بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
حديث رقم – 428-
( صحيح ) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كفارات الخطايا إسباغ الوضوء على المكاره وإعمال الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة )
هذا الحديث مر معنا في أكثر من درس ، وتنوعت ألفاظه ، وكل هذه الألفاظ تؤكد على أن ما ذُكر من هذه الأمور الثلاثة تكفر خطايا ابن آدم .
هنا ( إسباغ الوضوء على المكاره ) ومر معنا ( إسباغ الوضوء في المكاره ) ومر معنا ( كثرة الخطا إلى المساجد ) وهنا ( إعمال الأقدام إلى المساجد ) بأن يجعلها العبد عاملة ساعية إلى حضور المساجد ، وما تقدم من فوائد تذكر هنا ، ومن بين ذكر :
أن المجاهدة تحتاج إلى صبر ومصابرة فينال بها العبد تكفير الذنوب والخطايا ،فإن المتمعن في هذه الأشياء المذكورة يقف على أمر وهو أن هذه الأشياء تحتاج إلى صبر ومجاهدة ، فإسباغ الوضوء على المكاره ليس بالأمر اليسير ، وكذلك الذهاب إلى المساجد ، وكذلك انتظار الصلاة بعد الصلاة .
ومن الفوائد :
أن معنى ( إسباغ الوضوء على المكاره ) أن يكون فيه مشقة في إسباغ الوضوء ، كأن يفتقد الماء فيبحث عنه ، كأن يكون في شدة برد ، كأن يتحصل عليه بمال ، فهذه أمثلة لإسباغ الوضوء على المكاره .
ومن الفوائد :
أن إسباغ الوضوء سبق معنا أن له أنواعا وأنه مرتب على ما يلي :
أولا : تعميم أعضاء الوضوء بالماء مرة واحدة ، وهذا واجب
ثانيا : تعميم الأعضاء بالماء ثلاث مرات ، وهذا مستحب .
ثالثا : تعميم الأعضاء بالماء ثلاث مرات مع الدلك ، وهذا فضيلة لأنه اشتمل على النوع الأول والثاني .
ومن الفوائد :
أن الخطوة التي يخطو بها الإنسان إلى المساجد لأداء الصلاة يرفع الله عز وجل بها العبد درجة ويحط به عنه خطيئة كما جاء في حديث أبي هريرة في الصحيحين .
ومن الفوائد :
أن جملة ( إعمال الأقدام إلى المساجد ) تشمل ما هو أعم من الإتيان إلى المساجد إلى الصلاة أو لقراءة القرآن أو لحضور درس علمي أو ما شابه ذلك ، لأنه أطلق هنا ، وينال العبد فضيلة ذكرها صلوات ربي وسلامه عليه وهي ( من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح )
وقد كان بعض الصحابة رضي الله عنهم كزيد بن ثابت رضي الله عنه كان يقارب بين خطاه حتى تكثر خطواته فينال درجات أعلى .
ورواية ( إعمال الأقدام إلى المساجد ) كأنها تشير إلى أمر وهو أن هذا الثواب لا يتأتى إلا إذا مشى العبد على قدميه إلى المساجد ،فإذا أتى بمركوب أو نحوه فإنه لا ينال مثل هذا الفضل وإن كان ينال خيرا ، ولكن شتان بين من أتى إلى المسجد راكبا وبين من أتى المسجد ماشيا على أقدامه ، اللهم إلا إذا احتاج العبد إلى الركوب فإن فضل الله عز وجل واسع ، وذلك أن يكون بيته بعيدا عن المسجد بعدا كبيرا أو كان عاجزا أو ما شابه هذه الأعذار ، فإنه ورد عند مسلم من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال ( كان هناك رجل لا نعلم أحدا أبعد إلى المسجد من بيته ، فقلنا له لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء والرمضاء ؟ فقال ما أحب أن يكون بيتي بجوار المسجد، إني أحب أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إلى بيتي ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال قد أعطاك الله ذلك كله ) ولم ينكر صلوات ربي وسلامه عليه على من أن أشار عليه بأن يشتري حمارا ، وفائدة الإتيان إلى المساجد بالأقدام أن آثاره تكتب ، كما قال تعالى {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }يس12، فهذه من آثار العبد ، وممشاه على الأقدام ينال شهادة الأرض له { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا{4} بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا }
وينال بكاء الأرض عليه إذا توفاه الله عز وجل ، قال سبحانه وتعالى عن قوم فرعون { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ }الدخان29، فدل على أن السماء والأرض تبكي على من كان صالحا ثم توفاه الله سبحانه وتعالى .
ومن الفوائد :
أن انتظار الصلاة سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم ( بالرباط ) فدل على أن الرباط نوعان :
أولا : رباط يمكث فيه المسلم بين أرض المسلمين وأرض الأعداء حارسا لها وحافظا لحدودها .
ثانيا : مكثه منتظرا للصلاة ، وهذان النوعان يدخلان تحت قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }آل عمران200 ،فقوله { وَرَابِطُواْ } يشمل النوعين، فدل على أن انتظار الصلاة بعد الصلاة دليل على الإيمان ، بل وفي المقابل يزيد الإيمان ، ومثل هذا – كما أسلفنا – يحتاج إلى مجاهدة ، والمجاهدة لا تحصل إلا بالصبر ، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ } فالمصابرة تدل على المجاهدة ، ولا يمكن أن ينال العبد خيرا في دنياه أو في دينه إلا بالصبر ، فمن افتقد مطية الصبر افتقد ثمرته وخيره ، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }البقرة153 ، فمثلا طالب العلم إذا لم يصبر لم ينل ثمرة وبركة العلم ، المصلي إذا لم يجاهد ويصابر نفسه على الصلاة وعلى قيام الليل لم ينل ثمرة تلك الصلاة ، ولذا نرى أعدادا كبيرة تقبل على طلب العلم ثم سرعان ما تضعف ، ما سبب ذلك ؟ قلة الصبر ، ومما يقوي الصبر التفاؤل وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى ، فإذا تفاءل وظن بالله عز وجل خيرا وأن هذا الزمن الذي يقضيه في طلب العلم سيجد ثمرته مستقبلا أعانه ذلك على الصبر ، لأن المقولة التي كثيرا ما تتردد على لسان من طلب العلم ونكص فيه يقول ” لم أستفد شيئا ، أو سأظل سنين طوال وأنا لم آت على العلم ” فلو تفاءل وأحسن الظن بالله عز وجل أن يوصله إلى ما أوصل غيره لقوي صبره ، والموفق من وفقه الله عز وجل ، ولذلك ختم جل وعلا الآية بقوله { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فدل على أن الفلاح الذي هو مأمل كل عاقل لا يكون إلا بما ذكره جل وعلا من الصبر والمصابرة والمرابطة .
ومن الفوائد :
أن ( انتظار الصلاة بعد الصلاة ) هو أن يمكث في المسجد بحيث ينتظر الصلاة التالية ، وأدخل بعض العلماء نوعا آخر في انتظار الصلاة وهو أنه ينتظرها بقلبه ، فإذا فرغ من صلاة لم يزل قلبه معلقا بها إلى أن يأتي وقت الصلاة الأخرى ، وهذا الاحتمال إن صدق فإن صاحبه ينال خيرا في أخراه كما جاء في الصحيحين ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ) ذكر منهم ( ورجل قلبه معلق بالمساجد )
ومن الفوائد :
أن المتأمل في هذه الأمور الثلاثة يدرك أن بعضها متعلق ببعض ، ومصبها على الصلاة ، فدل على عظم هذه الصلاة ( إسباغ الوضوء ) له تعلق بالصلاة ( إعمال الأقدام إلى المساجد ) يتعلق بالصلاة ( انتظار الصلاة ) متعلق بالصلاة ، فدل على فضيلة هذه الصلاة .
ولو نظرنا إلى قوله ( وإعمال الأقدام إلى المساجد ) يدرك أن كلمة ( إعمال ) تحتاج إلى عمل ممن ؟ من صاحبها ، فهي تدل على المجاهدة والمشقة ، وهي أمور يسيرة على من يسرها الله عز وجل عليه ، فهي صعبة في أول الأمر لكن من اعتاد عليها سهلت عليه ، فأصبح يمارسها كما يمارس العادة في السهولة ، كما جاء عند المصنف رحمه الله كما مر معنا ( الخير عادة )
حديث رقم – 429-
( صحيح ) عن عمار بن ياسر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلل لحيته )
من الفوائد :
ذكر المصنف رحمه الله الأحاديث المتعلقة بتخليل اللحية ، وتخليل اللحية يرى بعض العلماء – كما نقل عن الإمام أحمد – أنها لم يثبت فيها حديث صحيح ، ولعل مقصوده رحمه الله أنه لم يثبت فيها حديث صحيح بمفرده ، لأن تقسيم الحديث فيما سبق يقسم إلى قسمين [ صحيح وضعيف ] والحديث الحسن يدرجونه تحت الحديث الضعيف ، لأنهم ينظرون إلى سنده مفردا ، ولكن المتأخرين يرون الحديث الضعيف إذا تعددت طرقه يرتقي من الضعف إلى الحسن لغيره ، ولذا رأى بعض العلماء أن أحاديث تخليل اللحية ضعيفة ومن ثم لا يعمل بها .
والصواب / ثبوت الأحاديث الواردة فيها لكثرة هذه الأحاديث وتعدد طرقها ، ومنها ما ذكره المصنف رحمه الله هنا .
ومن الفوائد :
بيان فضل الصحابة رضي الله عنهم إذ نقلوا لنا ما رأوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل إن فضلهم يظهر في كونهم نقلوا لنا القرآن العظيم ، ولو تتبعنا كتب الحديث لوجدنا أن بعض الصحابة لم يرو إلا حديثا واحدا ، وبعضهم لم يرو إلا حديثين أو ثلاثة أحاديث ، وفي هذا فائدة وهي أن المسلم ينبغي له ألا يخلو من نقل العلم ، ليصدق عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري ( بلغوا عني ولو آية ) يعني ولو جملة من أحكام الشرع .
ومن الفوائد :
أن تخليل اللحية ورد في السنة من حيث الفعل ، فهي سنة فعلية فعلها صلوات ربي وسلامه عليه ، ولم يذكر عمار رضي الله عنه صفة تخليله صلوات ربي وسلامه عليه للحيته ، ولكن الأحاديث الآتية تبين صفة تخليل اللحية .
ومن الفوائد :
بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كثيف اللحية ، فإبقاء اللحية وإعفاؤها سنة من سنن الأنبياء ، قال هارون لموسى { لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي }طه94 ، فاللحية هي جمال الرجل كما قالت عائشة رضي الله عنها ، تحلف بأن الله عز وجل جمَّل الرجال على النساء باللحى .
ومن الفوائد :
فرَّق فقهاء الحنابلة بين اللحية الكثيفة ، فقالوا إذا كانت اللحية خفيفة ترى البشرة من ورائها فيجب غسل ظاهرها وباطنها ، وأما إذا كانت كثيفة فإن الواجب غسل ظاهرها ، أما تخليل باطنها فليس بواجب إنما هو سنة فعلها صلوات ربي وسلامه عليه .