بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
حديث رقم – 522-
( حسن صحيح ) عن لبابة بنت الحارث قالت بال الحسين بن علي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أعطني ثوبك والبس ثوبا غيره فقال إنما ينضح من بول الذكر ويغسل من بول الأنثى )
من الفوائد :
بيان لطف النبي صلى الله عليه وسلم بالصغار فقد كان يلاعبهم ، ومن بين مَنْ كان يلاعب الحسن والحسين ، ولذلك كان يقول عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري ( هما ريحانتاي من الدنيا ) فالطفل الصغير بمثابة ما يشم ويتلطف إليه ، ولذا بال الحسين رضي الله على ثوبه عليه الصلاة والسلام ، وما كان هذا ليقع إلا لأنه كان يلاعبه عليه الصلاة والسلام ، ومداعبته صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين جاءت بها أحاديث كثيرة .
ومن الفوائد :
بيان أن الإنسان لو اقتنى أكثر من ثوب فإن هذا جائز ، لأنها طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبس ثوبا آخر وأن يعطيها هذا الثوب لتغسله .
ومن الفوائد :
أن الطفل الرضيع الذي لم يأكل الطعام يكتفى في بوله بالنضح للتنصيص على ذلك ، قال ( ينضح ) بينما لما ذكرت الجارية قال ( يغسل ) وكونه يذكر في شأن الغلام النضح ويذكر في شأن بول الجارية الغسل هذا فيه رد على من قال إن النضح يراد منه الغسل الخفيف ، لأنهم يرون أن بول الغلام الرضيع يجب أن يغسل كما يغسل بول الجارية إلا أن غسل بول الغلام عندهم يكون غسلا خفيفا ، بينما يكون غسل بول الجارية غسلا كثيرا ، ونحن نقول لما فرَّق بينهما فأتى بصيغة النضح في شأن بول الغلام وبصيغة الغسل في شأن بول الجارية دل على أنهما يفترقان ، ولو كانا متساويين لقال ” يغسل من بول الغلام والجارية ” ولم يحتج إلى زيادة حديث في هذا ، لأن قولهم إن النضح بمعنى الغسل لا شك أن النضح يأتي في الشريعة بمعنى الغسل ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن علي رضي الله عنه في المذي قال ( انضح فرجك ) والمراد من هذا النضح هو الغسل ، فالنضح يراد منه الغسل ويراد منه الرش ، ولكن من حيث الأصل النضح هو الرش ، والغسل هو الغسل المعروف ، لكن يمكن أن يخرج النضح عن معناه الذي هو الرش إلى معنى الغسل على حسب سياق الحديث الذي يمر بطالب العلم .
ومن الفوائد :
لو قال قائل : لماذا هذا التفريق بين الغلام وبين الجارية ؟
الجواب : أن هذا هو تفريق من الشرع ، وما جاء من الشرع فيجب أن يقبل ولذا عائشة رضي الله عنها لما سألتها امرأة وهي معاذة سألتها ( ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ قالت – معللة بأنها هذا مرده إلى الشرع – قالت كان ذلك يصيبنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ) فدل على أن أعلى الحكم هي أمر الشرع ، وهذه قاعدة خذها معك ، يعني إذا سئلت لماذا نهي عن كذا ؟ لماذا أمر بكذا ؟ نقول الشرع أمر بذلك ، والدليل ما ذكرناه آنفا، فإن علمت الحكمة فبها ونعمت ، ما علمتَ فعندك أعلى الحكم وهي أمر أو نهي الشرع .
ومن الحكم المستوحاة عند العلماء كثيرة ولا شك أن جميعها يدخل ، وقد تستنبط حكم أخرى في المستقبل ، لكن مما استنبط قال : إن أصل الغلام وهو الذكر أصله من التراب والماء ، لأن آدم خلق من طين ، بينما أصل الجارية خلقت من آدم وهي حواء ، ومعلوم أن اللحم أغلظ من الطين ، فكان هذا التفريق بينهما .
وقيل إن الغلام لديه قوة في تحليل الطعام وإنضاجه أقوى من الجارية ، فلقوة تأثير حرارته البدنية يكون انضاجه للطعام أقوى من الجارية ، فيكون بوله أخف بخلاف الجارية ، ولأن حرارة الذكر أقوى من حرارة الأنثى ، ولذا يرد ابن القيم رحمه الله على من قال إن شهوة المرأة أعظم من شهوة الرجل ، يقول هذا ليس بصحيح ، وما ورد من حديث أن ( شهوة المرأة تزداد على شهوة الرجل ثمانية عشرة مرة ) فهذا حديث لا يصح ، ولذا يقول رحمه الله إن حرارة الرجل ورغبته في الشهوة أكثر من المرأة ، ولذلك أباح الشرع له أربع ، ويقول وإنما ضعفت شهوته من حيث الواقع لأن حرارته أنهكت بمشاغل الدنيا ، وهذا لا شك أنه مشاهد ، أن الإنسان إذا كان مشغول الذهن مصروف البال فإن شهوته إلى المرأة أقل ، بينما إذا كان مرتاح البال فإن الأمر يختلف ، يقول رحمه الله ويؤكد هذا أن الرجل لو قام من زوجته جماعا وأراد أن يجامع أخرى لاستطاع ، بينما المرأة لا شهوة لها لو جامعها مرة ثانية ، فالشاهد من هذا أن لدى الذكر حرارة أقوى من حرارة الأنثى .
وقيل : إن الولد يحمل كثيرا في المجالس ، لأن الرغبة فيه أكثر من الرغبة في الجارية ، فلو قيل بالغسل لكانت هناك مشقة على حامليه ، فخفف في ذلك ، والمشقة كما هي القاعدة في الشرع [ المشقة تجلب التيسير ] .
وقيل : إن بول الغلام لا ينتشر بينما بول الجارية ينتشر فكان التخفيف في شأن الغلام بسبب هذا الأمر والغسل في بول الجارية هو الأنسب .
ومن الفوائد :
أن هذا الحديث مخصوص بالرضيع لحديث أم قيس بنت محصن رضي الله عنها كما في الصحيحين ( أنها أتت بابن لها غلام لم يأكل الطعام فوضعه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره فبال ، فدعا بمال فنضحه ولم يغسله ) وجاء عند الترمذي قوله عليه الصلاة والسلام ( بول الغلام الرضيع ) وهذا موضع الشاهد ( ينضح ) فإذا أكل الطعام فإنه ينتقل من حكم النضح إلى حكم الغسل ، والمقصود إذا أكل الطعام تشهيا ، لكن إذا وضع في فمه ، لأن بعض الأمهات تضع في فم ولدها بعض الطعام وهو لا يشتهيه فيبلعه ، فهذا لا يؤثر ويبقى حكم النضح ، لكن لو أن الطفل الرضيع إذا رأى الطعام اشتهاه ، وصاح رغبة فيه فإذا أطعم فإنه ينتقل من حكم النضح إلى حكم الغسل .
لو قال قائل : لو كان هذا الغلام يأكل أحيانا ويشرب من أمه أحيانا ؟
فيقال : ينتقل الحكم من النضح إلى الغسل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أنه رضيع ولا يتناول طعاما ، فإذا اختلط حليبه بطعام آخر فإن الحكم ينتقل من النضح إلى الغسل ، ولذا ما يطعم به هؤلاء الصغار من هذه الحليبات المصنعة ، هذه من الأبقار وهي أطعمة ومن ثم فإنه لو بال فإن حكم بوله الغسل وليس النضح .
ولأن بعض النساء قد يرضعن أولادهن حينا ويطعمنهن من هذه الحليبات حينا ، فنقول ينتقل الحكم من النضح إلى الغسل
ومن الفوائد :
أن التنصيص منه عليه الصلاة والسلام على البول يخرج الغائط ، فيكون غائط هذا الطفل الرضيع الذي لم يأكل الطعام ، يكون حكم غائطه وجوب الغسل .
ومن الفوائد :
ما حكم قيء هذا الغلام الرضيع الذي لم يأكل الطعام ؟ أيكون ملحوقا ببوله أم يكون ملحوقا بغائطه ؟
من نظر من العلماء إلى أن القيء أخف من البول وأن الشرع تسامح في البول ، فيكون التسامح في قيئه من باب أولى ، لأن قيئه متولد من هذا الحليب وليس من طعام ، فيقول إنه أولى بالحكم بمعنى أن هذا القيء ينضح .
ومن نظر من العلماء إلى أن الشرع ذكر البول ونص عليه ، قال إن ما عداه من نجاسات هذا الغلام من غائط وقيء أنه يكون نجسا .
والقول الثاني وهو الأقرب وإن كان القول الأول فيه شيء من القوة ، لكن هذا أقرب بناء على الأصل ، هذا إذا كنا نرى أن القيء من الكبير نجس ، لأن البعض من العلماء كابن حزم رحمه الله وتبعه الألباني رحمه الله يرى أن القيء ليس بنجس ، لأنه لا دليل على النجاسة ، حتى لو كان من الكبير، لكن الجمهور يرون أن نجس ، لم ؟ لأنه طعام ، نظير الغائط يقع في المعدة وإذا وقع في المعدة فإن هذا الطعام يتحلل إلى أن يكون غائطا ، فيقولون بمجرد وصوله إلى المعدة فإنه استحال ، ولذا إذا استقاء وجد لقيئه من الرائحة المنتنة ومن تغير الطعام ما يشبه الغائط إلى حدٍّ كبير .
لو قال قائل : هذا قياس مع الفارق ، لم ؟ لأن الغائط يخرج من السبيل والقيء يخرج من مخرج مختلف ؟
فيقال : ليست العبرة بالمخرج ، العبرة بهذا الشيء الذي خرج ، ولذلك قد يجرى للإنسان عملية فينسد مخرجه الذي هو الدبر ويخرج غائطه من بطنه ، هنا العلماء يقولون هذا الغائط نجس ، فدل هذا على أن المخرج ليس بمؤثر في مثل هذا الأمر .
ومن الفوائد :
أن حكم النضح في بول الغلام لا يدل على أنه ليس نجسا هو نجس ولذلك أمر بالنضح ، ولذا في رواية أخرى ( يرش من بول الغلام ) فدل على أن النضح المذكور هنا مفسر بالرواية الأخرى بأنه الرش ، فبول الغلام الرضيع نجس ولكن نجاسته نجاسة مخففة ، وهذا يعود بنا إلى أن النجاسات ثلاثة أنواع :
النوع الأول : نجاسة مغلظة ” وهي نجاسة الكلب ، بأن تغسل سبع مرات أولاهن بالتراب ، وكذلك الخنزير قياسا عليه عند الحنابلة ، ولكن الصحيح أن الحكم محصور بالكلب وما تولد منه .
النوع الثاني : ” نجاسة مخففة ” وهي بول الغلام الرضيع الذي لم يأكل الطعام ، فالحكم فيه الرش .
النوع الثالث : ” نجاسة متوسطة ” وهي ما عدا هذين النوعين ، وحكمها الغسل ولا يشترط فيها عدد على الصحيح ، وأما قول ابن عمر رضي الله عنهما ( أمرنا بغسل الأنجاس سبعا ) فهذا حديث لا يصح ، فإن زالت النجاسة المتوسطة بغسلة فهذا كافي ، إن لم تذهب إلا بثانية فلابد من ثانية وهكذا .
حديث رقم – 523-
( صحيح ) عن عائشة قالت أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصبي فبال عليه فأتبعه الماء ولم يغسله )
من الفوائد :
أن هذا النضح مفسر بالرش كما مر معنا في رواية أخرى ، ومفسر هنا بأنه يتبع بالماء يعني يصب عليه الماء ، ولا يلزم من ذلك المكاثرة ولا يلزم العصر ، فصب الماء كافي في تطهير هذا البول .
ومن الفوائد :
أن النبي عليه الصلاة والسلام من لطفه أنه كان يؤتى إليه بالصغار ولو لم يكونوا من أهل بيته ، يلاعب الحسن والحسين ، ولكن أيضا يؤتى إليه بالصغار من بيوت الصحابة رضي الله عنهم ، وكان عليه الصلاة والسلام يحتضنهم ويداعبهم ، وهذا يدل على شفقه صلوات ربي وسلامه عليه .
وكان الصحابة رضي الله عنهم يأتون بصغارهم مع ما سبق من اتساع صدره عليه الصلاة والسلام للصغار أيضا يأتون بهؤلاء الصبية للظفر ببركة النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن الفوائد :
أن الطفل الرضيع يطلق عليه أنه ” صبي ” إذاً من المعلوم أن الرضاع المتعارف عليه أنه يكون في السنتين الأوليين {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } فيصح أن تقول لمن هو ابن سنة أو ابن عشرة أشهر أو ابن شهر يصح أن تقول هذا صبي .
حديث رقم – 524-
( صحيح ) عن أم قيس بنت محصن قالت دخلت بابن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأكل الطعام فبال عليه فدعا بماء فرش عليه )
هذا أيضا يؤكد ما سبق من فوائد من أنه لم يأكل الطعام وأنه صلوات ربي وسلامه عليه اكتفى بالرش .
حديث رقم – 525-
( صحيح ) عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بول الرضيع ينضح بول الغلام ويغسل بول الجارية )
ذكر ( الرضيع ) هنا يؤكد ما سلف من أن الحكم خاص بالمرتضع الذي لم يخلط حليب الأم بطعام آخر .
قال أبو الحسن بن سلمة حدثنا أحمد بن موسى بن معقل حدثنا أبو اليمان المصري قال سألت الشافعي عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم يرش من بول الغلام ويغسل من بول الجارية والماءان جميعا واحد قال لأن بول الغلام من الماء والطين وبول الجارية من اللحم والدم ثم قال لي فهمت أو قال لقنت ؟ قال قلت لا ، قال إن الله تعالى لما خلق آدم خلقت حواء من ضلعه القصير فصار بول الغلام من الماء والطين وصار بول الجارية من اللحم والدم قال قال لي فهمت؟ قلت نعم قال لي نفعك الله به )
من فوائد هذا الأثر :
أن الشافعي رحمه الله بين حكمة من الحكم التي فرقت بين بول الصغير وبين بول الكبير ، وذلك رحمه الله أن حواء خلقت من ضلع صغير ، وليس على ذلك دليل ، وإنما هي خلقت من ضلع ، أما تحديده أو وصفه بشيء فالله أعلم بذلك.
ومن الفوائد :
أن على طالب العلم إذا حضر درسا أو ألقيت أمامه فائدة فلم يفهم فعليه أن يستفهم ، لأن الشافعي رحمه الله قال ( أفهمت ؟ فقال لا ) فبين له حتى استوضح لديه ما كان مجهولا أو مبهما عنده ، وهذا يتفق مع ما ذكره السلف رحمهم الله ( من أن العلم لا يناله مستحي ولا مستكبر )