تعليقات على سنن ابن ماجه ( 46 ) من حديث ( 492-495 )

تعليقات على سنن ابن ماجه ( 46 ) من حديث ( 492-495 )

مشاهدات: 498

تعليقات على سنن (  ابن ماجه  )

الدرس السادس والأربعون

492-495

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .

أما بعد :

فقد قال المصنف رحمه الله :

باب الرخصة في ذلك

حديث رقم – 492-

( صحيح ) عن سويد بن النعمان الأنصاري أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر حتى إذا كانوا بالصهباء صلى العصر ثم دعا بأطعمة فلم يؤت إلا بسويق فأكلوا وشربوا ثم دعا بماء فمضمض فاه ثم قام فصلى بنا المغرب )

من الفوائد :

أن ( الصهباء ) موضع قريب من خيبر ، وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم وتناول هذه الأطعمة ، ومعلوم أن السويق هو الحب إذا حُمِص ، فتكون النار قد مسته وأصابته ، ومع ذلك أكله عليه الصلاة والسلام ولم يتوضأ ، فدل على ما ذهب إليه بعض العلماء من أن أكل ما مسته النار لا ينقض الوضوء ، وهل يستحب الوضوء أم لا ؟

خلاف ، وذكرنا أن الصحيح أنه يتوضأ .

ومن الفوائد:

أن السنة لمن أكل شيئا ويريد أن يصلي أن يتمضمض ،لكي ينظف فاه ، ولكن ليس هذا على سبيل الوجوب ، وإنما على سبيل الاستحباب ، فالنبي صلى الله عليه وسلم ( أكل لحما فقام فصلى ولم يتمضمض ) .

ومن الفوائد :

بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من قلة الطعام ، فما وجدوا إلا هذه الأطعمة الخفيفة ، ولذلك أكلوا الحُمُر الأهلية في غزوة خيبر ، فنهاهم النبي صلى الله عليه والسلام ذلك ، كما مر معنا في بلوغ المرام في حديث أبي طلحة رضي الله عنه ، الشاهد أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا على قلة من العيش .

ومن الفوائد :

أن تعدد الأطعمة التي توضع أمام الإنسان لا حرج فيها ، لكن الزهاد يرون أن الإنسان عليه أن يقلل من الطعام ويقتصر على نوع واحد ، وهذا الكلام لو نظر إليه الإنسان في بعض الكتب ليعلم أنه ليس محرما ، لم ؟ لأن الشرع جاء بالتجاوز والتسامح في مثل هذا ، ولا يدخل هذا في ضمن إذهاب الإنسان لطيباته في حياته الدنيا ، وإنما على الإنسان أن يأخذ بالضابط الشرعي وهو قوله عليه الصلاة والسلام ( كُلْ واشرب والبس وتصدق من غير سرف ولا مَخِلية )

ومن الفوائد :

أن جمع الطعام من الرفقة الواحدة من الأمر المندوب إليها شرعا ، حتى لو أكل بعضهم أكثر من الآخر ، ولذلك نص الفقهاء على جواز هذا ، فلو كانت هناك رفقة واتفقوا على أن يجمعوا مالا واشتروا بهذا المال طعاما فأكل بعضهم أكثر من بعض فلا جناح في ذلك ولا يكون فيه أخذ لحق الآخر ، بل يكون هذا من طيب النفس ، ولذلك مدح النبي صلى الله عليه وسلم الأشعريين ، قال ( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو ) يعني نفد ما لديهم من طعام ( أو قلَّ طعام عيالهم في المدينة جمعوا ما عندهم في إناء واحد ثم اقتسموه فهم مِنِّي وأنا منهم )

سؤال : ما حكم ” البوفيه المفتوح ”  ؟

الجواب : البوفيه المفتوح ، بعض العلماء المعاصرين يحرمه من أجل أنه داخل في عقد لا يدري أهو غانم أم غارم ، فهو يدفع مبلغا من المال وهذا المال مقطوع فيأكل ما يشاء ، فلربما كان أكله أكثر مما دفع ، وربما كان ما دفعه أكثر مما أكل ، والذي يظهر التسامح في مثل هذا ، لم ؟ لأن الإنسان حينما يدفع هذا المبلغ المقطوع يعلم أنه ما أكله يقابل ما دفعه أو أكثر وأن أصحاب البوفيه المفتوح يرون أن ما دفع إليهم يكون أكثر مما قدموه من طعام ، فليس في مثل هذا ميسر أو غرر ،والغرر لا يمكن أن يسلم عقد من العقود منه ، ولا شك أنه جاء في صحيح مسلم ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر ) وهو الجهالة بحيث لا يتبين للإنسان أبعاد هذا العقد ، لكن قلَّ أن يسلم عقد إلا وبه غرر  ، ولذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله لو أننا قلنا بإلغاء الغرر مطلقا في كل شيء ما بقي عقد صحيح ، ولكن الغرر اليسير يغتفر .

حديث رقم – 493-

( صحيح ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة فمضمض وغسل يديه وصلى )

من الفوائد :

أن أكل ما مسته النار لا ينقض الوضوء ، ولكن يسن الوضوء ، وإذا لم يتيسر الوضوء فإن السنة أن يتمضمض ، لأن المضمضة تزيل بقايا الطعام إن كان من الحبوب كالسويق مثلا ، وإن لم تكن من ذلك فإنها تزيل الدسم الموجود الفم من أثر هذا الطعام .

باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل

حديث رقم – 494-

( صحيح ) عن البراء بن عازب قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل فقال توضئوا منها )

من الفوائد :

ذكر ابن ماجه رحمه الله هذا الحديث بعد الأحاديث السابقة لكي يظهر سؤالا هو ” ألحوم الإبل تنقض الوضوء أم أنها لا تنقض الوضوء باعتبار أنها داخلة فيما مسته النار ؟

ولا شك أن المسألة خلافية بين أهل العلم ، جمهور العلماء يرون أن أكل لحم الإبل لا ينقض الوضوء ، وقالوا إن الأحاديث الآمرة بالوضوء مما أكل من لحم الإبل منسوخة بالأحاديث التي جاءت بترك الوضوء مما مست النار ويؤول بعضهم هذا الحديث فيقول إن الوضوء هنا عبارة عن المضمضة ، فمن أكل لحم إبل فيؤمر بالمضمضة ، وذلك لأن لحم الإبل فيه من الرائحة والغلظة ما لا يكون في لحوم الغنم ، فجعلوا الوضوء هنا بمعنى المضمضة ، ومعلوم أن الوضوء في الشرع إذا ذكر كما أسلفنا من القاعدة الشرعية [ أن اللفظ إذا دار بين الحقيقة الشرعية وبين الحقيقة اللغوية فيحمل على كلام المتحدث ، فإن كان المتحدث من أهل اللغة فيكون الوضوء بمعناه اللغوي ، وإن كان المتحدث شرعيا فيكون الوضوء بمعناه الشرعي ] وهذا المتحدث هو النبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون الوضوء هنا محمولا على الحقيقة الشرعية ، ولا يحمل على الحقيقة اللغوية التي هي المضمضة أو غسل اليدين .

وأما الرأي الآخر وهو مذهب الحنابلة فيرون أن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء – وهو الصواب – لأن النسخ لا يؤخذ به إلا إذا لم يمكن الجمع بين الدليلين ، فإذا أمكن الجمع فلا يعمل بدليل و يترك دليل آخر ، و الإعمال هنا متيسر ولله الحمد ، فيكون ترك الوضوء مما مست النار عاما ويخص منه لحم الإبل ،فيكون لحم الإبل ناقضا للوضوء .

وهناك حديث موضوع نبه عليه الألباني رحمه الله من أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان يخطب بعد أن تناولوا لحم إبل فخرجت ريح من أحد الجالسين ، فحتى لا يُحرج أحدا بأن يذهب فيتوضأ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم ” من أكل لحم إبل فليتوضأ ” ) وهذا حديث موضوع ، لأنه لو قيل بهذا لألغينا حكم الوضوء من أكل لحم الإبل وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بالوضوء من لحم الإبل إلا من أجل ألا يحرج هذا الرجل ، ولكنها قصة موضوعة .

ولو قال قائل :

ما الحكمة من الوضوء مما أكل من لحم الإبل ؟

الجواب :

الحكمة اختلف فيها العلماء ، منهم من جنح إلى أنها تعبدية ، ومنهم من قال :إن لحم الإبل لحم فيه غلظة وشدة فكان من المناسب أن يتوضأ .

ومنهم من قال – وهو أقرب ما يكون – أن العلة منصوص عليها وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن الصلاة في معاطن الإبل قال ( فإنها خلقت من الشياطين ) ومعلوم أن الشيطان مخلوق من نار ، ولا يطفئ النار إلا الماء ، فكان من المناسب أن من أكل لحم إبل وقد خلقت من الشياطين كان من المناسب أن يتوضأ ، وليس معنى هذا أنها خلقت من الشيطان وإنما طبيعتها وصفتها الغالبة عليها ( الشيطنة ) كما أن الصفة الغالبة على الإنسان ( العجلة ) قال تعالى { خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ }الأنبياء37، ولسنا مخلوقين من عجل ، ولكن قال عز وجل { خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ }الأنبياء37 لأن الصفة الغالبة فينا هي العجلة .

وليعلم إذا قلنا بأن لحم الإبل ناقض للوضوء يشمل المطبوخ والنيئ ، وهذا مما يرد على من قال إن أكل لحم الإبل لا ينقض الوضوء ، فيقال ينقض الوضوء لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما تعرض للحم الإبل إذا مسته النار ، وإن كان الغالب أنه لا يؤكل إلا إذا طُبخ ، لكن يمكن أن يحصل شيء نادر ، ومعلوم أن القاعدة الأصولية الشرعية تقول [ إن النادر يدخل في ضمن النص العام ] ومثلوا له بمثال ” لو أن إنسانا قرصته عقرب فحصل منه مني بشهوة أيغتسل أم لا ؟ يغتسل ” مع أن هذا نادر ، فإذاً النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض لما مسته النار ، وإنما تعرض للحم الإبل ، فهذا مما يرد به عليهم أنه لو أكل لحم الإبل نيئا غير مطبوخ فإن ظاهر الحديث يدخله في الأمر بالوضوء .

وهنا نص على اللحم ، فهل يدخل ما سوى اللحم في هذا الحكم ، لو أكل كبدة إبل أو كلية إبل أو شحم إبل أو مصران إبل أيدخل في هذا أم لا ؟

المشهور من مذهب الإمام أحمد أن هذه لا تدخل وإنما قالوا هذا يخص لحم الجزور فقط ، فيخص اللحم وأما ما عداه فلا يدخل ، لم ؟ لأن النص نص على اللحم ولم يدخل ما سواه .

القول الثاني وهو الأقرب : أن ما سوى اللحم يدخل في نفس الحكم ، أكل كبدة إبل أو كلية إبل أو شحم إبل فيدخل ، لم لأن النبي صلى الله عليه وسلم عبَّر باللحم لأنه هو الغالب ، لأن غالب ما يؤكد في البهائم اللحم ، ولذا قال عز وجل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } نص على لحم الخنزير ، إذاً شحم الخنزير ؟ مصران الخنزير ؟ داخل في هذا الحكم ، وليس هذا دليلا قويا لهؤلاء ، لأنه قد يقول قائل لا يقاس ما هو مباح الأكل على ما هو محرم الأكل ، لكن لدي دليل ولكن لا أدري هل سبقني إلى ذلك أحد أم لا ؟ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ( سئل عن لحوم الإبل وألبانها أنتوضأ منها ؟ قال نعم ) فكونه عليه الصلاة والسلام يأمر بالوضوء من اللحم واللبن يدل على أنهما اشتركا في الحكم ، فما سوى اللبن من الكرش والمصران والكلية من باب أولى ، لأن هذه الأصناف في الإبل أقرب إلى اللحم من قربها إلى اللبن .

لكن لو قال قائل : هل حليب الإبل يتوضأ منه وجوبا؟

الجواب : لا ، لأن الدليل أخرجه ، فيكون الوضوء من شرب لبن الإبل يكون الوضوء  منه مسنونا ، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين ( أمر العرنيين أن يشربوا من أبوال وألبان الإبل) ولم يأمرهم بالوضوء منها .

فخلاصة القول أن كل أجزاء الإبل تنقض الوضوء إذا أكلت سواء كانت مطبوخة أو نيئة إلا الحليب والبول .

حديث رقم – 495-

( صحيح  ) عن جابر بن سمرة قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتوضأ من لحوم الإبل ولا نتوضأ من لحوم الغنم )

هذا الحديث قد مر معنا ما هو مثيل له ، وذكرنا عدة مسائل تتعلق بهذا الحكم ، ولعلي أجملها على وجه الاختصار .

من الفوائد :

أن هذا الحديث يقرر ما ذكر سابقا من أن لحوم الإبل تنقض الوضوء ، بينما لحم الغنم لا يكون مؤثرا .

ولو قال قائل : أين لحوم البقر ؟ ومعلوم أن البقر تسمى بـ ( البُدُن ) يعني أنها تأخذ تعريف البدنة لعظم جسمها ، فهل تأخذ  حكم الإبل في نقض الوضوء ؟

الجواب : لا ، لأن ما سكت عنه الشارع يُسكت عنه ، والأصل براء الذمة .

وإنما ذكر لحم الغنم إما لسؤال السائل يعني سأله عن لحوم الإبل وسأله عن لحوم الغنم ، أو لأن أكل لحم البقر كان قليلا عندهم .