تعليقات على سنن ( النسائي ) ـ الدرس الرابع عشر
من حديث ( 315 ) حتى ( 321 )
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
باب الاختلاف في كيفية التيمم
حديث رقم – 315-
( صحيح ) أخبرنا العباس بن عبد العظيم العنبري قال حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء قال حدثنا جويرية عن مالك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه أخبره عن أبيه عن عمار بن ياسر قال : تيممنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتراب فمسحنا بوجوهنا وأيدينا إلى المناكب )
من الفوائد :
أن هذا الفعل من الصحابة رضي الله عنهم كما أخبر عمار أن هذا فعل باجتهاد منهم ، فإن المعية هنا التي أطلقها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتضي أنه فعل ذلك ، فهذا الفعل منهم على سبيل الاجتهاد فلما أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لهم الكيفية الصحيحة ، وهي أن التيمم ( ضربة واحدة للكفين وللوجه )
ولذا يحمل بعض العلماء هذا الحديث على أنه كان في أول الأمر ، ثم نسخ بحديث عمار الذي مر معنا ( لما تمرغ كما تتمرغ الدابة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يكفيك ” فضرب النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى الأرض ثم نفخ فيهما ، ثم مسح بهما وجهه وكفيه )
ومما يدل على رجحان ما ذكرناه أن عمارا رضي الله عنه كان يفتي بذلك بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، والراوي المجتهد يُقبل قوله ، لاسيما إذا لم يُعارض السنة الصحيحة .
وبعض العلماء : يرى أن كل ما ورد ( من الضربتين ) أو ( المسح إلى نصف الذراع ) أو ( إلى المرفقين ) أو ( إلى المناكب ) أو إلى الآباط ) يرى أنها كلها ضعيفة ولا يعول عليها .
نوع آخر من التيمم والنفخ في اليدين
حديث رقم – 316-
( صحيح دون الذارع الصواب ” كفيه ” كما في الرواية التالية ) أخبرنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الرحمن قال حدثنا سفيان عن سلمة عن أبي مالك وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي عن عبد الرحمن بن أبزي قال : كنا عند عمر فأتاه رجل فقال يا أمير المؤمنين ربما نمكث الشهر والشهرين ولا نجد الماء فقال عمر أما أنا فإذا لم أجد الماء لم أكن لأصلي حتى أجد الماء فقال عمار بن ياسر أتذكر يا أمير المؤمنين حيث كنت بمكان كذا وكذا ونحن نرعى الإبل فتعلم أنا أجنبنا قال نعم أما أنا فتمرغت في التراب فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فضحك فقال إن كان الصعيد لكافيك وضرب بكفيه إلى الأرض ثم نفخ فيهما ثم مسح وجهه وبعض ذراعيه فقال اتق الله يا عمار فقال يا أمير المؤمنين إن شئت لم أذكره قال لا ولكن نوليك من ذلك ما توليت )
من الفوائد :
أن عمر رضي الله عنه كان لا يرى التيمم للجنب ، بل يمكث حتى يجد الماء ، وقد تبعه في ذلك ابن مسعود رضي الله عنه .
ومن الفوائد :
أن صفة التيمم في الحدث الأصغر والأكبر واحدة .
ومن الفوائد :
أن الروايات التي مرت معنا في حديث عمار بن ياسر خلت من ذكر الضحك ، وهذا الضحك من النبي صلى الله عليه وسلم ضحك إعجاب لما أودى بعمار إلى هذا الاجتهاد .
ومن الفوائد :
أن عمر رضي الله عنه كان مصاحبا لعمار ومع ذلك لم يتذكر عمر هذه القصة ، فنسب عمر رضي الله عنه لنفسه النسيان ، ومع ذلك لم يمنع عمارا بأن يتحدث بهذا الحديث ، فنُسب النسيان إلى عمر ونسب الوهم إلى عمار ، ومع ذلك تركه عمر رضي الله عنه يبلغ ما يعلمه لأنه يعلم أن عمارا رضي الله عنه صاحب دين وورع وتقى لا يمكن أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رضي الله عنهما .
ومن الفوائد :
أن التيمم يحل محل الماء إذا لم يجده الإنسان ولو طالت به المدة .
ومن الفوائد :
أن الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم لم يورث بينهم شقاقا أو كرها ، ولذا يجب علينا أن نقتدي بهؤلاء رضي الله عنهم .
ومن الفوائد :
أن من ترك شيئا من الواجبات أو الشروط أو الفرائض قبل علمه لا يلزم بإعادة ما سبق من الصلوات إلا إذا كان في وقت الحاضرة ، كما هو الشأن في حديث عمار وكما هو الشأن في حديث المسيء في صلاته لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة تلك الصلاة التي لم يخرج وقتها .
ومن الفوائد :
أن الجهل عذر من الأعذار الشرعية ، ويستوي في ذلك الأصول والفروع ، لكن قد يختلف العلماء في كون الجهل عذرا أو غير عذر في التوحيد والأصول على حسب اختلاف الواقع ، فيختلفون في تطبيق هذا الحكم على الواقع ، هل هذا الواقع لا يشترط فيه الجهل بالعذر لكون التوحيد معلوما وقد يخفى في مثل هذا العصر أو لا ؟
ومن الفوائد :
أن الصواب هنا هو ذكر ( الكفين ) وما عدا ذلك فليس بصحيح إلا على حسب ما ذكرنا من التأويلات السابقة :
أن هذا كان في أول الأمر .
أو أن هذا كان اجتهادا من الصحابة رضي الله عنهم .
وكذلك حديث أبي الجهيم قال عنه ابن حجر رحمه الله قال ” إنه لم يرد إلا بلفظ ( اليدين ) وما ورد بلفظ الذراعين فهو شاذ .
ومن الفوائد :
هل يكون التيمم بكل ما تصعد على وجه الأرض أم يكون على التراب الذي له غبار فقط ؟
هذا مبني على اختلاف العلماء في معنى الصعيد ، فالصعيد عند بعض أهل اللغة يطلق على ” ما تصعد على وجه الأرض من حجر أو رمل أو صخر أو ما شابه ذلك “
وبعض أهل اللغة : يرى أن الصعيد ” مخصوص بالتراب فقط دون غيره “
والناظر في هذين الرأيين وفي الأدلة الواردة في التيمم يرى أن الصواب أن له أن يتيمم على كل ما تصعد على وجه الأرض ، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في أسفاره لا يحمل الماء الكثير وكانوا يتيممون ، ويمرون على طرقات بها تراب ليس له غبار ولاسيما في أرض الحجار فإنها أرض صخرية جبلية صلبة ، وكذلك ما ورد من ضربه عليه الصلاة والسلام بيديه على الحائط ، وكذلك من نظر إلى مشروعية التيمم في أصله يجد أنه ما رخص في التيمم إلا لدفع المشقة ، فإذا اشترطنا مثل هذا الشرط كانت هناك مشقة ، ولا شك أن من احتاط فتيمم على تراب له غبار كان أفضل وأحسن ، لكن كوننا نقول بأن من تيمم على غير التراب أن تيممه غير صحيح هذا مما لا يدل عليه دليل قوي صريح .
ومن الفوائد :
أن عمر وعمارا رضي الله عنهما كانا في الإبل مر معنا في رواية أنهما ( كانا في سفر ) هنا وضحَّ أكثر ( أنهما كانا يرعيان الإبل ) فدل دلالة واضحة على أن من خرج من بلدته لرعي أو لتنزه وبلغ مسافة السفر أنه يعد مسافرا ، ولذلك في الراوية الأخرى ( سفرا ) إذاً لو ذهب الإنسان – وهذا هو الرأي الصحيح وإن كان بعض المعاصرين مثل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله لا يرى ذلك – أنه لو ذهب لما يسمى ( كشتة ) أو ما شابه ذلك إلى مسافة بعيدة لا يرى أنه يترخص برخص السفر لأنه لا يعد مسافرا ، ولكن الصحيح أنه إذا تجاوز المسافة وأصبح في مكان بعيد فإنه حكمه كحكم المسافر بدليل أنهما ما ذهبا إلا لرعي الإبل وسماه في الرواية الأخرى ( سفرا ) .
نوع آخر من التيمم
حديث رقم – 317-
( صحيح ) أخبرنا عمرو بن يزيد قال حدثنا بهز قال حدثنا شعبة قال حدثنا الحكم عن ذر عن بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه : أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن التيمم فلم يدر ما يقول فقال عمار أتذكر حيث كنا في سرية فأجنبت فتمعكت في التراب فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنما يكفيك هكذا وضرب شعبة بيديه على ركبتيه ونفخ في يديه ومسح بهما وجهه وكفيه مرة واحدة )
حديث رقم – 318-
( صحيح ) عن ابن أبزى ، عن أبيه قال _ وقد سمعت الحكم من ابن عبد الرحمن – قال ( أجنب رجل فأتى عمر رضي الله عنه فقال إني أجنبت فلم أجد ماء ؟ قال : لا تصل ! قال له عمار أما تذكر أنا كنا في سرية فأجنبنا ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فإني تمعكت فصليت ، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ؟ فقال ( فإنما كان يكفيك – وضرب شعبة بكفه ضربة ، ونفخ فيها ، ثم دلك إحداهما بالأخرى ، ثم مسح بهما وجه ؟ فقال عمر شيئا لا أدري ما هو ، فقال إن شئت لا حدثته ، وذكر شيئا في هذا الإسناد عن أبي مالك ، وزاد سلمة قال ” بل نوليك من ذلك ما توليت ” )
من الفوائد :
أن العلماء اختلفوا في الترتيب بين هذين العضوين في التيمم ، أيكون المسح بداية من الوجه ثم الكفين ؟ أو يمكن أن يصح أن يمسح الكفان ثم يمسح الوجه ؟
في الحديث السابق قال ( ومسح بهما وجه وكفيه ) ومعلوم أن ( الواو ) في اللغة لمطلق الجمع ولا تقتضي ترتيبا ، ولكن يمكن يقال إن ما قدَّمه الشرع في الذكر يقدم ، فإن الله سبحانه وتعالى قدم الوجه على الكفين ، قال تعالى { فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم }المائدة6 ، فدل على أن لتقديم الوجه أهمية في الترتيب ، إلا إذا دل دليل يصرف هذه القاعدة عن حالها ، وكذلك الحديث ذكر فيه الوجه ثم الكفان .
لكن قال ابن حجر رحمه الله ” وردت رواية بتقديم الكفين على الوجه بـ ( ثم ) كما هنا ، ومن ثمَّ فإن ما يذهب إليه كثير من العلماء من أنه يشترط الترتيب ينتقض بهذه الرواية .
إذاً الأحوط في التيمم أن يرتب ، لكن كونه لا يرتب فيقدم الكفين على الوجه ثم نبطل تيممه ، هذا يحتاج إلى مزيد بحث وتأمل في هذه المسألة
نوع آخر
حديث رقم – 319-
( صحيح ) أخبرنا عبد الله بن محمد بن تميم قال حدثنا حجاج قال حدثنا شعبة عن الحكم وسلمة عن ذر عن بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه : أن رجلا جاء إلى عمر رضي الله عنه فقال إني أجنبت فلم أجد الماء فقال عمر لا تصل فقال عمار أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت في التراب ثم صليت فلما أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له فقال إنما يكفيك وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيديه إلى الأرض ثم نفخ فيهما فمسح بهما وجهه وكفيه شك سلمة وقال لا أدري فيه إلى المرفقين أو إلى الكفين قال عمر نوليك من ذلك ما توليت قال شعبة كان يقول الكفين والوجه والذراعين فقال له منصور ما تقول فإنه لا يذكر الذراعين أحد غيرك فشك سلمة فقال لا أدري ذكر الذراعين أم لا ؟
من الفوائد :
أن ذكر ( الذارعين ) لا يصح ، ولو صح فكما أسلفنا من الاحتمالات السابقة .
ومن الفوائد :
أن النسيان قد يحصل لطالب العلم ، وهذا أمر طبيعي ، فلا يعيقه النسيان عن الحرص على طلب العلم ، فلو قرأ شيئا أو حفظ شيئا وتمكن من ربعه أو ثلثه فهذا خير أحسن من لا شيء ، ولا أحد يسلم من النسيان ، كيف وقد نسي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
باب تيمم الجنب
حديث رقم – 320-
( صحيح ) أخبرنا محمد بن العلاء قال حدثنا أبو معاوية قال حدثنا الأعمش عن شقيق قال كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى : أولم تسمع قول عمار لعمر بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت بالصعيد ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال إنما كان يكفيك أن تقول هكذا وضرب بيديه على الأرض ضربة فمسح كفيه ثم نفضهما ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على كفيه ووجهه فقال عبد الله أولم تر عمر لم يقنع بقول عمار )
من الفوائد :
أن المناظرة مطلوبة بين العلماء إذا كان المقصود التوصل إلى الحق ،كما صنع عبد الله بن مسعود وأبو موسى رضي الله عنهما ، فإن هذا حوار هادئ لطيف يشعرنا بأن مقصود كل منهما أن يصل إلى الحق دون أن يكون هناك تعنت أو رفع صوت أو ما شابه ذلك ، فمثل هذه القصة تربية لنا نحن طلاب العلم .
ومن الفوائد :
أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يرى ما يراه عمر رضي الله عنه من أن الجنب إذا لم يجد الماء لا يتيمم ، بل يؤخر الصلاة حتى يجد الماء ، فهذا الأمر تبناه ابن مسعود رضي الله عنه ، ولذلك ناقشه أبو موسى رضي الله عنه ، فذكر له قصة عمار فرد عليه ابن مسعود فقال ( أفلم تر عمر لم يقنع بقول عمار ؟ )
ولا شك أن الصواب مع أبي موسى رضي الله عنه لأن الأحاديث أتت صراحة بالتيمم ، لاسيما أن عمارا رضي الله عنه ذكر ما جرى له .
ومن الفوائد :
أن المحدثين اصطلحوا على أنه إذا قيل ( عبد الله ) من الصحابة فالمقصود منه ” عبد الله بن مسعود رضي الله عنه “.
باب التيمم بالصعيد
حديث رقم – 321-
( صحيح ) أخبرنا سويد بن نصر قال حدثنا عبد الله عن عوف عن أبي رجاء قال : سمعت عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل مع القوم فقال يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم فقال يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء قال عليك بالصعيد فإنه يكفيك )
من الفوائد :
أن فيه تقوية لما ذهب إليه عمار من أن الجنب يتيمم إذا عدم الماء .
ومن الفوائد :
أن فيه دليلا لمن قال إن تعميم الجنب بدنه بالماء كافٍ ولو لم يتوضأ ، لأنه لما وجد الماء أعطى هذا الرجل دلوا قال ( خذ هذا فأفرغه عليك ) ولم يبين له كيفية الغسل الكامل .
ومن الفوائد :
أنه أتى بـ ( لا ) النافية للجنس ( ولا ماء ) أي ليس هناك ماء موجود معهم .