها لجبهتي أسجد عليها لشدة الحر )
من الفوائد :
أن في ظاهره دلالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعجل بصلاة الظهر ، وإلا لما احتاج جابر رضي الله عنه إلى أن يبرد الحصى ، فكيف يوفق بين هذا وبين حديث الأمر بالإبراد ؟
يوفق بينهما قال بعض العلماء : من أن هذا الفعل قبل أن يأتي الأمر بالإبراد .
وقال بعض العلماء : إن هذا من باب جواز أداء صلاة الظهر وقت شدة الحر في أول وقتها .
وقال بعض العلماء : لا تعارض ، فيكون هذا الفعل منه عليه الصلاة والسلام حال الإبراد ولكن مع العلم أنه لو أبرد بصلاة الظهر فإن الحر لا يزول كلية ، فتبقى منه بقية حر ، لكن وهجان الحر ينكسر بعد صلاة الظهر ولا يعني أن حرارة الشمس تزول كلية ، فيبقى حرها في الحصى .
وقد يعكر على هذا ” ما فائدة الإبراد ” ؟
فيجاب عن هذا من أن فائدة الإبراد أن يحصل ظل للحيطان يسير الناس فيه إلى المسجد أو أن يكون هناك ظل في المسجد يصلون فيه
ومن الفوائد :
أن العمل اليسير في الصلاة لا يؤثر ، لأن تبريد جابر رضي الله عنه للحصى فيه عمل ، وهذا العمل قد يزيد على ثلاث حركات ، فيرد به قول من يقول ” إن ثلاث حركات فأكثر في الصلاة يبطلها ” فيرد بهذا الحديث على قوله ، وهناك أدلة أخرى ترد على هذا القول ، فهذا القول ضعيف .
فتكون الحركة اليسيرة جائزة لاسيما إذا كانت الحركة لمصلحة الصلاة ، فإن جابرا رضي الله عنه أراد بهذه الحركة أن يتمكن من السجود .
ومن الفوائد :
بيان ما كان عليه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا يوجد به فرش وإنما هو الحصى .
ومن الفوائد :
أن بعض العلماء قال ” فيه النهي عن أن يصلي الإنسان على طرف ثوبه أو ردائه ” لأنه لو كان جائزا لفعله جابر رضي الله عنه .
ويجاب عن هذا : بأن جابرا رضي الله عنه قد لا يكون هناك طرف لردائه أو ثوبه حتى يصلي عليه ، ومما يدل على الجواز في حال الحاجة – لأنه مع عدم الحاجة يكره ولا يصل إلى التحريم – فمما يدل على الحاجة ما جاء في صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله عنه قال ( كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فيبسط أحدنا ثوبه فيسجد عليه ) وفي رواية عند مسلم ( فإذا لم يستطع أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فصلى عليه ) فقوله ( لم يستطع ) يدل على أنهم لم يكونوا يفعلوا ذلك إلا عند الحاجة ، فيكون مكروها إن لم تكن هناك حاجة .
ومن الفوائد :
أن في هذا الحديث دلالة على أن السجود على الأنف دون الجبهة لا يكون مجزئا ، فلو أجزء لفعل لفعله جابر وسجد على أنفه ولم يسجد على جبهته .
سؤال : ما حكم السجود على الحائل ؟
الجواب /
السجود على الحائل له ثلاث حالات :
الحالة الأولى :
أن يسجد على عضو من أعضاء السجود كأن يسجد على يده فهذا لا يصح سجوده ، لأنه لم يسجد على الأعضاء السبعة .
الحالة الثانية :
أن يسجد على شيء متصل به ، مثل الشماغ ، مثل الثوب ، فهنا يكره إلا عند الحاجة كما في حديث أنس رضي الله عنه .
الحالة الثالثة :
أن يسجد على شيء منفصل عنه ، كبساط أو فرشة أو ما شابه ذلك فيجوز، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، سجد على الخمرة وسجد على البساط وسجد على الحصير .
وأما المسجود عليه إذا قلنا بالجواز فيشترط الفقهاء أن يكون مستقرا ، فلو سجد على شيء غير مستقر فلا يصح سجوده لأنه لم يسجد على الأرض حقيقة .
حديث رقم -400-
( صحيح ) حدثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا عبيدة بن حميد عن أبي مالك الأشجعي سعد بن طارق عن كثير بن مدرك عن الأسود أن عبد الله بن مسعود قال ” كانت قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام )
من الفوائد :
أن ابن مسعود رضي الله عنه بيَّن متى يدخل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر في فصل الصيف وفي فصل الشتاء ، فإذا كان في فصل الصيف يدخل إذا كان الظل ثلاثة أقدام ، إذا بلغ طول الظل الأصلي والزائد يعني إذا بلغ جميع الظل ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام صلى .
وإذا كان في الشتاء إذا بلغ هذا الظل خمسة أقدام إلى سبعة أقدام .
على هذا سيكون الظل في الشتاء أطول منه في الصيف ، فأين يأتي الإبراد ؟
الجواب عن هذا : أن الظل في الشتاء يكون أطول عادة من الصيف ، لأن هذا يختلف باختلاف موقع الشمس ، فإذا كانت قريبة من الرؤوس كان الظل أطول ، وإذا كانت بعيدة كان الظل أقصر ، ثم هو يختلف باختلاف المدن ، ففي الحجاز يختلف عن الشام ، فهو يختلف باختلاف البلدان .
قد يقول قائل :
هنا في الصيف يصلي الظهر إذا كان الظل ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام ، وهذا يتعارض مع الحديث الآتي ( فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما أذن في صلاة الظهر حتى رأى الصحابة رضي الله عنه فيء التُلول ) فيكون ذلك قريبا من صلاة العصر ، فكيف نوفق بينهما ؟
نوفق بينهما / من أن الإبراد ليس محصورا في آخر وقت صلاة الظهر ، بل لو سبق هذا الوقت وقت قبله فلا بأس بذلك ، المهم أن شدة الحر تخف وتنكسر ، حتى يحصل نوع من أنواع الإبراد .
حديث رقم -401-
( صحيح ) حدثنا أبو الوليد الطيالسي ثنا شعبة أخبرني أبو الحسن – قال أبو داود أبو الحسن هو مهاجر – قال سمعت زيد بن وهب يقول سمعت أبا ذر يقول ” كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فأراد المؤذن أن يؤذن الظهر ، فقال أبرد ، ثم أراد أن يؤذن ، فقال أبرد مرتين أو ثلاثا ، حتى رأينا فيء التلول ، ثم قال إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة )
من الفوائد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإبراد إلى أن رأى فيء التلول ، وهو جمع ” تل ” وهو ما اجتمع على الأرض من رمل ونحوه ، ومعلوم أن التل بهذه الصورة لا يكون شاخصا ، إنما يكون منبطحا ، فلا يظهر له ظل إلا إذا كان ذلك في آخر وقت صلاة الظهر .
وهذا يعارض ما مضى من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، والتوفيق بينهما كما أسلفنا آنفا ” أن الإبراد ليس له حد معين ، وإنما الضابط فيه إذا انكسرت حرارة الشمس وخفت “
ومن الفوائد :
أن هذا الحديث استدل به بعض العلماء على أن الأذان للصلاة وليس للوقت ، فإنه دخل الوقت وأمره أن يبرد وكرر ذلك عليه ، فلما أراد أن يصلي عليه الصلاة والسلام أذن له بالأذان ، فدل هذا على أن الأذان للصلاة .
بينما علماء آخرون يرون أن الأذان للوقت لحديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم ) فكيف الجواب عن هذا الحديث ؟
قال من يرى أن الأذان للوقت : لو أنه أذن لأتى الصحابة رضي الله عنهم لأنهم سباقون للخير ، فمتى ما سمعوا الأذان أتوا ، وإذا أتوا وانتظروا سيطول بهم الزمن إلى أن تقام الصلاة ، فمن باب التخفيف عليهم أمر أن يؤخر الأذان إلى وقت الشروع في الصلاة .
والظاهر أن يؤخذ بهذا الحديث ، فالسنة ألا يؤذن إلا إذا أراد الصلاة
ومن الفوائد :
( أن شدة الحر من فيح جهنم )
الفيح : السعة والانتشار ، يقال ” مكان أفيح ” يعني واسع ” فهذا يدل على أن جهنم لها سعة وانتشار ، فيبرد بالصلاة ، هل هذه الحرارة وشدتها من فيح جهنم أو أنه ليس على ظاهره ، فيكون مجازا عند بعض العلماء ويرى آخرون بأنه أسلوب آخر ؟
قال بعض العلماء : ( من فيح جهنم ) تشبيها لهذه الحرارة بحرارة جهنم ، فاتقوا نار جهنم ، إذا لم تطيقوا حر هذه الشمس فعليكم أن تتقوا الحرارة العظمى التي تكون في جهنم .
وقال بعض العلماء : إن هذا الحديث على ظاهره – وهو الصواب – لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أذن للنار بنفسين نفس في الصيف ونفس في الشتاء ، فأشد ما تجدون من الحر من سمومها )
لو قال قائل : إذا كان الحر من فيح جهنم ألا يكون من المناسب أن تؤدى الصلاة في شدة الحر لأنه تقرب إلى الله عز وجل فيخفف العذاب ، لأنه جاء عند مسلم من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه ( إذا قام قائم الظهيرة فأقصر عن الصلاة فإن جهنم تُسجَّر ) أي توقد ويزاد في حرارتها ، ألا تكون الصلاة مخففة لهذا العذاب ؟ ومعلوم أن العبادة تخفف العذاب ؟
الجواب /
قال بعض العلماء : هذا الحديث على ظاهره ولا يتحدث عنه فنأخذ به من غير أن نبحث عن مراده .
وقال بعض العلماء – كما نقل ذلك ابن حجر رحمه الله – وهو رأي جيد ” من أن الصلاة لا شك أنها خير وفيها طلب ، ولكن الطلب قد لا يتناسب مع شدة الغضب ” لأن شدة فيح جهنم من غضب الجبار عز وجل ، فلا يتناسب أن تطلبه في تلك الساعة ، ويدل لهذا ما جاء في حديث الشفاعة كما في الصحيحين ، قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن ربي غضب غضبا لم يغضب قبله ولن يغضب بعده ) وكل الأنبياء قالوا ( نفسي نفسي ) فلم يطلبوا الله عز وجل لأن المقام مقام غضب ، وهذا القول فيه نوع من الجودة .
وللحديث تتمة إن شاء الله تعالى ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .