بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المؤلف رحمه الله :
باب ما جاء في الصلاة على الحيطان
حديث رقم – 334-
( ضعيف ) حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستحب الصلاة في الحيطان ” )
قال أبو داود : يعني البساتين .
قال أبو عيسى : حديث معاذ حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن أبي جعفر والحسن بن أبي جعفر قد ضعفه يحيى بن سعيد وغيره وأبو الزبير اسمه محمد بن مسلم بن تدرس وأبو الطفيل اسمه عامر بن واثلة .
من الفوائد :
هذا الحديث ضعيف ، ضعفه الأئمة ، ولو صح لاستفيد منه أن الصلاة في البساتين مطلوبة شرعا ، ولماذا البساتين ؟
إما لأن الصلاة فيها يكون الإنسان مستورا خفيا ، فيكون أبعد عن الرياء ، ولا شك أن هذه الغاية مطلوبة شرعا وجاء بها حديث صححه الألباني من أن الصلاة – أي صلاة النافلة – في السر تعدل في الجهر ما تعدل الفريضة في الجماعة )
وإما أن تكون صلاته صلى الله عليه وسلم في الحيطان أي في البساتين – كما فسره أبو داود رحمه الله – لتنال هذه البساتين وثمارها بركة صلاته صلوات ربي وسلامه عليه ، أو أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يكرم المزور في الصلاة في مكانه ، هذا لو كان الحديث صحيحا ، ولكنه من الضعف كما تعلمون مما ذكره هؤلاء الأئمة .
باب ما جاء في سترة المصلي
حديث رقم – 335-
( حسن صحيح ) حدثنا قتيبة وهناد قالا حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن موسى بن طلحة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبالي من مر وراء ذلك ” )
قال : وفي الباب عن أبي هريرة وسهل بن أبي حثمة وبن عمر وسبرة بن معبد الجهني وأبي جحيفة وعائشة قال أبو عيسى حديث طلحة حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم وقالوا سترة الإمام سترة لمن خلفه .
من الفوائد :
أن السترة محثوث عليها شرعا ، ولكن هذا الحديث أهو على سبيل الوجوب أم على سبيل الاستحباب ؟
تنازع العلماء في هذه المسألة ، ولعله أن يأتي من الأحاديث ما يجعلنا نذكر استدلال كل قول بما ذهب إليه ، فمنهم من أوجبها ، ومنهم من استحبها ، وحديث الباب في ظاهره دليل لمن قال بأن السترة مستحبة ، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الأمر موكولا إلى المصلي قال ( إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرَّحل ) فقد يضع وقد لا يضع .
ومن الفوائد :
أن أقل السترة – كما قال بعض العلماء – هو هذا المقدار ، وهو أن يكون مثل مؤخرة الرَّحل .
ومؤخرة الرَّحل: هي الخشبة التي يستند راكب البعير بظهره عليها ، وقد قدرها بعض العلماء كالنووي رحمه الله ” بثلثي ذراع ” يعني أقل من الذارع ، والذراع مقداره من أطراف أصابع اليد إلى المرفق ، هذا يسمى ذراعا ، وقدرها آخرون في الطول بذراع ، ولعل هؤلاء استندوا إلى ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما ( أن سترته كانت ذراعا )
أما حجمها فقد قال بعض العلماء لابد أن تكون كحجم الرمح
والصواب عدم التحديد ، لا في الطول ولا في الحجم ، لأنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ليستتر أحدكم ولو بسهم ) والسهم : يمكن أن يكون بمقدار المسواك ، لكن الأفضل أن تكون السترة بمقدار مؤخرة الرَّحل .
ومن الفوائد :
أن مؤخرة الرَّحل ضبطت بعدة أوجه ، منها ( مُؤخِّرة الرّحل ) بضم الميم وفتح الهمزة وكسر الخاء المشددة .
الضابط الثاني : مثله ، ولكن تفتح الخاء المشددة ( مُؤَخَّرة ) الضابط الثالث : ضم الميم وتسكين الهمزة وكسر الخاء بدون تشديد ( مُؤْخِرة )
الضابط الرابع : فتح الميم وسكون الواو من غير همز وكسر الخاء بدون تشديد ( مَوْخِرة )
الضابط الخامس : ويشدد بعض العلماء على هذا الضبط لأنه هو الثابت – كما سيأتي في حديث أبي ذر رضي الله عنه ( آخرة )
ومن الفوائد :
أن السترة تكون بين يدي المصلي ، يعني أمامه .
إذاً لو مر شخص والمصلي لم يضع سترة متى يكون المار مذموما ؟ إذا مر بين يديه ، فإذا لم يصدق عليه العرف أنه مر بين يدي المصلي فلا إثم عليه ، لأنه قال ( بين يديه )
وقال بعض العلماء : ليس للمصلي إذا لم تكن لديه سترة ليس له حق في المكان إلا إلى موضع سجوده .
وقال بعض العلماء : ليس له حق إلا ما امتد أمامه مقدار ثلاثة أذرع ، ولعل هؤلاء يستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ( جعل بينه وبين العمود الذي أمامه ثلاثة أذرع )
وقال بعض العلماء : إن ما يستحقه المصلي بقدر ما يرمى بحجر ، ولا شك أن هذا القول ضعيف ، لأن رمية الحجر تختلف باختلاف قوة الرامي ، بل لو كان رميه ضعيفا لما صدق أن هذا الموضع بين يدي المصلي .
فيكون الأقرب ما قاله أصحاب القول الأول بمعنى إذا مر بين يديه عرفا يكون آثما أو القول القائل بأن له مقدار ثلاثة أذرع من قدميه إلى ما أمامه ، فإذا مر شخص فيما بعد هذا فليس للمصلي أن يمنعه ، ولا يكون على المار إثم .
ومن الفوائد :
أن الحكم متعلق بالمرور ، فلو وقف أمامه في القبلة ، بمعنى أنه مشى فوقف في قبله فلا يدخل ضمن هذا الحديث ، لأنه لم يصدق عليه أنه مر بين يديه ، وكذلك لو أنه مشى بين يديه متوجه إلى القبلة ولكنه لم يمر بين يديه .
ومن الفوائد :
أن مرور الشخص بين المصلي وبين سترته يضره ، أما إذا مر أمام سترته فلا يضر ، أما بينه وبين السترة فيتضرر ، وما هو هذا الضرر ؟ هل هو نقصان الثواب ؟ أم أنه بطلان الصلاة ؟
إن كان غير امرأة وحمار وكلب أسود ، وعلى قول آخر يضاف إلى هذه الثلاثة إن كان غير مجوسي ، أو خنزير ، فإن أجر الصلاة ينقص ، أما إذا كان هؤلاء المذكورون على اختلاف بين العلماء في إدخال ما سوى هذه الثلاثة فإن صلاته تبطل ، وعلى كلٍ جمهور العلماء يرون أن مرور أي شخص بين يدي المصلي وبين سترته ينقص الثواب ولا يبطل الصلاة كائنا من كان من مر بين يديه ، والمسألة خلافية سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى فيما سيذكره المصنف رحمه الله من أحاديث .
باب ما جاء في كراهية المرور بين يدي المصلي
حديث – 336-
( صحيح ) حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري حدثنا معن حدثنا مالك بن أنس عن أبي النضر عن بسر بن سعيد أن زيد بن خالد الجهني أرسله إلى أبي جهيم يسأله ماذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المار بين يدي المصلي ، فقال أبو جهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه ” قال أبو النضر لا أدري قال أربعين يوما أو شهرا أو سنة ” )
قال أبو عيسى : وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وبن عمر وعبد الله بن عمرو قال أبو عيسى وحديث أبي جهيم حديث حسن صحيح وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأن يقف أحدكم مائة عام خير له من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي والعمل عليه عند أهل العلم كرهوا المرور بين يدي المصلي ولم يروا أن ذلك يقطع صلاة الرجل واسم أبي النضر سالم مولى عمر بن عبيد الله المديني .
من الفوائد :
السلف رحمهم الله ذكروا أن هذا الأمر مكروه ، وهو مرور المار بين يدي المصلي ، وكذلك عبارة الترمذي رحمه الله ، ويراد من الكراهة التحريم ، فإن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الزنا وقتل النفس وما بعد ذلك من محرمات قال جل وعلا {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً }الإسراء38، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح ( إن الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ) فالكراهة هنا يراد منها التحريم .
ومن الفوائد :
بيان حرص السلف رحمهم الله على علو السند ، فإن أخذ الحديث ممن سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة من غير واسطة أبلغ وأسلم من الخطأ ، فإن السند كلما كان عاليا كلما كان عن الخطأ أبعد وكلما كان السند نازلا يعني كثر رواته كلما كان إلى الخطأ أقرب .
فكان السلف رحمهم الله يتباحثون فيما بينهم من مسائل شرعية ، ولا يأخذون إلا من أهل العلم ، فلا يأخذون من أي أحد .
ومن الفوائد :
بيان عظم ذنب من مر بين يدي المصلي ، وغلَّظ ذلك بقوله ( ماذا عليه ) فأخفى الذي عليه ( ماذا عليه ) يعني من الإثم ، من باب الزجر والتغليظ ، ثم غلظ الأمر بذكر العدد دون المعدود قال ( أربعين ) ولم يذكر المعدود ، وهل هو يوم أم شهر أم سنة ؟ مع أن الترمذي ذكر بصيغة التمريض أنها مائة سنة ، وقد جاء عند البزار ( أربعين خريفا ) والخريف فصل من فصول السنة الأربعة ، فيعبر بالجزء عن الكل ، فالخريف جزء من السنة ، فعبر عن السنة بجزء منها وهو أحد فصولها الأربعة ، بل ذكر ابن حجر رحمه الله أنه جاء عند ابن حبان وابن ماجه ( لكان أن يقف مائة عام خير له من الخطوة التي خطاها )
فاستفدنا من هذا أن المعدود سنة ، وأن العدد اختلف ، في رواية ( أربعون ) وفي الأخرى ( مائة ) فيكون هذا كما قال بعض العلماء يكون هذا تغليظا أي مبالغة في الزجر ، فإنه لما ذكر الأربعين زاد عليها فيما بعد بذكر المائة ، فلا يكون العدد مرادا ، إنما يراد المبالغة كما قال تعالى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }التوبة80 ، فلو استغفر ثمانين أو مائة أو ألف مرة لهؤلاء المنافقين ما جنى فائدة من استغفاره عليه الصلاة والسلام ، وهذا كما قال الأصوليون [ يراد منه المبالغة فلا مفهوم له ]
وهناك من الأصوليين من لا يعتبر مفهوم العدد ، قلَّ أم كثر ،
ومن الفوائد :
أن كلمة ( خير ) هنا مرفوعة ، وفي رواية البخاري منصوبة ، فرواية الرفع على أن ( خير ) اسم لكان مؤخر ، وتكون جملة ( أن يقف ) خبر كان ، أي وقوفه ، لأن الفعل المضارع وأن المصدرية – كما بينا في النحو – يسبكان ويحولان إلى المصدر .
وأما من نصب فتكون ( خيرا ) خبر كان منصوب .
ومن الفوائد :
أن الضرر يحصل إذا مر بين يديه ، فإذا لم يمر بين يديه فلا ضرر ولا إثم ، وهذا يقوي ما ذهب إليه بعض العلماء كما أسلفنا أن المصلي ليس له حق من المكان إلا ما كان أمامه أي بين يديه ، أما إذا لم يصدق عرفا أنه مر بين يديه فلا حق له في منعه ولا إثم ولا ضرر على من مر .
ومن الفوائد :
أن ( لو ) الأكثر في جوابها أن تقترن باللام كما هنا ( لكان ) ويمكن أن يخلو جوابها من اللام ، كما قال تعالى {لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ }الواقعة65 أتى باللام في الجواب ، ثم أتى بعدها في ذكر الماء {لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ }الواقعة70 ، بدون ذكر اللام .
ومن الفوائد :
أن أفعل التفضيل هنا ليس على بابه ، فهل المرور بين يدي المصلي فيه خير ولو كان قليلا ؟ الجواب لا .
ومن الفوائد :
أن كلمة ( خير ) وكلمة ( شر ) تدل على التفضيل ولو لم يؤت بالألف قبلها ” أخير – أشر ” بل إن الأكثر أن ” خير وشر ” لا يؤتى بالألف الدالة على أفعل التفضل ، وإن كانت واردة في بعض الأحاديث .
إذاً إذا مر فوقف ولم يحصل مرور أمام المصلي فلا إثم ، اللهم إلا إذا كان في وقوفه تشويش على المصلي ، فإنه يكون آثما ، فإذا وقف ولم يمر وأثر على خشوعه فإنه يكون آثما .
ومن الفوائد :
أن فيه دليلا لمن قال من العلماء يستوي في هذا كل مكان ، في فضاء ، في مسجد ، في جامع ، في المسجد الحرام ، في المسجد النبوي ، لعموم ظاهر هذا الحديث ، فإنه عمم ولم يميز مكانا عن مكان .
بينما يرى بعض العلماء أن مكة والمدينة تخرجان من هذا الحديث ، ويستدلون على ذلك بحديث ضعيف من فعله عليه الصلاة والسلام ( أنه صلى في المطاف والناس يمرون أمامه بين يديه ) قال الشيخ ابن باز رحمه الله ” إن هذا الحديث يتقوى بفعل السلف ” فما كان السلف رحمهم الله يشددون في السترة في مكة والمدينة للقاعدة الشرعية [ المشقة تجلب التيسير ] ولأنه لو وقف أمام كل مصل يصلي لما تحرك إلا خطوة ولأمضى يومه كله وهو ينتظر هذا ثم ينتظر ذاك .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد