بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
باب ما جاء في فضل القعود في المسجد
حديث رقم – 469-
( صحيح ) حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث أو يقم اللهم اغفر له اللهم ارحمه )
من الفوائد :
بيان فضل المكوث في المسجد ، ويزاد هذا الفضل فضلا إذا كان ينتظر الصلاة الأخرى ، لما مر معنا في السنن وهو عند مسلم ( وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ) وهذا داخل ضمن قوله تعالى – على أشمل ما قيل في التفسير – داخل تحت قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }آل عمران200 .
ومن الفوائد :
أن الصلاة من الملائكة لها معنى يختلف عن معنى الصلاة من الله عز وجل وعن معنى الصلاة من المخلوق على المخلوق ، فهي من الله عز وجل مختلف فيها هل الصلاة من الله عز وجل على العبد بمعنى الرحمة ؟ أو أنها ثناء الله عز وجل على عبده في الملأ الأعلى ؟
خلاف بين أهل العلم ، وأقرب ما يكون وإن كان في هذا القول ما فيه ، لكن أقرب ما يكون هو قول أبي العالية رحمه الله ” أن الصلاة من الله عز وجل على العبد هي ثناء الله عز وجل عليه في الملأ الأعلى”
لأنه لو قيل إن الصلاة هي بمعنى الرحمة فإن الله عز وجل يقول {أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ }البقرة157 ، عطف الرحمة على الصلاة ، فدل على أن الصلاة تختلف عن الرحمة .
وأما الصلاة من المخلوق على المخلوق فهي بمعنى الدعاء ، قال عز وجل { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ }التوبة103 يعني ” ادع لهم “
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا أتته صدقة قوم صلى عليهم ) يعني دعا لهم .
وأما الصلاة من الملائكة على العبد فهي مفسرة في قوله تعالى {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا }غافر7 ، فالصلاة من الملائكة على البشر هي الدعاء لهم بالمغفرة
وجاءت السنة تزيد شيئا آخر وهو الدعاء بالرحمة كما في هذا الحديث ( اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه )
ومن الفوائد :
بيان عظم اللغة العربية ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر صلاة الملائكة أضاف بعد ذلك جملة وهي جملة ( اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ) وهذه الجملة يسميها أهل اللغة ” جملة بيانية ” تبين الجملة السابقة ، لو قال قائل : ما صلاة الملائكة الواردة في الحديث ؟ نقول بينتها جملة ( اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ) .
ومن الفوائد :
أن هذا النص في ظاهره أن الصلاة من الملائكة تنقطع فيما لو قام عن مصلاه إلى موضع آخر من المسجد ، ولذلك قال هنا ( ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ) وقال ( ما لم يحدث أو يقوم ) يقوم إلى ماذا ؟ يقوم إلى موطن آخر ؟ أو يقوم ليخرج من المسجد ؟
ابن حجر رحمه الله يقول الذي يظهر أنه لا يقصد من ذلك البقعة التي صلى فيها ، وإنما يقصد من ذلك أنه يبقى في المسجد ، ولكن ذكر المصلى الذي صلى فيه من باب التأكيد على أفضلية هذا المكان .
ومع هذا كله لظاهر النص وإن كان ابن حجر رحمه الله يحتمل هذا الاحتمال إلا أن الإنسان لا يبرح مكانه ، هذا هو الأفضل ، لكن لو قام ففضل الله عز وجل واسع بما أنه لم يخرج من المسجد .
ومن الفوائد :
أن هذه الصلاة تنقطع إذا أحدث أو قام ، وفي الصحيحين ( ما لم يؤذِ فيه ) فإن بقي في المسجد ولم يخرج منه ولم يحصل منه حدث ولكن حصلت منه أذية من قول أو فعل فإن هذا الأجر ينقطع ، وهذا يؤكد ماذا ؟ يؤكد على أن الأذية من أعظم ما يحرم الإنسان من الخير ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح ( المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده ) فدل على أن الأذية شر ، ولذا على المسلم ولاسيما المأموم أن يتنبه لمثل هذا الأمر وأن يُذَكر الناس بهذا فبعض المصلين قد يؤذي غيره بالكلام في المسجد ، قد يؤذي مثلا الإمام بالتأنيب أو كثرة الملاحظة ، قد يؤذي المؤذن ، قد يؤذي خادم المسجد ، قد يؤذي أخاه المسلم ، فإنه في مثل هذه الحال يحرم ، لأن الأذية حصلت منه .
ومن الفوائد :
ما هو هذا الحدث في قوله ( ما لم يحدث ) ؟
رجل من حضرموت سأل أبا هريرة رضي الله عنه راوي الحديث ( قال ما الحدث ؟ قال ظراط أو فساء ) فاستفدنا من هذا أن في هذا الحديث دليلا لقاعدتين كثيرا ما نذكرها :
القاعدة الأولى : [ أن الفعل المنفي يدل على العموم ] ماذا قال هنا ؟ قال ( ما لم يحدث ) و ( لم ) نافية ، فالفعل المنفي يدل على العموم ، لو لم يكن عاما لما سأل هذا الرجل ، فإنه قال ( ما لم يحدث ) دل على أن الحدث عندهم أنواع ، منه حدث الوضوء ومنه حدث الابتداع ، فأفادتنا هذه الجملة أنها دليل على أن الفعل المنفي يدل على العموم .
القاعدة الثانية : [ حذف المعمول يدل على العموم ] لما قال ( ما لم يحدث ) لم يذكر نوع الحدث ، فدل بسؤال هذا الرجل على أن حذف المعمول من حيث الأصل يدل على العموم ، لو لم يسأل هذا الرجل أبا هريرة رضي الله عنه ومر بنا هذا الحديث لقلنا إن الحدث شامل للابتداع ولحدث الوضوء .
ومن الفوائد :
أن راوي الحديث هو أعلم بما رواه ، ويكون رأيه مقدما بشرط ألا يخالف رأيه الحديث ، مثل حديث ابن عمر رضي الله عنهما ( وفروا اللحى ) جاء عند البخاري ( أنه كان يمسك لحيته بقبضة يده وما زاد أخذه )
بعضهم يقول إن الراوي أعلم بما روى ، نقول في مثل هذا نقف ، هو أعلم ويقدم رأيه ما لم يخالف النص ، لأنه قد يجتهد ، فإذا كان اجتهاده لا يخالف النص فيكون قوله أولى من غيره ، لكن إذا خالف النص الذي أتى بالتوفير يقدم النص .
ومن الفوائد :
أنه ذكر هنا المغفرة والرحمة ، كما نقول بين السجدتين ( رب اغفر لي وارحمني ) لتعملوا أن الرحمة إذا أتت وحدها كما لو قال الإنسان ( رب ارحمني ) يشمل أنه طلب من الله عز وجل أن يزيل عنه المكروب وأن يحصل له المحبوب ، وإذا قال ( رب اغفر لي ) فكذلك ، لكن إذا اجتمعت الكلمتان تكون المغفرة طلب زوال المكروب ، والرحمة طلب حصول المحبوب ، ولذلك يعبر عنها العلماء بقولهم [ التخلية قبل التحلية ] يعني لما يغفر الله عز وجل للإنسان خلصه من ذنوبه ، ثم إذا أتى الخير كان أكمل ، أعطيكم مثالا ” لو أن إنسانا فيه رائحة ليست طيبة فلبس ثيابا حسنة وتعطر يفترض قبل ذلك يتخلى من الأوساخ والروائح ، فإذا اغتسل وتنظف ثم لبس الثياب الطيبة وادهن وتعطر كان أكمل وأكمل .
ومن الفوائد :
أن الأصل فيما لا ينبغي أن يذكر صراحة أن يكنى به ، ولذلك نجد هذا في القرآن لم يذكر الجماع صراحة وإنما قال { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } وقال { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ }النساء21 ، لكن إذا لم يفهم السائل أو إذا لم يتضح هذا الأمر إلا بالصراحة يصرح ، ولذلك أبو هريرة رضي الله عنه ( لما سئل ما هو الحدث ؟ قال ظراط أو فساء )
الضراط : هو خروج الريح من الدبر بصوت .
والفساء : هو خروج الريح من الدبر من غير صوت .
فأبو هريرة رضي الله عنه وضَّح وصرح ، دل على أن هذا الرجل بحاجة إلى أن تكون المعلوم واضحة إليه ، ولذلك الرجل الذي أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال ( إني زنيت ، وأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة لعله أن يتوب ويرجع ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلك قبلت ؟ قال لا ، قال لعلك غمزت ؟ قال لا ، فلما زاد معها وقال طهرني يا رسول الله ، فقال أنكتها ؟ ) صراحة ( قال نعم ) دل هذا على أن الأصل أن يكون الإنسان في أقواله صاحب سمت ، لأن بعضا من الناس في المجالس تجد أنه يذكر أشياء يستقبح من ذكرها ، يمكن أن يذكر بعض الأشياء التي تحصل بينه وبين زوجته ، وهذا محرم عليه ، ونحن نقول هذا محرم ولا يجوز للإنسان أن يربي لسانه على هذه الألفاظ ، لكن متى يصرح الإنسان ؟ إذا لم يكن هناك طريق إلا بالتصريح كما فعل أبو هريرة رضي الله عنه .
ومن الفوائد :
بيان فضل صلاة الجماعة ، لأن الملائكة لا تصلي على هذا الإنسان إلا إذا حضر المسجد وانتظر الصلاة ، فلو صلى في بيته ما حصل له هذا الفضل .
ومن الفوائد :
أن هذا الفضل وهو دعاء الملائكة للإنسان لا يحصل إلا إذا توضأ الإنسان في بيته ، بعض الناس يفرط تجد أن الأمر متاح عنده في بيته ويخرج من بيته ويأتي إلى دورات مياه المسجد ويتوضأ فيها – هذا خطأ – لو أتى الإنسان لعارض وبيته بعيد أو لم يأت من البيت أصلا فلا إشكال في ذلك ، ولذلك في صدر هذا الحديث في الصحيحين قول النبي صلى الله عليه وسلم ( صلاة الرجل جماعة تعدل صلاته في سوقه وفي بيته بخمس وعشرين درجة وذلك أنه إذا توضأ ثم خرج إلى المسجد ) يعني توضأ في بيته ، بل جاء في حديث حسنه الألباني رحمه الله كما عند أبي داود ( من توضأ في بيته ثم أتى إلى المسجد فهو كالحاج المحرم ) هذا يدل على فضل الوضوء وأنه بهذا الوضوء في بيته إذا أتى إلى المسجد يكون بمثابة أجر من حج ، ولذلك قال ( المُحْرم ) من باب التأكيد ، وهذا كما أسلفت لا يمكن أن يتسنى هذا الأجر إلا إذا صلى الإنسان في الجماعة ، فدل على فضل صلاة الجماعة ، ودل على أن هذا الفضل لا يكون إلا بصلاته في المسجد ، لأنه قال في صدر الحديث ( ثم خرج إلى المسجد ، لا ينهزه إلا الصلاة ) ومن الفوائد :
أن ما ذهب إليه بعض العلماء من أن الإنسان يكره له أن يُحْدِث في المسجد ، فهذا الحديث يرد عليه ، لم ؟ قالوا إذا أراد أن يحدث يخرج ويظرط أو يفسو خارج المسجد ، فهذا الحديث يرد به عليهم ، لم ؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت أن هذا الفضل ينقطع بحصول الحدث ولم يقل ” كان عليه لزاما أن يخرج ” .