الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
باب ما جاء في إقامة الصلب إذا رفع رأسه من السجود والركوع
حديث رقم – 279-
( صحيح ) حدثنا أحمد بن محمد بن موسى المروزي أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال : كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود قريبا من السواء )
حديث رقم 280-
حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الحكم : نحوه
من الفوائد :
أن المسنون في حق المصلي أن تكون الأركان متقاربة من حيث الطول .
ومن الفوائد :
أن هذه المقاربة بين الأركان نسبية ، يعني ليست متيقنة ، ولذلك قال ( كانت قريبا من السواء ) مما يدل على أن هناك تفاوتا بين هذه الأركان لكنه ليس تفاوتا كبيرا .
ومن الفوائد :
الرد على الحنفية الذين لا يطيلون في الرفع بعد الركوع ولا في الرفع بعد السجود .
ومن الفوائد :
أن تسبيحات الركوع والسجود ليست محددة بعدد – وقد مر معنا شيء من هذا – لأن بعض العلماء حددها ، حتى أوصلها بعضهم إلى أن أكثرها عشر ، وهذا الحديث يدفع هذا القول ، لم ؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطيل في القراءة فإذا أطال في القراءة أطال في ركن القيام فيكون ركوعه قريبا من قيامه .
ومن الفوائد :
بيان فضل الصحابة رضي الله عنهم إذ نقلوا لنا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن الفوائد :
الرد على من زعم أن الرفع من الركوع الثاني في صلاة الكسوف لا يطال فيه ، كما أن الرفع من السجود في صلاة الكسوف لا يطال فيه ، لأن حديث البراء عام .
ومن الفوائد : وهي فائدة مهمة جدا :
أن الطمأنينة ركن في جميع الأركان .
باب ما جاء في كراهية أن يُبادِر الإمامُ بالركوع والسجود
حديث رقم – 281-
( صحيح ) حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عبد الله بن يزيد حدثنا البراء وهو غير كذوب قال : كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه من الركوع لم يحن رجل منا ظهره حتى يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسجد )
من الفوائد :
أن جملة ( وهو غير كذوب ) اختلف في قائلها :
فقال كثير من العلماء إن القائل هو عبد الله بن يزيد ، ومن ثم فإن في هذا الكلام تزكية للصحابي ، مع أن الصحابة كلهم عدول ، ولا يحتاجون إلى مثل هذه التزكية ممن جاء بعدهم ، فكيف تحمل هذه الجملة ؟
قال ابن معين رحمه الله : إن هذه الجملة ليست من عبد الله بن يزيد ، وإنما من الراوي عن عبد الله بن يزيد يقصد عبد الله ولا يقصد البراء .
ولكن رد على بن معين رحمه الله بأن عبد الله بن يزيد أثبت بعض العلماء صحبته ، فنبقى في الإشكال السابق .
لكن ابن حجر رحمه الله قال إن ابن معين لا يرى لعبد الله بن يزيد صحبة ، فلا يعترض على ابن معين فيما ذكر ، فيكون هذا القول في حق عبد الله بن يزيد .
بينما جملة من العلماء يرون أن الجملة موجهة إلى البراء رضي الله عنه من عبد الله بن يزيد ليس لضعف في البراء وإنما من باب التقوية ، من باب تقوية الحديث وتأكيده ، كما كان بعض الصحابة – كابن مسعود رضي الله عنه – ( حدثنا الصادق المصدوق ) وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا من باب التقوية والتأكيد ، لا لأن ابن مسعود يزكي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليس هذا مراده .
ومن الفوائد :
أنه ورد في رواية عند مسلم ( لا يحنو ) فتكون هناك لغتان بالواو وتكون بدون الواو مقتصرا فيها على النون مع وجود الجزم ” لم ” إذاً ” يحنو – يحن ” هما لغتان .
ومن الفوائد :
أن السنة في حق المأموم أن يكون متابعا لإمامه ، ليس سابقا له وليس موافقا له وليس متأخرا عنه ، فإن حديث البراء يدل على أن المشروع في حق المأموم المتابعة ، ما هي المتابعة ؟
ألا ينتقل المأموم إلى الركن حتى يصل الإمام إلى الركن ، ولذلك في رواية ( حتى يمكن الرسول صلى الله عليه وسلم جبهته من الأرض ) .
ومن الفوائد :
أن بعض العلماء ضبط المتابعة بضابط ، ولكن هذا الضابط لا ينضبط حتى يطبق الإمام تكبيرة الانتقال في موضعها ، قال بعض العلماء إن المشروع في حق المأموم ألا يحرك ظهره للانحناء حتى ينتهي صوت الإمام ، فإذا انتهى صوت الإمام بالتكبير ينتقل ، لم ؟ لأن نهاية التكبير تدل على أنه قد وصل إلى الركن ، لكن هذا كما قلت يحتاج إلى أن يطبق الإمام تكبيرة الانتقال في موضعها .
ومن الفوائد :
أن فيه دليلا لمن قال من العلماء إن المأموم يكون بصره إلى الأمام ولا يكون بصره في موضع السجود ، لأن كلام البراء يدل على أنهم كانوا يرون الرسول صلى الله عليه وسلم .
والصواب أن المأموم ينظر إلى موضع سجوده ، أما ما نقل إنما نقل عن بعض الصحابة فكانوا ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتحقيق مصلحة كبرى ، وهي نقل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن الفوائد :
أن الالتفات في الصلاة إذا كان لحاجة لا يكره ، لأن النظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم لمن هم في طرف المسجد من جهة اليمين أو من جهة اليسار متعذر إلا إذا كان هناك التفات ، فدل على أن الالتفات لحاجة لا بأس به .
ومن الفوائد :
أن السنة في حق المصلي أن يمكن جبهته من الأرض .
باب ما جاء في كراهية الإقعاء بين السجدتين
حديث رقم – 282-
( ضعيف ) حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أخبرنا عبيد الله بن موسى حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا علي أحب لك ما أحب لنفسي وأكره لك ما أكره لنفسي لا تقع بين السجدتين )
من الفوائد :
هذا الحديث ضعيف ولكن تؤيده أحاديث أخرى ، تلك الأحاديث الأخرى مقيدة ليست مطلقة ، لأن هذا الحديث يدل على أن الإقعاء بنوعيه منهي عنه – وليس كذلك – لأن الإقعاء نوعان ، كما قال النووي رحمه الله ، فالإقعاء نوعان :
النوع الأول :
أن يقعي كإقعاء الكلب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما صح عنه ( نهى عن إقعاء كإقعاء الكلب ) وذلك بأن ينصب ساقيه ويضع إليتيه على الأرض ويتكئ بيده على الأرض كإقعاء الكلب .
والنوع الثاني :
أن ينصب قديمه ويجلس بإليتيه على قدميه ، وهذا يكون بين السجدتين ، فهنا نوعان للإقعاء .
باب في الرخصة في الإقعاء
حديث رقم – 283-
( صحيح ) حدثنا يحيى بن موسى حدثنا عبد الرزاق أخبرنا بن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع طاوسا يقول قلنا لابن عباس : في الإقعاء على القدمين قال هي السنة فقلنا إنا لنراه جفاء بالرجل قال بل هي سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم )
من الفوائد :
أن فيه دليلا على أن الإقعاء بنوعيه أحدهما سنة والآخر منهي عنه ، فالمنهي عنه هو إقعاء كإقعاء الكلب ، أما المسنون فهو الذي يكون بين السجدتين كما سبق ، أن ينصب قدميه وأن يجلس بإليتيه على عقبيه .
وأما من يرى أن الإقعاء نوع واحد ، ويعمم النهي يقول إن حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور هنا ، يقول إنه منسوخ ، والصواب عدم النسخ لإمكان الجمع بين الدليلين ، فمتى ما أمكن الجمع بين الدليلين فلا يعدل إلى النسخ ، لاسيما وأن ابن عمر رضي الله عنهما فعل ذلك ، لاسيما أن ابن عباس رضي الله عنهما أضاف السنة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال ( بل هي سنة نبيكم )
بينما من يرى النسخ يقول إن السنة في الجلسة بين السجدتين هي الافتراش وليس الإقعاء ، ونحن نقول ورد هذا وورد هذا ، ولكن أكثر الأحاديث أتت بالافتراش وذلك أن ينصب رجله اليمنى ويفرش رجله اليسرى على الأرض ويجلس بمقعدته على رجله اليسرى.
ومن الفوائد :
أن بعض العلماء – وهو ابن عبد البر رحمه الله – ضبط ( جفاءُ بالرِّجل ) وقد أنكر عليه ، وقالوا إنما ( جفاء بالرَّجل ) ولكن لا ينكر عليه لأن هناك رواية في مسند الإمام أحمد ( إنه جفاء بالقدم ) والجمهور لهم رواية أيضا ( إنه جفاء بالمرء ) لكن المشهور في الضبط ( جفاء بالرَّجل ) ولو قيل ( جفاء بالرِّجل ) فقد وردت رواية تؤيد هذه اللغة .
باب ما يقول بين السجدتين
حديث رقم -284-
( صحيح ) حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا زيد بن حباب عن كامل أبي العلاء عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن بن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني )
من الفوائد :
أن هذا الذكر هو الذكر الذي يقال في الجلسة بين السجدتين ، وهل هو واجب كله أم أن الواجب سؤال المغفرة ؟
بعض العلماء يرى أن هذا الذكر كلها سنة وليس بواجب ، بينما المشهور من مذهب الإمام أحمد أن الواجب هو سؤال المغفرة فقط ، وما زاد فهو مستحب .
ومن قال بسنية سؤال المغفرة ، قال لعدم الدليل ، فهذا فعل مجرد من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدل على الوجوب ، بينما المشهور من مذهب الإمام أحمد أن سؤال المغفرة واجب، ومن ثم لو تركه نسيانا فيلزمه أن يسجد للسهو ، ولو تركه عمدا بطلت صلاته ، لأن الواجب إذا ترك عمدا تبطل به الصلاة ، وإذا تُرك سهوا يجبر بسجود السهو ، فيا ترى ما هو الدليل ؟
لم أر كلاما للعلماء في ذكر دليل في هذه المسألة ، ولكن يمكن – والعلم عند الله – أن حذيفة ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اقتصر على قول ( رب اغفر لي ، رب اغفر لي ، رب اغفر لي ) ومعلوم أن الصلاة لا سكوت فيها فاقتصاره على سؤال المغفرة يدل على أن هذا هو الواجب ، وما عداه مستحب ، لأنه لا يشرع للمسلم أن يسكت ، لأننا لو قلنا إن هذا الذكر كله سنة لكان له أن يدع هذا الذكر .
ومن الفوائد :
أن على المصلي أن ينوع ، فمرة في الجلسة بين السجدتين يقول ( رب اغفر لي ) ومرة يقول ( اللهم اغفر لي ) ورد ( اللهم ) وورد ( رب اغفر لي ) وهذا هو المشهور عند الناس ويعرفونه ، فقول ( اللهم اغفر لي ) جاء هنا عند الترمذي .
وقد جاءت ألفاظ أخرى بالدعاء ، لعل بعضها يأتي معنا إن شاء الله تعالى .
ومن الفوائد :
أن على المصلي أن يستحضر معاني هذه الكلمات حتى يكون أدعى لقلبه وأخشع ، فلا يقلها مجردة من حضور القلب ، ولذلك عند مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه لما أمره أن يدعى بالهدى والسداد قال ( واذكر بالهدى هدايتك الطريق وبالسداد سدادك السهم ) يعني استحضر ما تقوله في هذا الدعاء ،كأنك تستحضر أنك في طريق تُهدى إليه ، وأنك ترمي بسهم إلى غرض ، فيستحضر هذه المعاني حتى تكون الصلاة نافعة له ومقربة له من الله وناهية له عن الفحشاء والمنكر ، وحتى تكون الصلاة محبوبة له ولقلبه وتكون الصلاة قرة عين له كما كان النبي صلى الله عليه وسلم ( أرحنا بها يا بلال ) و ( جعلت قرة عيني في الصلاة ) وأن يستحضر ما اشتملت عليه من خيري الدنيا والآخرة .
قال ( اللهم اغفر لي ) المغفرة : ستر الذنب والتجاوز عنه .
( وارحمني ) وهذا دعاء يستحضر فيه العبد رحمة الله في الدنيا وفي الآخرة ، وأتت الرحمة بعد المغفرة كما قال العلماء لأن [ التخلية قبل التحلية ] فلما تخلى من الذنب وأذاه أتت رحمة الله ، أتى الخير والنعيم .
( واجبرني ) فالإنسان بحاجة إلى أن يجبر من كسره ومن نقصه ، لأن الإنسان يعتريه النقص ، ويتذكر أن من معنى الجبروت لله جبر الرحمة ، وجبر القوة ، فهو بحاجة إلى أن يجبر من قِبل الله عز وجل في دنياه وفي أخراه .
( واهدني ) تشمل الهدايتين في الدنيا الهداية إلى طريق الحق ، وفي الآخرة الهداية إلى طريق الجنة إذا عبروا الصراط وأن يهدى إلى بيته وإلى غرفه إذا دخل الجنة .
( وارزقني ) يشمل الرزق في الدنيا وفي الآخرة .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد .