بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
باب في كنس المسجد
حديث رقم – 461-
( ضعيف ) حدثنا عبد الوهاب بن عبد الحكم الخزاز أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن بن جريج عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها )
هذا الحديث الذي ذكره أبو داود رحمه الله هو ضعيف من حيث السند ، ولكن مما ينبغي أن يتحدث عن هذا الحديث لورود بعض الجمل التي دلت عليها النصوص الأخرى ، فهذا الحديث يستفاد منه :
أن الإنسان إذا كان محاسبا على القََذاة وهي الشيء اليسير الذي يعلق بالعين ، إذا كان محاسبا عليها فغيرها مما هو أكبر من باب أولى ، ولذا قال عز وجل فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ{7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ{8} ، فإذا كان الإنسان سيحاسب في أعماله على ما هو في وزن النملة الصغيرة ، إذاً ما هو بحجم الجبل من باب أولى .
ومن الفوائد :
أن هناك أمرا للبخاري رحمه الله فيما يتعلق بالقذاة ، وهو أنه رحمه الله كانت هناك قذاة في لحيته ، فرآها بعض الجالسين فأخذها وطرحها في المسجد ، فجعل البخاري رحمه الله يسارق الجالسين النظر ، فلما رآهم غفلوا بأبصارهم عنه أخذها رحمه الله ثم وضعها في ثوبه ، فلما خرج ألقاها ، فإذاً هو رحمه الله صان المسجد عما تصان عنه لحيته ، فدل على أن رعاية المسجد صيانة ونظافة وتطهيرا مما عهد في الشرع ومما عهد في سلف هذه الأمة .
ومن الفوائد :
أن هنا ما يسمى بمفهوم الموافقة ، ومفهوم الموافقة يختلف عن مفهوم المخالفة عند الأصوليين ، فمفهوم الموافقة أن يكون المفهوم أولى بالحكم من المنطوق ، فإذا كانت القذاة إذا أخرجت من المسجد تُعرض – لو صح هذا الحديث – إذاً ما كان أعظم في الأذى من باب أولى ، وهذا يدل عليه قوله تعالى { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ{7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ{8} ، فلا يفهم أن العظيم أنه لا يدخل – لا .
ومن الفوائد :
استدل بهذا الحديث بعض العلماء على تفسير قوله تعالى {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى }طه126 ، وهذا هو أحد الأقوال في تفسير الآية ، أن من نسي آية بعدما حفظها أنه يعاقب ويحاسب ، ولكن جمهور المفسرين يرون أن الآية نزلت في المشرك ، لما أعرض عن آيات الله عز وجل فإنه يعاقب ، ولو سلمنا بصحة هذا الحديث ، فلربما يقول قائل : إن النسيان عذر ؟
فيقال : لو صح هذا الحديث ، فالمقصود النسيان الذي صحبه تفريط وإهمال ، فلو أن الإنسان نسي فإنه لا يحاسب .
وقد أتت هنا أو ويراد منها التنويع ، قال ( سورة أو آية ) يعني نسي سورة أو نسي آية ، كما يقال ” تزوج هندا أو أختها ” فـ ” أو” هنا للتنويع .
باب في اعتزال النساء في المساجد عن الرجال
حديث رقم – 462-
( صحيح ) حدثنا عبد الله بن عمر وأبو معمر ثنا عبد الوارث ثنا أيوب عن نافع عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لو تركنا هذا الباب للنساء “
قال نافع : فلم يدخل منه بن عمر حتى مات “
وقال غير عبد الوارث قال ” عمر ” وهو أصح .
من الفوائد :
هذا الحديث بعض العلماء قال إنه موقوف على عمر رضي الله عنه .
وبعضهم قال إنه من مسند ابنه ابن عمر ، فيكون مرفوعا .
والصواب في مثل هذا : أن هذا الحديث ورد موقوفا على عمر رضي الله عنه من قوله ، وورد مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا أتى الحديث من طريقين من طريق مرفوع ومن طريق موقوف ، فيؤخذ بالمرفوع ، لأن من رفع عنده زيادة علم ، فإذا كان هذا الرافع ثقة فإن زيادته تكون مقبولة .
ومن الفوائد :
أن في هذا الحديث صفعة لأولئك الذين يقولون بجواز الاختلاط ، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم خصص بابا من أبواب المسجد للنساء – لكون هذا الحديث مرفوعا – وبكونه موقوفا درج على هذا الأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، المُوَفَق ، المُلْهَم ، المُسَدد ، فكيف يقال بجواز الاختلاط ، فهذا الحديث مما يرد به عليهم ، فكونه عليه الصلاة والسلام يخصص بابا من أبواب المسجد للنساء ، هؤلاء الرجال وهؤلاء النساء سيأتون إلى أي مكان ؟ إلى مكان يتعبد الله عز وجل فيه ، إذاً النفوس طيبة ، النفوس تقية ، ومع ذلك منع الرجال من أن يدخلوا من هذا الباب خيفة من أن يختلطوا بالنساء ، ثم هذا الفعل وهذا القول في أي عصر ؟ في عصر الطهر والعفاف والتقى ، في عصر النبوة ، في جيل الصحابة رضي الله عنهم ، في جيل الصحابيات رضي الله عنهن ، ثم أين نحن من قول أم سلمة رضي الله عنها كما عند البخاري قالت ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في مصلاه بعدما ينصرف من النساء ، قالت كنا نرى ذلك من أجل أن ينصرف النساء قبل أن يرهن الرجال )
ليسوا في سوق وليس في محفل وليس في مجمع – لا – ولذلك قال عز وجل { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ }الأحزاب53 ، وهذا خطاب موجه للصحابة رضي الله عنهم ولأمهات المؤمنين رضي الله عنهن ، فالريبة بعيدة عنهم ، فكيف تقادم العصور التي أتت بعدهم ؟!
لو قالوا إن الاختلاط حصل في الأسواق حينما تذهب المرأة وتشتري بعض حاجياتها ؟
فيقال : وهل في هذا محذور ؟ ليس هناك محذور ، متى ما دعت الحاجة إلى ذلك وكانت المرأة في ستر وعفاف وليس ثمة فتنة ، والعصر تقي نقي ، هنا لا إشكال في ذلك ، في القدم في عهد مشايخنا كان موجودا ذلك ، وقد أدركنا بعض الشيء وإن كنا لم ندرك عهد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ، لكن أدركنا قبل ثلاثين سنة وما شابه ذلك حال النساء في الأسواق ، كانت المرأة تخرج وعباءتها على رأسها وسوداء ليس فيها شيء من الزخرفة ، ثم عليها غطاء على الوجه من ثلاثة أغطية ، ومع ذلك تضع جزءا من عباءتها على غطائها فلا تخرج إلا العينين ، وإذا مر بها الرجال كانت تلتصق بالجدار ، لا عطر ولا نقاب ، أما في هذا الزمن فتن ، فكيف يقال بهذا ؟ أين العقول ؟ أين هؤلاء من قول الله عز وجل {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً }الإسراء32 ، لم يقل ” ولا تزنوا ” قال {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى } كل ما يقرب الجنسين إلى الزنا فإنه يكون محرما ، لا من نظرة ولا من اختلاط وما شابه ذلك ، فلا يمكن أن يقاس ما وقع في عصر الصحابة رضي الله عنهم بهذا الزمن ، والعلماء لم يمنعوا النساء أن يأتوا إلى الأسواق ، لكن النساء فيما مضى كن على خير وستر ، والرجال كذلك ، لكن في هذا العصر نسأل الله السلامة والعافية ، فلا يمكن أن يكون لدا شخص من العلم الشرعي الذي فيه بعد نظر وفيه حكمة أن يقول بمثل هذا القول ، كيف وقد خصص النبي صلى الله عليه وسلم بابا من أبواب المسجد للنساء ، كل ذلك حفظا لهؤلاء النساء ، ولذا نرى قمة التأسي والاقتداء من ابن عمر رضي الله عنهما فما دخل هذا الباب أبدا ولا مرة واحدة ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقال ” لا تدخلوا ” وإنما خصص ، يعني لو دخله الإنسان في غير وجود النساء ، لا إشكال في ذلك ، مع ذلك ابن عمر رضي الله عنهما تأسيا بالنبي عليه الصلاة والسلام أعظم التأسي ما دخل من هذا الباب ، ولذلك على المسلم أن يتقي الله عز وجل في الأمة وفيما يصدره من فتاوى ومن أحكام ، لأن الإنسان محاسب أمام رب العالمين ، وهناك جنة وهناك نار ، وهذه الدنيا ليست باقية ، وإنما هي فانية ، لو ظفر الإنسان بأي شيء منها فإنه لا يعد شيئا ، ولو ملك الإنسان هذه الدنيا فإنها لا تساوي شيئا ، ولو ملكها فلربما يفقدها في يوم من الأيام ، زعماء ما كان يخطر في البال أن يسقطوا وأن تكون نهايتهم أسوء نهاية ، ولهم من القوة والسلطة ما يرهب القوة ، فلا يغتر أحد بما أعطاه الله عز وجل من هذه الدنيا ، لأن هناك حسابا ، ولاسيما من ينتسب إلى العلم الشرعي ، فعليه أن يتقي الله عز وجل وأن ينظر إلى ما أتت به الأدلة ، لا ما يتوافق مع الناس ، الناس لا يمكن أن يقفوا عند حدٍّ معين مما يرغبون فيه ، رغبوا أن تجيز لهم الاختلاط ، غدا يأتي صنف آخر ويتصل بالغرب عن طريق التواصل ، غدا يقول بعض المشروبات التي فيها نسبة من الخمور يجوز المتاجرة بها ، الناس لن يقفوا عند حد معين ، ولذلك لا يتبع العالم أهواء الناس ،ولذلك العلماء ثلاثة أصناف ” عالم ملة ، وعالم أمة ، وعالم دولة ” عالم دولة : يفتي بما تريده الدولة .
وعالم أمة : يفتي يما يريده الناس ، يقولون ما شاء الله هذا متسامح ومتواكب مع العصر ، وهذا ليس بصحيح .
وعالم ملة : هذا هو العالم الحقيقي ، ما أتت به الملة من جواز يجاز، وما أتت به الملة من تحريم يحرم ، لأنك لست بمشرع ، وإنما أنت توقع عن رب العالمين ، ولذا كلما عظم خوف الإنسان من ربه كلما كان متحرزا من الفتيا ، ولو كانت فتياك تنصب فيما أتى به الشرع ، إلا أن السلف رحمهم الله كانوا يتهربون منها ، ولذلك كانت المسألة تأتي إلى أحدهم فيقول اذهب إلى فلان فاسأله ، فيأتي إلى فلان فيقول اذهب إلى فلان فاسأله فإنه أعلم مني ، ويأتي إلى الثالث وإلى الرابع وإلى الخامس حتى تعود إلى الأول ، كلٌ يريد الفرار ، لما أتى رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما في مجلس من المجالس وكان في هذا المجلس أبو هريرة رضي الله عنه ، وأتى هذا الرجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما وسأله سؤالا ، قال اذهب إلى أبي هريرة ، فلما انصرف الرجل ، قال ابن عباس لأبي هريرة يا أبا هريرة لقد أتتك معضلة ، مع أنهم أتقياء أنقياء ، نأتي فتاواهم مع مقتضى النصوص الشرعية ، ومع ذلك كانوا يخافون من الله عز وجل ، ولذلك من كفي الإفتاء بغيره والأمة لا تحتاج إليه فخير له أن يكون بعيدا ، لكن إذا احتاجت الأمة وأنه من الواجب أن يخرج لقلة من يفتي أو لكثرة من يفتي مما لا دليل معه ، هنا يتعين عليه كما فعل الصحابة رضي الله عنهم ، فالقضية قضية مهمة فيما يتعلق بهذا الأمر .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد