بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
حديث رقم – 423–
( صحيح ) عن ابن عباس قال : بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ من شنَّة وضوءا يقلله فقمت فصنعت كما صنع )
من الفوائد :
بيان فضل ابن عباس رضي الله عنهما إذ نقل للأمة هذا الأمر الذي حدث منه عليه الصلاة والسلام في بيت من بيوته .
ومن الفوائد :
أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أحب أن يوثق من نقله فقال ( بِتُّ عن خالتي ميمونة ) ليؤكد أن ما نقله إنما نقله عن قرب لحصول البيتوتة ولحصول قربه من زوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة رضي الله عنها .
ومن الفوائد :
أن ابن عباس رضي الله عنهما كان آنذاك صغيرا ، فنقل للأمة هذا الخبر فقبل منه ، فدل هذا على ما ذكره أهل الحديث في المصطلح من أن الصغير المميز إذا تحمَّل حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقبل منه حال بلوغه ، يقبل منه التحمل في تميزه ويقبل منه الأداء عند البلوغ .
ومن الفوائد :
أن هذا الحديث اختصره المصنف رحمه الله ، وإلا فهناك ما هو أكثر مما ذكر هنا في هذه البيتوتة التي نقل فيها ابن عباس رضي الله عنهما هذا الأمر ، ولعل المصنف رحمه الله اقتصر على ما أراد الاستشهاد به وهو الاقتصاد في ماء الوضوء .
ومن الفوائد :
بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من شظف العيش ، فإنه قام إلى شَنَّة – وهو قربة خلقة قديمة – وهذا يدل عليه على تقلله عليه الصلاة والسلام من هذه الدنيا ، فمن اطلع على مثل هذه الأحاديث وما يذكر فيها مما يكون في بيته صلوات ربي وسلامه عليه ، يعطيه درسا وعلاجا للطمع والجشع والرغبة في التوسع في هذه الدنيا ، فإن نبي الأمة صلوات ربي وسلامه عليه لو شاء أن تنقلب له الجبال ذهبا لانقلبت له .
ومن الفوائد :
أن قوله ( يقلله ) يراد منه أنه صلى الله عليه وسلم أخذ ماء قليلا ليتوضأ به ، وهذا يدل على ماذا ؟ يدل على فضل الاقتصاد في ماء الوضوء .
ومن الفوائد :
أن الماء الذي يشرب يمكن أن يتوضأ به ، لأن القربة هي إناء يوضع فيه الماء للشرب ، فتوضأ منه صلوات ربي وسلامه عليه ، ولكن ليتنبه إلى أمر وهو أن البرادات التي تكون عند المساجد لا يتوضأ منها ، لم ؟ لأنها موقوفة على الشرب لا على الوضوء ، اللهم إلا إذا انقطعت المياه أو لم يوجد ماء ، فيمكن أن يتساهل في هذا الأمر باعتبار أن العرف قد يتجاوز فيه ، وإلا فالأصل أن الماء الموقوف للشرب لا يتعدى به إلى غير الشرب ، اللهم إلا إذا لم يكن موقوفا ، كأين يكون ملكا لصحابه كما في هذا الحديث فالأمر جائز .
وبالنسبة إلى ماء الحرم لا شك أن ماء زمزم موقوف على الحرم ، ولكن القائمون على الحرم لا يدققون في مثل هذا الأمر ، اللهم إلا إذا وضعت لافتة [ ممنوع الوضوء من هذا الماء ] فيتقيد به .
ومن الفوائد :
أن على الأب أن يحرص على فعل العبادة المسنونة في بيته ليتعلم منه الصغار من غير أن يأمرهم بشيء ، ولذا لما رأى ابن عباس رضي الله عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليتوضأ فعل مثل فعله ، وهذا مما نراه إذا صلينا في بعض الأحيان في بيوتنا رأينا الأطفال الصغار الذين يبلغون من العمر أربع سنوات أو أقل أو أكثر بقليل يصطفون معك ويصلون .
ومن الفوائد :
أن على المسلم ألا يقلل من شأن الصغار ، فإنهم يفهمون ، فلا يفعل أمامهم ما لا يليق ، فإن ما يرونه حال الصغر يبقى في أذهانهم حال الكِبَر ، ونحن فيما مضى كنا صغارا ونذكر بعض الأفعال الحسنة أو ما سواها مما يفعل أمامنا ، فأحسن أساليب التربية مع النشء أن يعاملوا على أنهم رجال حتى يتربوا على هذا ، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما أرشد الغلام عمر ، وكانت يده تطيش في الصحفة فخاطبه كأنه رجل قال ( يا غلام سمِّ الله وكُلْ بيمينك وكلْ مما يليك )
فمن أحسن أساليب التربية مع الصغار أن يعاملوا كأنهم رجال فإن لذلك ثمرات وفوائد عظيمة ، وهذا مما يلحظ من طريقته صلوات ربي وسلامه عليه ، ولا أدل من نقل ابن عباس رضي الله عنهما لمثل هذه الأحداث العظيمة المفيدة لما كبر ، فإنه لو عومل على أنه طفل أو لا يعقل تحطم ورأى نفسه أنه لا شيء ، لكن إذا أعطي الثقة في نفسه بعد الاعتماد على الله سبحانه وتعالى خرج رجلا .
حديث رقم – 424-
( موضوع ) حدثنا محمد بن المصفى الحمصي حدثنا بقية عن محمد بن الفضل عن أبيه عن سالم عن ابن عمر قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يتوضأ فقال لا تسرف لا تسرف )
هذا الحديث موضوع ، والموضوع هو الذي لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا ، بمعنى أنه مختلق ، ولذلك أضعف السنن من حيث الإسناد سنن ابن ماجه ، فإن فيها أحاديث موضوعة ، وابن ماجه رحمه الله إنما ذكرها من أجل أن من في عصره يعلم أن هذا الحديث موضوع ، فعنده من التمييز والآلة التي يميز بها ثبوت الحديث من عدمه ، أو من أجل أن يحفظ الحديث سواء كان ثابتا أو غير ثابت ، أو من أجل أنه يرى أنه ليس بموضوع وإنما هو ضعيف جدا فلربما تقوى بغيره ، فإن الحكم على الحديث بأنه موضوع من عدم ذلك مختلف فيه بين محدث وآخر ، ولذلك نوزع ابن الجوزي رحمه الله لما ذكر أحاديث موضوعة رُدَّ عليه فيها بأنها ليست موضوعة ، وإنما هذا اجتهاد منه رحمه الله .
حديث رقم – 425-
( ضعيف ) حدثنا محمد بن يحيى حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن حيي بن عبد الله المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال ما هذا السرف فقال أفي الوضوء إسراف ؟ قال نعم وإن كنت على نهر جار )
هذا الحديث هناك من يرى أنه ثابت وصحيح ، ومنهم من يرى ضعفه كالألباني رحمه الله ، وعلى كل حال فإن الأحاديث العامة دلت على الحث على الاقتصاد في ماء الوضوء ،وهي أحاديث كثيرة ، فيستفاد من هذا الحديث بناء على ما يراه بعض العلماء من ثبوته :
أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأى المنكر أنكره .
ومن الفوائد :
أن الإسراف مذموم ولو كثر الشيء المُسْرَف فيه ، فإن ماء النهر ماء غزير كثير ، فالأخذ منه بكثرة لا يؤثر فيه ، ففيه حث لأصحاب الأشياء الكثيرة ألا يسرفوا فيها .
ومن الفوائد :
أن سعدا رضي الله عنه ظن أن ما يتعلق بالعبادة لا يكون فيه إسراف ، ولذلك قال ( أفي الوضوء إسراف ؟ )
إذاً الإسراف مذموم على كل حال سواء كان فيما يتعلق بالعبادة أو لم يكن ، ولذلك قال تعالى في صفات عباد الرحمن {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا } مع أن الإنفاق خير { لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }الفرقان67 .
ومن الفوائد :
أن الأنهار نوعان :
منها ما يجري ومنها ما لا يجري ، ولذلك أكد صلى الله عليه وسلم التحذير من الإسراف ولو كان على نهر جاري .
ومدلول كلمة النهر تدل على السعة والكثرة ، ولذلك يقال ” نَهْرُ دم الذبيحة ” يعني سال وتفجَّر .
وكلمة ( النهر ) يصح فيها ضبطان :
الضابط الأول ” نَهْر ” بفتح النون وسكون الهاء .
الضابط الثاني ” نَهَر ” بفتح النون والهاء .
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ }القمر54
فخلاصة القول : أن الاقتصاد في ماء الوضوء مطلوب شرعا ، وأن كثرة الماء في الوضوء لا تدل على الإسباغ ، كما قال بعض العلماء ، فإن الإكثار من الماء قد لا يحصل معه إسباغ ، والقلة قد يحصل معها إسباغ ، فلا عبرة بكثرة الماء من قلته في الإسباغ .
حديث رقم – 426-
( صحيح ) عن ابن عباس قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسباغ الوضوء )
من الفوائد :
ذكر ابن ماجه رحمه الله هذا الحديث بعد الأحاديث التي تنهى عن الإسراف في ماء الوضوء يفيد أن التقليل من الماء لا يعني أنه لا يكون مسبغا لوضوئه ، فقد يظن البعض أنه إذا قلّّل الماء واقتصد فيه أنه لم يحصل له إسباغ ، وهذا خطأ .
ومن الفوائد :
أن الإسباغ مأمور به المسلم ، والإسباغ كما أسلفنا على ثلاثة أنواع :
النوع الأول : واجب ، وهو ن يأن ي
وأن يعمم العضو بالماء مرة واحدة .
النوع الثاني : مستحب ، وهو أن يعمم العضو بالماء ثلاث مرات .
النوع الثالث : فضيلة ، وهو أن يعمم العضو ثلاث مرات بالماء مع دلك الأعضاء .
فيا ترى هذا الأمر في حديث ابن عباس رضي الله عنهما يدل على الوجوب أم الاستحباب ؟
ينزل على ما ذكرناه آنفا .
مع أن بعض العلماء يرى أن الإسباغ واجب في حق أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكون واجبا على آل بيته ويكون مستحبا على غيرهم ، ونقصد من ذلك النوع الثاني والثالث ، أما الأول فهو واجب على الجميع .
ويرى علماء آخرون : أن الأمر هنا في هذا الحديث عام للأمة ، وليس يقصد ابن عباس رضي الله عنهما أهل البيت ، ومن ثم فإن ما قاله العلماء الأولون يدل على أن من خصائص أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسباغ واجب في حقهم .
والصواب : العموم ، فالأمة كلها مأمورة بالإسباغ ، ولم يخص رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بيته بشيء ، إلا في بعض الأمور التي يفرق فيها بينهم وبين غيرهم ، أما في هذا الحديث فالإسباغ مأمور به كل فرد من أفراد الأمة .
حديث رقم – 427-
( حسن صحيح ) عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا ويزيد به في الحسنات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة )
من الفوائد :
أن لفظه مغاير للحديث المشهور ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ )
فيستفاد من الروايتين أن تكفير الخطايا يسمى محوا ، وأن الرفعة تسمى زيادة ، وأن الدرجات بمعنى الحسنات .
ومن الفوائد :
أن من الأساليب المناسبة في إيصال العلم أن يطرح السؤال حتى تحضر القلوب والعقول ، فطرح المعلومة عن طريق سؤال يجذب أسماع وانتباه الحاضرين ، وهذا ما كان يفعله صلوات ربي وسلامه عليه ، ونوع الاستفهام هنا ( استفهام تشويقي ) يشوقهم ، ولذلك قالوا ( بلى يا رسول الله )
كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }الصف10 ، فالاستفهام يراد منه هنا التشويق .
ومن الفوائد :
أن إسباغ الوضوء مأمور به العبد ويحسن الإسباغ إذا كان في المكاره ، ما هي المكاره ؟
شدة البرد ، شدة الحر ، غلاء ثمن الماء ، السعي في تحصيله في جو ماطر أو بارد ، فإذا أسبغ الوضوء على المكاره نال هذا الخير العظيم .
ومن الفوائد :
بيان فضل كثرة الخطا إلى المساجد وأنها تكفر الخطايا وتزيد الحسنات ، وهذا يؤكد ما أسلفناه من أن الإسراع حال سماع الإقامة أو حال عدم سماع الإقامة مما يفوت على المسلم هذا الأجر ، لأن خطاياه تقل ، وقد بينت السنة في الأحاديث الأخرى أن الخطوة إلى المساجد لأداء الصلاة ( يرفع بها درجة ويحط عنه بها خطيئة ) ولذلك كان بعض الصحابة رضي الله عنهم كزيد بن ثابت يقارب بين خطاه إذا خرج إلى المسجد ، فإذا كان بينه وبين المسجد مائة خطوة فيما لو مشى مشيا معتادا تأنى حتى تبلغ مثلا مائة وعشرين أو مائة وخمسين خطوة .
ومن الفوائد :
أن انتظار الصلاة بعد الصلاة سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرباط ، والرباط معناه : ملازمة الشيء ، بل ذكر بعض المفسرين أن انتظار الصلاة بعض الصلاة داخل تحت قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }آل عمران200 ،فقوله { وَرَابِطُواْ } يدخل فيها رباط الجهاد في سبيل الله ، ويدخل فيها انتظار الصلاة بعد الصلاة .
ومن الفوائد :
بيان فضل مجاهدة النفس ، فإن هذه الأمور المذكورة إذا لم يجاهد العبد نفسه عليها وإلا لم ينل خيرها وفضلها ، فهي تحتاج إلى مجاهدة ( إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة )
ومن الفوائد :
بيان فضل الصلاة ، ولاسيما صلاة الجماعة ،لأن هذه الأشياء المذكورة كلها تتعلق بالصلاة ( إسباغ الوضوء ) يتعلق بالصلاة ( كثرة الخطا إلى المساجد ) تتعلق بصلاة الجماعة ( انتظار الصلاة بعد الصلاة ) تتعلق بصلاة الجماعة .
ومن الفوائد :
أن معنى ( انتظار الصلاة بعد الصلاة ) محتمل أن يكون منتظرا لها في مصلاه ، بحيث إذا صلى الظهر بقي ينتظر صلاة العصر ، ويحتمل – وفضل الله عز وجل واسع – أنه ينتظر الصلاة الأخرى بقلبه ، بمعنى أن قلبه معلق بالصلاة الأخرى إذا فرغ من الصلاة التي قبلها .
وهذا الاحتمال الذي أورده بعض العلماء مقبول ، وإذا قُبِل فإن صاحبه ينال ما جاء في الصحيحين ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ) ذكر منهم ( ورجل قلبه معلق بالمساجد )