بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
باب لا وضوء إلا من حدث
حديث رقم – 513-
( صحيح ) عن سعيد وعباد ابن تميم عن عمه قال شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يجد الشيء في الصلاة فقال لا حتى يجد ريحا أو يسمع صوتا )
من الفوائد :
أن ( شكي ) هنا فعل مبني لما لم يسم فاعله ، فيكون إعراب كلمة ( الرجل ) نائب فاعل ، ولا يمكن أن يكون فعلا مبنيا للمعلوم ، لأنه لو كان مبنيا للمعلوم لما كتب بهذه الصورة ، وإنما كُتب ( شكا ) بالألف الممدودة .
ومن الفوائد :
أن هذا الحديث دليل للقواعد الشرعية التي من بينها :
[ اليقين لا يزول إلا بيقين ]
ومنها [ اليقين لا يزول بالشك ]
ومنها [ الأصل بقاء ما كان على ما كان ]
ومنها [ لا عبرة بالتوهم ]
فهذا الحديث قعَّد لنا هذه القواعد وهي أن اليقين هو الأصل ، ولا يعدل عنه بمجرد الشكوك والتوهمات ، لأن هذا الرجل قد توضأ وهو على يقين ، وطرأ عليه الشك ، يسمع قرقرة في بطنه أو في جوفه أو حول دبره فلا يلتفت إلى هذه الشكوك مع وجود اليقين الذي هو الأصل وهو بقاء الطهارة ، فلا يقل انتقض وضوئي لمجرد هذه الشكوك إلا إذا تيقن تيقنا كتيقنه بأنه متوضأ ، هنا اليقين لا يزول إلا بيقين ، فإذا أتى اليقين الذي يخرجك عن الطهارة السابقة هنا نحكم على وضوئك بأنه قد انتقض .
ومن الفوائد :
أن أبا هريرة رضي الله عنه عرَّف الحدث بأنه ( ظراط أو فساء ) فقوله صلى الله عليه وسلم ( حتى يجد ريحا ) يرجع إلى الفساء ، وقوله ( أو يسمع صوتا ) يرجع إلى الظراط .
ومن الفوائد :
أنه عليه الصلاة والسلام قال ( حتى يجد ريحا ) ولم يقل ( يشم ريحا ) وحسب بحثي وقد يكون قاصرا لم أجد بدل كلمة ( يجد ) في إحدى الروايات ( يشم ) فكون هذه الكلمة تأتي ( حتى يجد ريحا ) نستفيد منها فائدتين :”
الفائدة الأولى : زيادة اليقين من أنه لا يخرج عن مقتضى الطهارة إلا إذا تيقن تيقنا عظيما بحيث أن جميع جوارحه قد وجدت هذا الريح ، ولذا لم يقل ( حتى يجد أنفه ريحا ) وهذا من باب المبالغة ، حتى لا يعدل عن هذا اليقين وعن هذا الأصل ، ولذا قال يعقوب عليه السلام ر إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ }يوسف94، لم يقل ( إني لأشم ريح يوسف ) قالوا لأن حب يوسف قد ملك عليه جميع جوارحه وملك عليه كيانه ، فقال { إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ }يوسف94 .
الفائدة الثانية : أن كلمة ( يجد ) تؤكد على اليقين بقطع النظر عن سماع الصوت وعن شم الرائحة ، فالغالب أن الإنسان يسمع الريح أو يشمها ، فربما لا يسمع ولا يشم ، لكن عنده يقين أنه خرج منه شيء لكن لم يسمع له صوتا ولم يشم له ريحا ، وهذا واقع وحاصل .
ومن الفوائد :
أنه لا يجوز للإنسان أن يسترسل مع الشيطان في هذه الشكوك ، ولذا نهاه النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا ) فهو نهي من أن يسترسل ابن آدم مع الشيطان ، ونحن نرى حسب الواقع أن من استرسل مع الشيطان في هذه الشكوك فإنه لم يأت بالعبادة على وجهها الأكمل ولا يجد لها لذة ولا حلاوة ويفتح له الشيطان أبوابا أخرى ، فإذا فرغ من الشكوك في الوضوء دخل في الشكوك في الصلاة ثم في قضية الطهارة والنجاسة ثم في قضية بقاء الزوجة من عدمها هل طلقها أم لم يطلقها ؟ إلى غير ذلك من هذه القضايا الواقعة التي نعرفها عن كثير من الموسوسين ممن أبتلي بهذا الأمر .
ومن الفوائد :
أن في هذا الحديث تربية للمسلم على أن يكون جازما ، فيكون قوي الإرادة بعد الاستعانة بالله عز وجل ولا يكثر من التردد ، ولذا من يتردد في أموره سواء كانت دينية أو دنيوية لا يظفر بخير في الغالب ، ولذا قال الشاعر :
إذا كنت ذا رأي فكنْ ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تتردا
بل على الإنسان كما قال عز وجل { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }آل عمران159 .
ومن الفوائد :
أن فعل الحدث في المسجد وهو الفساء أو الظراط ليس بمحرم وليس بمكروه ، كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء يرى أنه من باب تكريم المسجد ألا يخرج من الإنسان حدث في المسجد ، وهذا الحديث يرد به عليهم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمم ولم يقل في المسجد أو في غيره ، بل في حديث أبي هريرة ( الملائكة تصلي على العبد ما دام في مصلاه ما لم يؤذِ فيه ما لم يحدث فيه ) فلو أحدث لا يلام على ذلك ، صحيح أن الأجر والفضل الذي كان يحصل له من دعاء الملائكة انتفى لكنه لم يقع في الإثم ، ولأن الحدث أمر ليس بمقدور الإنسان فقد يقع منه الحدث من حيث لا يشعر ، بل قد يفعله لأن بقاءه ومنعه فيه ضرر عليه ، والشريعة لا تأتي بالضرر .
حديث رقم – 514-
( صحيح بما قبله ) عن أبي سعيد الخدري قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه في الصلاة فقال لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا )
من الفوائد :
هذا الحديث كالحديث السابق فيما يتعلق من فوائد ، والاشتباه كما قلنا هي الشكوك ، فإذا اشتبه الإنسان في أمر الحدث فعليه أن يأخذ باليقين ، وهذا ليس فيما يتعلق بالطهارة فحسب بل يتعلق فيما أمور العبد كلها الدينية بل حتى الدنيوية .
حديث رقم – 515-
( صحيح ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا وضوء إلا من صوت أو ريح )
من الفوائد :
أن هذا الحديث يقرر ويؤكد أن الحدث غالبا ما يكون له صوت أو رائحة ، وهذا التنصيص قال ( لا وضوء إلا من صوت أو ريح ) هذا التنصيص من باب التأكيد على التمسك باليقين وإلا فقد يقع ما لا صوت له وما لا ريح له ، ومن ثم فإن في هذا علاجا للموسوسين ، لأن بعض الموسوسين يقول أنا متيقن أن الحدث خرج مني ، فقيل له هل سمعت صوتا أو شممت ريحا ؟ قال لا ، لكني متيقن ، مثل هذا الذي استرسل معه هذه الوساوس يعالج بمثل هذا الحديث ، فيقال له نص النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا وضوء إلا من صوت أو ريح فقط ، ويعالج مرضه من خلال هذا الحديث ، نقول له لا تعد وضوءك ولا تبطل صلاتك إلا إذا سمعت صوتا أو شممت ريحا ، أما ما عدا ذلك فلا يلتفت إليه ، لأنها في حقه شكوك ، لكن الشخص السوي السالم من الوساوس نأتي إلى ما ذكرناه من الفائدة السابقة ( حتى يجد ريحا ) فيمكن أن يخرج الحدث من غير صوت ومن غير رائحة ، هذا في الرجل السوي ، أما غير السوي المبتلى بالوساوس نقرر له أمرين :
إذا أتانا وقال خرج مني ريح ، نقول له هل سمعت صوتا ؟ قال لا ، هل شممت ريحا ؟ قال لا ، نقول لم ينتقض وضوؤك ، حتى نعالجه .
لو قال أين الدليل على هذا ؟
نقول حديث ( لا وضوء إلا من صوت أو ريح ) فحصر الوضوء في هذين الأمرين .
حديث رقم – 516-
( صحيح بما قبله ) عن محمد بن عمرو بن عطاء قال رأيت السائب بن يزيد يشم ثوبه فقلت مم ذلك قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا وضوء إلا من ريح أو سماع )
من الفوائد :
هذا الحديث مقتضاه مثل مقتضى الحديث السابق من أنه لا عدول عن اليقين إلا بيقين آخر ، ولذا حرص السائب بن يزيد على أن يشم ثوبه من باب التأكيد على أنه لن يعدل عن هذا اليقين إلا بيقين ، ومعلوم أن الرائحة بعيد أن تعلق بالثياب ، فكونه يشم الثوب يدل على أنه متمسك بهذا اليقين ، لأنه من الغالب أن الرائحة لا تبقى في الثوب فهذا من باب التأكيد على تمسك الإنسان باليقين وأنه لا يعدل عنه إلا بيقين آخر .