الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المؤلف رحمه الله :
باب ما جاء في الصلاة على الحصير
حديث رقم – 332-
( صحيح ) حدثنا نصر بن علي حدثنا عيسى بن يونس عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أبي سعيد : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حصير ” )
قال وفي الباب عن أنس والمغيرة بن شعبة قال أبو عيسى وحديث أبي سعيد حديث حسن والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم إلا أن قوما من أهل العلم اختاروا الصلاة على الأرض استحبابا وأبو سفيان اسمه طلحة بن نافع )
من الفوائد :
مسألة الصلاة على الحصير مرت معنا في الحديث السابق في الصلاة على الخمرة ، وهل الخمرة تطلق على ما نسج من سعف النخيل مما يحوي الوجه واليدين فقط أم أن الخمرة هي ما صنعت للصلاة عليها مما هو أكبر مما ذكره بعض العلماء من أنها مصنوعة لليدين والوجه ، فمر الخلاف في هذه المسألة وذكرنا الصواب ، وذكرنا أيضا حكم السجود على ما كان منفصلا عن بدن المصلي كالصلاة على الخمرة وما جرى من خلاف في الخمرة يجري هنا في الصلاة على الحصير .
ومن الفوائد :
أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على الخمرة وصلى أيضا على الحصير ، وقد جاء عند ابن أبي شيبة أن عائشة رضي الله عنها سئلت ( أصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحصير وقد قال الله جل وعلا { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً }الإسراء8 ؟ فقالت رضي الله عنها إنه لم يصل على الحصير )
فكيف يوفق بين الحديثين ؟
التوفيق بينهما : أن هذا الحديث المذكور عند ابن أبي شيبة شاذ لمخالفته لهذا الحديث الصحيح ، بل جاء عند البخاري عنها رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له حصير يبسطه على الأرض فيصلي عليه ، فحديث الباب وهذا الحديث الذي ذكرته آنفا يضعفان الحديث الوارد عند ابن أبي شيبة ، لأنه خالف من هو أوثق منه .
فإذاً ما سئلت عنه عائشة رضي الله عنها في الآية ( { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً }الإسراء8 ) هذا الحديث شاذ لمخالفة الثقة من هو أوثق منه .
ولو صح ما ذكر لكان دليلا على ما قاله بعض المفسرين من أن قوله تعالى { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً }الإسراء8، أي مكانا يجلس فيه ، والقول الثاني في الآية { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } أي محبسا ، بمعنى أنهم حصروا يعني حبسوا ، وكلا القولين تحتملهما الآية .
باب ما جاء في الصلاة على البُسُط
حديث رقم – 333-
( صحيح ) حدثنا هناد حدثنا وكيع عن شعبة عن أبي التياح الضبعي قال سمعت أنس بن مالك يقول : ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالطنا حتى إن كان يقول لأخ لي صغير يا أبا عمير ما فعل النغير ، قال ونضح بساط لنا فصلى عليه )
قال وفي الباب عن بن عباس قال أبو عيسى حديث أنس حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم لم يروا بالصلاة على البساط والطنفسة بأسا وبه يقول أحمد وإسحاق واسم أبي التياح يزيد بن حميد .
من الفوائد :
البسط جمع بساط ، وهو ما يبسط على الأرض ، وفرق بين كلمة بِساط وبَساط ، ففتح الباء بمعنى الأرض الواسعة ، وأما البِساط فهو الشيء الذي يبسط على الأرض ، ولا شك أن الأرض بساط ، كما قال تعالى {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً }نوح19 .
وهذا الحديث وهو حديث ( يا أبا عمير ما فعل النغير ؟ ) قد عاب بعض الناس على المحدثين إذ قالوا إن بعض المحدثين يذكر أحاديث لا فائدة منها ، وذكروا منها هذا الحديث ( يا أبا عمير ما فعل النغير ؟ ) وقد رد عليهم أحمد بن أحمد الطبري الفقيه الشافعي المسمى بابن القاص ، فقال إن هذا الحديث يشتمل على الأحكام والفوائد والآداب ، يشتمل على ستين فائدة ، وقد ذكرها ابن حجر رحمه الله ملخصا لما قاله ابن القاص ، وزاد ابن حجر رحمه الله فوائد أخرى ، وهذه الفوائد مأخوذة من جميع طرق الحديث ، فإن هذا الحديث المذكور معنا مختصر ، فإن له روايات متعددة ، من مجموع هذه الروايات استنبط العلماء ما يربو على ستين فائدة ، وهذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن علماء السلف رحمهم الله ينبغي لمن أتى بعدهم أن يقفوا أثرهم ، فلا يدخل عقله في اجتهادات قاصرة بناء على قصور عقله ، ولذا نرى فتاوى في هذه السنوات القريبة ينقض بها ما كان أساسا في الدين ومما هو معلوم من الدين بالضرورة ، فبنوا فتاواهم على عقولهم ، ولو أنهم قرءوا ما قاله علماؤنا ممن سبقنا رحمهم الله لتوسعت مداركم ، فإذاً لا غنى لنا عن هذا التراث الذي ذكره هؤلاء العلماء ، فإن من لم يربط علمه بما أتى به أولئك القوم فخليق أن تزل قدمه ويزل لسانه ، وأيضا يدل على أن علماءنا ممن سبقنا أعطاهم الله عز وجل فهما ثاقبا ، وهذا الفهم الثاقب ما أتى من فراغ ، وإنما فهما أوتوه نتيجة تقواهم وقربهم من الله عز وجل {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }الأنفال29 ، ولذلك كان في علمهم نور وخير ، ونحن في هذا المقام نذكر طرفا من هذه الفوائد من باب أن نقف على عظم ما أتى به سلفنا رحمهم الله من غزارة العلم وقوة التفكير وروعة الاستنباط .
فمن هذه الفوائد:
بيان زيارة الحاكم لبعض الرعية ، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يزور بيت أبي طلحة التي هي زوجته أم سليم ، وهذان الابنان ابناها ، أنس من زوج آخر وعمير من أبي طلحة .
ومن الفوائد:
تخصيص بعض الرعية بمخالطة دون غيرهم .
ومن الفوائد :
فضيلة بيت أبي طلحة رضي الله عنه إذ صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبح في بيتهم قبلة متحققة .
ومن الفوائد :
إكرامه صلوات ربي وسلامه عليه لمن خدمه ، وهو أنس رضي الله عنه ، فهذه المخالطة أتت من باب إكرام أنس رضي الله عنه لخدمته رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن الفوائد :
أن كثرة المخالطة والزيارة غير منهي عنها إذا رغب المزور فيها ، فيحمل حديث ( زر غبا تزدد حبا )
الغب في الزيارة : أن يزار المزور بعد أسبوع من الزيارة الأولى ، فيكون هذا الحديث ( زر غبا تزدد حبا ) محمول على غرض دنيوي إنما لطمع في مال المزور أو لكره المزور أن يكثر الزائر عليه من الزيارة أو ما يشابه هذه الأغراض .
ومن الفوائد :
جواز السجع غير المتكلف ، فقد ورد على لسانه صلى الله عليه وسلم هذه الجملة من غير أن يتكلفها ( يا أبا عمير ما فعل النغير )
ومن الفوائد :
أن التكنية ، وهي ما صدرت بأم أو بأب ، تجوز ولو لم يكن للمكنى ابن ، لأن هذا الطفل صغير وقد كنَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن الفوائد :
أن تصغير الاسم لا بأس به إذا كان المقصود المداعبة والتلطف لقوله ( يا أبا عمير ) تصغير عمر .
ومن الفوائد :
جواز تصغير الطير فـ ( النغير ) الأصل نُغر ، وهو طائر قيل إنه فرخ العصافير ، وقيل – وهو الأصل – أنه يشبه العصفور ولكن منقاره أحمر .
ومن الفوائد :
جواز الممازحة .
ومن الفوائد :
جواز ممازحة الصغير الذي لم يميز ، لأنه كان فطيما ، أي مفطوما ، كما قال أنس رضي الله عنه .
ومن الفوائد :
أن ما يوصف به المنافق من أنه يظهر خلاف ما يبطن هذا الوصف ليس مذموما على كل حال ، فقد يظهر الإنسان خلاف ما يبطن في بعض الأحيان وفي بعض الأماكن ، وهو المزاح مع ذلك الطفل الصغير ، إذ مازح رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الممازحة لأنه كان في بيت أم سليم .
ومن الفوائد :
جواز حمل العالم العلم إلى ما يحتاج إليه ، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أم سليم وعلمهم هذا العلم ومنه الصلاة على الحصير .
ومن الفوائد :
الحكم على الأمارات والقرائن ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى أبا عمير حزينا ، فسأل أمه أم سليم ؟ فأخبرته أن طائره قد مات .
ومن الفوائد :
جواز أن يسأل السائل المسئول عن شيء يعلمه ، فالرسول صلى الله عليه وسلم سأل أبا عمير مع علمه بأن طائره قد مات .
ومن الفوائد :
الحكم على ظاهر الإنسان بما يبدو من عينيه ، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا في عيني هذا الطفل .
ومن الفوائد :
استحباب مسح رأس الصغير ، فالرسول صلى الله عليه وسلم مسح رأسه ، ولاسيما إذا كان هذا الصغير حزينا ، ولذا ( أمر صلوات ربي وسلامه عليه من قسا قلبه أن يمسح على رأس اليتيم )
ومن الفوائد :
جواز حبس الطير إذا لم يؤذى وأطعم ، أما إذا حبس وأوذي ولم يطعم فنحن نعرف حديث المرأة الحِميرية التي حبست هرة فدخلت النار .
ومن الفوائد :
أن الرسول صلى الله عليه وسلم مسح رأس أبي عمير وصافح أنس رضي الله عنه إذ قال أنس ( ما مسست كفا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم )
ونام صلوات ربي وسلامه عليه على فراش أم سليم ، فأعطى كل من في البيت ما يناسبه من الخير ، وما ورد أنه صلوات ربي وسلامه عليه ( كان عظيم الكفين ) فإنه محمول على البنية ، أما الرقة واللين ، فكما قال أنس رضي الله عنه ( ما مسست كفا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم )
ومن الفوائد :
جواز القيلولة ، ولذا ورد حديث ( قيلوا فإن الشياطين لا تقيل )
ومن الفوائد :
جواز النوم على فراش الغير إذا كان الغير يستحسن ذلك ويرغب فيه .
ومن الفوائد :
أن دخوله صلى الله عليه وسلم على أم سليم في بيتها على وجه الكثرة هذا لأنه كان مأمونا صلوات ربي وسلامه عليه ، فالفتنة بعيدة عنه، إن مجيئه صلوات ربي وسلامه عليه في وقت لم يكن أبو طلحة موجودا، ومع ذلك دخل صلوات ربي وسلامه عليه ونام على فراش أم سليم ، لم؟ لأن الفتنة كانت مأمونة، ولأن ابن حجر رحمه الله يرى أن الأحاديث الكثيرة تواترت على أنه صلوات ربي وسلامه عليه يعد محرما لنساء الأمة، ولذلك الصحابة رضي الله عنهم كأبي بكر وعمر وغيرهم، ما كانوا يفعلون هذا الفعل ، بل قال سبحانه وتعالى في حق نساء النبي صلوات ربي وسلامه عليه في أشرف العصور في زمن أشرف الناس وهم الصحابة رضي الله عنهم { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ }الأحزاب53 .
ومن الفوائد :
جواز لعب الصغير بالطير إذا كان لا يؤذي الطير ولا يعذبه
ومن الفوائد :
جواز قص جناح الطير ، لأن أبا عمير ما كان ليلهو به لو كان غير مقصوص الجناحين .
ومن الفوائد :
جواز شراء الوالدين من مالهما ما يتلهى به الطفل ، ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله يرخص للصغار ما لا يرخص للكبار ، ومن بين أدلة هذه القاعدة هذا الحديث .
ومن الفوائد :
ان بعض العلماء أخذ من هذا الحديث جواز صيد حرم المدينة ، وهذا هو رأي الحنفية ، والجمهور يرون تحريم صيد المدينة للأحاديث الأخرى ، وقول الجمهور هو الصواب ، فتكون الفائدة من هذا الحديث أن الطير إذا صيد في الحل ثم أدخل به الحرم فلا بأس بذلك .
ومن الفوائد :
جواز مخاطبة الحكيم من لا يعقل ، ولذلك يرى أهل البلاغة أن الحكيم لا يخاطب إلا من يعقل ، فإذا خاطب من لا يعقل فليس ببليغ ، وهذا الحديث يرد به عليهم ، ويمكن أن يجمع بين ما ذكروه وبين هذا الحديث من أن مخاطبة من لا يعقل تكون مناسبة إذا كان المخاطِب لا يريد من المخاطَب جوابا ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجابته أم سليم ، ومن الأغراض التي يمكن أن يخاطب الحكيم من لا يعقل إذا أراد بخطابه التلطف والترقق وإذهاب الحزن كما هنا ، أو أن يقصد بخطابه أن يجيب غيره كما لو قلت لطفل صغير لا يعقل كيف حالك ؟ ، أنت لا تريد منه جوابا وإنما تريد الجواب ممن يعوله ويقوم على شؤونه .
ومن الفوائد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتقزز من بيت أبي طلحة لوجود طفل فيه صغير ربما يلوث ببوله شيئا من هذا البيت .
ومن الفوائد :
أن الأصل في المكان هو الطهارة ، فإذا قال قائل : لماذا رش الحصير بالماء ؟
الجواب : قال بعض العلماء : إن المشكوك في نجاسته يفعل به هكذا ، وهذا قول مردود ، بل إن نضحه من باب تليينه وإذهاب ما علق به من الأوساخ غير النجسة .
ومن الفوائد :
إكرام الزائر وإتحافه بما يرغب فيه ، فقدمت أم سليم رضي الله عنها طعاما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه
ومن الفوائد :
جواز الصلاة على البساط ،مع أنه جاء عند أبي داود أن أنس رضي الله عنه قال ( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على بساط وهو حصير ) فهذه الرواية تبين أن صلاته صلوات ربي وسلامه عليه على الحصير ، فيكون هذا الحصير مضموما للحديث في الباب السابق ، لكن الترمذي رحمه الله فرق بينهما ، ولا شك أن الحصير يطلق عليه بساط ، لأنه يبسط على الأرض، فيمكن أن يوصف الحصير ويطلق عليه أنه بساط لأنه يبسط على الأرض .
ومن الفوائد :
جواز مشي الحاكم وحده ، فإنه صلوات ربي وسلامه عليه لم يأت معه أحد .
ومن الفوائد :
أن هذا الغلام كما جاء عند أحمد أنه هو الذي هلك وتوفي ، فلعل وفاته من أجل حزنه على الطير ، وتعرفون قصة أم سليم مع زوجها أبي طلحة ، لما كان عندها طفل يشتكي مرضه فخرج أبو طلحة ثم رجع وسأل عن الطفل ؟ فقالت هو أسكن ما يكون – والميت هو أسكن ما يكون – فأطعمته وتزينت له وجامعها وأخبرته بخبر الصبي ، فهذا الصبي كما جاءت في رواية عند أحمد هو أبو عمير .
ومن الفوائد :
إضافة الشيء إلى من لا يملكه أو يقوم عليه ليس كذبا على وجا الإطلاق ، فإنه صلى الله عليه وسلم كنى هذا الطفل بأي عمير ، فأضيف هذا الاسم إليه مع أنه ليس له ابن .
ومن الفوائد :
إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لبيت أبي طلحة إذ صلى فيه ، لأن صلاته صلوات ربي وسلامه عليه في بيت لا شك أنه خير .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد