بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
باب ما جاء في الإشارة في الصلاة
حديث رقم – 367-
( صحيح ) حدثنا قتيبة حدثنا الليث بن سعد عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن نابل صاحب العباء عن بن عمر عن صهيب قال : مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فرد إلي إشارة ” )
وقال ( لا أعلم إلا أنه قال إشارة بأصبعه )
قال وفي الباب عن بلال وأبي هريرة وأنس وعائشة .
من الفوائد :
أن في سنده ( نابل صاحب العباء ) والمقصود أنه صاحب الأكيسة واللباس ، فقد يعرف الشخص أو يُعرَّف بمهنته أو بلقبه .
ومن الفوائد :
أن الراوي لهذا الحديث هو صهيب الرومي ، وأنا لا أتعرض كثيرا لترجمة الرواة إلا إذا كانت هناك حاجة تدعو إلى ذلك من باب إيضاح ما قد يعلق بالذهب من معلومة خاطئة ، فصهيب لقب لهذا الصحابي ، لأن بعضا من الناس يظن أنه اسمه ، لكنه لقب ، واسمه عبد الملك ، وصهيب لقبه ، وهو ليس من الروم وإنما كان في منطقة العراق بين نهري دجلة والفرات ، فلما غزاها الروم أخذوه صغيرا فأصبح رقيقا لديهم حتى اشترته قبيلة من قبائل العرب فأتت به إلى مكة فاشتراه عبد الله بن جدعان فأعتقه ، فحصل من هذا أن ما يتوهم من أن اسمه صهيب أو أنه من الروم يجب أن يعلم ، وهو الذي نزل فيه قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ }البقرة207 ، لأن قريشا خيرته بين نفسه وأن يهاجر وبين أمواله ، قالوا أتيتنا وأنت فقير فنسمح لك بالهجرة على أن تدع جميع مالك ، فتركه رضي الله عنه ، فاشترى مرضاة الله عز وجل .
ومن الفوائد :
أن السلام مستحب وينبغي للمسلمين أن يفشوه ، ويدل على هذا أحاديث كثيرة جاءت بفضل إفشاء السلام ، ومن بينها هذا الحديث ، لم ؟ لأن السلام وقع على شخص يصلي وهو النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما ما ذهب إليه بعض العلماء من أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بأصبعه حتى لا يُسلم عليه وأنه نهي عن السلام ، فهذا قول ضعيف ويرده الحديث ، لأن البيان أوضح من الإشارة ، فلو كان كذلك لنهى النبي صلى الله عليه وسلم صهيبا وغيره كابن مسعود لما سلم عليه ، لنهاه بعد السلام عن هذا الفعل .
ومن الفوائد :
أن بعض العلماء – كما أسلفنا – يقول إن إشارته عليه الصلاة والسلام إنما هي إشارة للنهي عن السلام عليه وهو في الصلاة ، وهذا قول بعيد وضعيف .
ومنهم من قال : إن من سلَّم على المصلي فلا يرد عليه إشارة ، لأن الإشارة تبطل الصلاة إذا كانت مفهومة لحديث عند أبي داود ( من أشار في صلاته بإشارة تفهم عنه فليعد الصلاة ) فيقال : هذا الحديث ضعيف .
ولو قال قائل : من العلماء من يقول بأن من سلم على من هو مشغول لا يستحق أن يُرَد عليه ، فلو مثلا سلم شخص على قارئ للقرآن ، أو كان يقضي حاجته ، هل يرد عليه أو لا ؟ قالوا لا يستحق أن يرد عليه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد – كما مر معنا – ( لم يرد على من سلم عليه وهو يقضي حاجته )
ولذا على المسلم ألا يفعل ذلك ، يعني لا يسلم على من هو مشغول بقراءة قرآن أو نحو ذلك .
لكن لو سُلِّم على من هو مشغول أيمكن أن يقال إنه يرد عليه بالإشارة قياسا على الصلاة ؟
قد يقول قائل يمكن- وهذا محتمل – ولكن الاحتمال الأقوى أنه لا يرد عليه إشارة وإنما يرد عليه قولا ، لم ؟
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما توضأ رد على من سلم عليه ، وإنما جاءت الإشارة في الصلاة لأن الصلاة لا يجوز أن يتكلم فيها ، ولذلك في حديث ابن مسعود رضي الله عنه كما في الصحيحين قال ( قدمت على النبي صلى الله علي وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد علي السلام ، فلما سلم قال عليه الصلاة والسلام إن الله قد أحدث أمرا ألا تتكلموا في الصلاة ) وقال ( إن في الصلاة لشغلا )
وهذا الحديث يرد قول من يقول إن قول بعض الناس ” الله لا يشغلنا إلا في طاعته ” أنه لا يصح ، نقول هذا خطأ ، إن الاشتغال بطاعة الله من خير ما يشتغل به الإنسان ، النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن في الصلاة شغلا .
ومن الفوائد :
أن الإشارة منه عليه الصلاة والسلام تدل على أنه يقتصر على الإشارة ولا يجوز اللفظ ، لأنه لو تلفظ بالسلام بطلت صلاته ، ولذلك قال بعض العلماء ” من لا يحسن أن يرد في صلاته فلا يسلم عليه ” لأن بعضا من الناس قد يُسلم عليه ثم يسلم كلاما ، فمن لا يحسن الرد لا يسلم عليه .
ومن الفوائد :
أن الرد بالإشارة يدل على أن رد السلام واجب .
ومن الفوائد :
أن الحركة اليسيرة في الصلاة لا تؤثر عليها ، فالإشارة حركة ومع ذلك لم يؤثر في الصلاة .
ومن الفوائد :
أن الرد جاء بيانه بالإشارة وهو أن يشير بأصبعه ، فمن سلم عليه في الصلاة فإنه يرد إشارة بأصبعه من غير تلفظ .
فهذا نوع من أنواع الرد ، وهناك نوع آخر وهو أن يشار باليد كلها ، فتحصل من هذا أنه يشير إما بأصبعه وإما بيده ، وقال بعض العلماء : يحتمل أن الإشارة تكون بالأصبع فقط ، ويكون ذكر اليد في الحديث من باب إطلاق الكل على الجزء ، فإن المقصود باليد هو الأصبع .
ولكن الصواب أن يقال إن الرد جاء إشارة بالأصبع وجاء إشارة بالكف .
وهذه الإشارة إنما تكون في الصلاة ، لكن إذا كانت خارج الصلاة فلا يجوز الرد إشارة دون لفظ لما صح عنه عليه الصلاة والسلام ( أن تسليم النصارى بالأكف وأن تسليم اليهود بالأصابع ) فلا يجوز أن يتشبه بهم .
ولو قال قائل : إن النبي صلى الله عليه وسلم ( لوَّح بيده لما رأى نسوة وهن قعود لوح بيده إشارة إلى التسليم ) ؟
فيقال : إن صح هذا الحديث لأن هناك من يضعفه ، وهناك من يحسنه ، فإن صح هذا الحديث فيقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى من هو بعيد بكفه وجمع معه اللفظ ، ولذا لو سلمت على شخص بعيد أو مررت به وهو لا يسمعك فإنك تشير بيدك ولابد مع الإشارة باليد أن تتلفظ بالسلام حتى لو لم يسمع كلامك .
حديث رقم -368-
( صحيح ) حدثنا محمود بن غيلان حدثنا وكيع حدثنا هشام بن سعد عن نافع عن ابن عمر قال قلت لبلال : كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو في الصلاة ؟ قال كان يشير بيده )
قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح ، وحديث صهيب حسن لا نعرفه إلا من حديث الليث عن بكير ، وقد روي عن زيد بن أسلم عن بن عمر قال قلت لبلال كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع حيث كانوا يسلمون عليه في مسجد بني عمرو بن عوف ؟ قال كان يرد إشارة وكلا الحديثين عندي صحيح لأن قصة حديث صهيب غير قصة حديث بلال وان كان بن عمر روى عنهما فاحتمل أن يكون سمع منهما جميعا .
من الفوائد :
أنه يبين كما أسلفنا أن الإشارة تكون باليد دون أن يتلفظ ، وكان رد السلام قبل ذلك جائزا ، لأن الكلام في الصلاة كان جائزا في أول الإسلام ، فإذا أراد الرجل أن يحدث صاحبه بحاجته حدثه في الصلاة ، قال زيد بن أرقم ( فنزل قوله تعالى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ }البقرة238 ، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام )
وهذا يدل على أن كلام الآدميين يخالف القنوت وأن من أنواع القنوت هو السكوت .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد .