تعليقات على سنن ( النسائي ) ـ الدرس السابع والأربعون
من حديث ( 449 ) حتى ( 450 )
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
[ كتاب الصلاة ]
حديث رقم – 449-
( صحيح ) أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قال حدثنا بن وهب قال أخبرني يونس عن بن شهاب قال أنس بن مالك وبن حزم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فرض الله عز وجل على أمتي خمسين صلاة فرجعت بذلك حتى أمر بموسى عليه السلام فقال ما فرض ربك على أمتك قلت فرض عليهم خمسين صلاة قال لي موسى فراجع ربك عز وجل فإن أمتك لا تطيق ذلك فراجعت ربي عز وجل فوضع شطرها فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فراجعت ربي عز وجل فقال هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي فرجعت إلى موسى فقال راجع ربك فقلت قد استحييت من ربي عز وجل )
فإن هذا الحديث مر معنا جمل تشابهه وسبق وأن استفضنا الحديث حولها ، ولا بأس أن يعاد شيء من هذا مما يتعلق بما ذُكر هنا في هذا الحديث .
فمن الفوائد :
أن قوله ( أنه وضع شطرها ) قد يقصد من ( الشطر ) هنا الجزء منها ، لأن ( الشطر ) يطلق على النصف ويطلق على الشيء ، فيكون ذكر الشطر هنا ذكر للجزء ، لم ؟ لأن الروايات السابقة لما ذكرت المراجعة ذكرت أنه كلما راجع النبيُ صلى الله عليه وسلم ربَه عز وجل ووضع عنه عشرا عشرا .
ومن الفوائد :
بيان رحمة الله عز وجل بهذه الأمة إذ أنقص هذا العدد وهو خمسون أنقصه إلى خمس .
وفضل هذه الخمس الصلوات ثوابها كثواب خمسين صلاة فيما لو فرضت علينا خمسين ، ولذلك في الروايات الأخرى ( هن خمس في الفعل وخمسون في الأجر )
ولا يعني أن الخمسين بمعنى ( أن الحسنة بعشر أمثالها ) كلا ، ليس المقصود أننا نؤدي خمس صلوات ، وإذا ضربنا خمس صلوات في عشرة حصل خمسون ، ليس هذا هو المقصود .
وإنما تضرب خمسين صلاة في عشرة .
ومن الفوائد :
بيان فضل موسى عليه السلام ، لأنه أحب لهذه الأمة ألا تقع في الحرج ، لأنه علم بحال بني إسرائيل ، وأن معالجة الناس وإلزامهم الخير يعسر ، ولاسيما هذه الصلاة ، حتى أمر موسى عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم أن يعود بعد الخمس ، قال ( إن أمتك لا تطيق ذلك ) وبالفعل هي لم تطق ذلك ، فنرى التفريط الواضح البين في هذه الخمس ، فما ظنكم لو كانت خمسين من أول الأمر ؟!
ومن الفوائد :
أن الفعل المضارع يحل محل الفعل الماضي ، قال ( حتى أمرَّ ) و ( أمرَّ ) فعل مضارع ، والأصل ( حتى مررت )
ويكون العكس أيضا ” أن الفعل الماضي يحل محل الفعل المضارع ” وذلك لمعاني معتبرة في البلاغة .
مثال “ قوله تعالى {أَتَى أَمْرُ اللّهِ }النحل1، وهو لم يأت ، وذلك لاستحضار وقوعه .
ومن الفوائد :
أن عدم رجوع النبي صلى الله عليه وسلم بعد الخمس منعه من ذلك أمران :
الأمر الأول : الحياء من الله عز وجل .
الأمر الثاني : إمضاء الله عز وجل على هذه الأمة هذه الخمس ، وأنها لا تنقص من هذا العدد ، فهذا الحديث بيَّن ما ذُكر في أحاديث أخرى من أن الذي منعه هو الحياء فقط ، وفي أحاديث أخرى أن عدم النقصان من الخمس لأن الله عز وجل قد أمضى الفريضة على عباده ، فجاء هذا الحديث يبين أن عدم وضع شيء من هذه الخمس بهذين الأمرين ، وليس بأمر واحد منهما .
ومن الفوائد :
أن موسى عليه السلام لما مرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم وقال ( هذا غلام بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر من أمتي ) إنما بكى عليه السلام بكاء غبطة وليس حسدا مذموما ، ولو كان حسدا مذموما ما نصح النبيَ صلى الله عليه وسلم بالمراجعة ، فدل على أنه يريد الخير للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته .
ومن الفوائد :
بيان قدرة الله عز وجل إذ صُعد بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى أعلى ما يكون في السماء ، وأنه قابل هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأنه خاطبهم ، ومر كثير من هذا في الأحاديث السابقة .
ومن الفوائد :
بيان فضل هذه الصلاة وأنها فرضت في السماء السابعة ، وهذه يدل على مكانتها .
وفيه دلالة أيضا أن من حافظ على هذه الصلاة فإنه يكون في علو ، ولا شك في ذلك أن من حافظ على هذه الصلاة سيكون عاليا في دنياه وفي أخراه ، ولذا– كما جاء في السنن – ( أول ما يسأل عنه العبد من عمله الصلاة )
ثم من رحمة الله عز وجل بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى الملائكة الكثر الذين يدخلون البيت المعمور ويصلون فيه من باب أن يسهل عليه تقبل هذه العبادة ، لأن الإنسان إذا رأى أناسا يماثلونه في هذا الشيء هان عليه الأمر ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ( يد الله مع الجماعة ) فكون الإنسان يرى أناسا يصومون فيصوم معهم يكون أقوى في الداعي إليه في الصوم أكثر مما لو كان وحده ، وهذه هي طبيعة ابن آدم حتى في جانب الشر ، ولذا نرى كثيرا من الناس ممن وقع في الإثم يريد أن يشاركه غيره في ذلك الإثم ويفرح بذلك {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء }النساء89 ، فهذا من طبيعة ابن آدم أنه يحب أن يتسلى بما هو فيه إذا رأى غيره سائرا على طريقته .
حديث رقم – 450
( منكر ) أخبرنا عمرو بن هشام قال حدثنا مخلد عن سعيد بن عبد العزيز قال حدثنا يزيد بن أبي مالك قال حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل خطوها عند منتهى طرفها فركبت ومعي جبريل عليه السلام فسرت فقال انزل فصل ففعلت فقال أتدري أين صليت ؟ صليت بطيبة وإليها المهاجر، ثم قال انزل فصل فصليت فقال أتدري أين صليت ؟ صليت بطور سيناء حيث كلم الله عز وجل موسى عليه السلام ، ثم قال انزل فصل فنزلت فصليت فقال أتدري أين صليت ؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام ، ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي الأنبياء عليهم السلام فقدمني جبريل حتى أممتهم ثم صعد بي إلى السماء الدنيا فإذا فيها آدم عليه السلام ، ثم صعد بي إلى السماء الثانية فإذا فيها ابنا الخالة عيسى ويحيى عليهما السلام ، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فإذا فيها يوسف عليه السلام ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فإذا فيها هارون عليه السلام ، ثم صعد بي إلى السماء الخامسة فإذا فيها إدريس عليه السلام ثم صعد بي إلى السماء السادسة فإذا فيها موسى عليه السلام ، ثم صعد بي إلى السماء السابعة فإذا فيها إبراهيم عليه السلام ، ثم صعد بي فوق سبع سماوات فأتينا سدرة المنتهى فغشيتني ضبابة فخررت ساجدا ، فقيل لي إني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فقم بها أنت وأمتك فرجعت إلى إبراهيم فلم يسألني عن شيء ثم أتيت على موسى فقال كم فرض الله عليك وعلى أمتك ؟ قلت خمسين صلاة قال فإنك لا تستطيع أن تقوم بها أنت ولا أمتك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فرجعت إلى ربي فخفف عني عشرا ثم أتيت موسى فأمرني بالرجوع ، فرجعت فخفف عني عشرا ، ثم ردت إلى خمس صلوات ، قال فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتين فما قاموا بهما فرجعت إلى ربي عز وجل فسألته التخفيف فقال إني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فخمس بخمسين فقم بها أنت وأمتك فعرفت أنها من الله تبارك وتعالى صِرَّى فرجعت إلى موسى عليه السلام فقال ارجع فعرفت أنها من الله صِرَّى – أي حتم – فلم أرجع )
من الفوائد :
هذا الحديث حكم عليه الألباني رحمه الله بأنه ” منكر ” وحُقَّ له أن يحكم عليه بأنه منكر ، لم ؟ لأنه خالف ما جاء في الأحاديث الصحيحة ، ومما جاء به هذا الحديث مما يخالف ” أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في هذه المواطن ، نزل بالمدينة ، ونزل بسيناء ، ونزل ببيت لحم ” وهذا لا يصح ، بل إنه عليه الصلاة والسلام من حين ما ركب هذه الدابة وهي البراق انطلق من مكة إلى بيت المقدس ، ولم ينزل عليه الصلاة والسلام للصلاة في هذه المواطن .
وهذه المواطن كما درج على ذلك بعض من يشرح هذه الأحاديث لأنها أحاديث وضعت ، وإذا وضعت ولو كانت ضعيفة فإنهم يبينون لم خصت هذه المواطن فيما لو صح الحديث ، مع أن الحديث لا يصح بتاتاً قالوا لأن هذه أماكن طيبة مباركة ، وبركتها معلومة ، فطيبة وهي المدينة بركتها واضحة ، وأما بالنسبة إلى سيناء مع بيت لحم فإن سيناء في مصر ، وبيت لحم في الشام ، وقد قال عز وجل {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا }الأعراف137 ، ومع هذا كله فإن الحديث لا يصح ولا يثبت به حكم .
ولو صح لكانت هذه المواطن إذا مر بها الإنسان لا يفوته الصلاة فيها ، وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى ” إن الشريعة لا تثبت بحديث ضعيف .
ومما ينكر في هذا الحديث ” أنه أول ما قدم صلى بالأنبياء ” وهذا ما ذهب إليه بعض العلماء ، من أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بهم لما وصل إلى بيت المقدس .
وهناك قول آخر : أن الصلاة كانت بعد فرضية الصلاة عليه ، فنزل فصلى بهم الفجر
بينما ابن حجر رحمه يرى أن الصلاة أول ما قدم .
ومما ينكر في هذا الحديث ” أنه ذكر أن في السماء الرابعة هارون وفي السماء الخامسة إدريس ) والصحيح أنه ( وجد إدريس في السماء الرابعة وهارون في السماء الخامسة ) حتى يكون قريبا من أخيه موسى في السماء السادسة .
ومما ينكر في هذا الحديث ” أن النبي صلى الله عليه وسلم استجاب لأمر موسى وإرشاده فعاد بعد الخامسة ، وهذا يخالف ما ذكر من أنه لم يرجع بعد الخامسة ، وقال ( إني استحييت من ربي ) ولذا جاء في هذا الحديث ( فعلمت بأنها صِرَّى ) يعني ( عزم وحتم ) كما قال تعالى{ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي }آل عمران81 .
فهذا مما جعل الحديث منكرا .
ومن الفوائد :
أن المنكر يختلف عن الشاذ ، وكلاهما من أقسام الحديث الضعيف ، فإن المنكر هو ” من خالف فيه الضعف الثقة “
وأما الشاذ فهو أهون ، وهو ” أن يخالف الثقة من هو أوثق منه “
وعلى كل حال فإن الشاذ والمنكر من قبيل الحديث الضعيف .
ومن الفوائد :
أن هذه الدابة جاءت في الأحاديث الأخرى بأنها البراق ، وذلك لأنها كالبرق ، لسرعتها ، ولذلك يضع خطوه عند منتهى طرفه ، ولذا قال العلماء “ إنه في مثل هذه الحال قطع المسافة بخطوة واحدة ” لأن الإنسان بإمكانه أن ينظر إلى السماء بنظرة واحدة فينتهي بصره بنظرة واحدة إلى السماء ، فيكون هو عليه الصلاة والسلام في مسيرته الأرضية من مكة إلى بيت المقدس ، ويسمى بالبيت المقدس ، ويسمى ببيت ” إيلياء “ كما جاء بذلك الحديث ، يكون هو عليه الصلاة والسلام في هذه الرحلة قضاها في خطوة واحدة .
وإن كان – كما قال بعض العلماء من أنه صعد على البراق – والصحيح أنه لم يصعد بالبراق وإنما صعد بالمعراج وهو سلم له درج كما قال ابن كثير رحمه الله ” سلم له درج لا يعلم كيفيته إلا الله عز وجل ” – فعلى قول من يقول إنه صعد بالبراق يكون قطعها في سبعة خطوات .
وأُتي بالبراق عليه الصلاة والسلام ولم يؤت بخيل ولم يؤت بإبل من باب إشعاره أنه في رحلة سلمية ، لأن مثل هذا الحيوان لا يؤخذ في الحروب ، وإلا فالله عز وجل قادر على أن يذهب به من مكة إلى بيت المقدس من غير هذه الدابة ، ولكن من باب التطمين له عليه الصلاة والسلام ، من باب إظهار المعجزة في حيوان لم يسبق له العادة أنه يسير هذا السير ، ولذلك مرت عليه أشياء عليه الصلاة والسلام ما لو كان غيره في موطنه ما ثبت ، ولذلك مع هذا كله قال عز وجل {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى }النجم17 صلوات ربي وسلامه عليه ، وهذا يدل على ثباته وقوته عليه الصلاة والسلام ، لأنه صُعد به إلى أعلى ما يكون ، حتى صعد به إلى مكان لا يصل إليه جبريل عليه السلام ، ولذلك قال عز وجل {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ }الصافات164 ، وهذا ذكر عن الملائكة ، وهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام بلغ مرتبة لم يبلغها غيره من الخلق ، مما يدل على أنه أفضل الخلق على الإطلاق ، عليه الصلاة والسلام.
ومن الفوائد :
أن قوله ( إنك لن تستطيع أن تقوم بها )
إما أن تكون في عداد المنكر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم من سبر حاله وجد أنه قادر على أن يأتي بالخمسين وبأكثر .
وإن قلنا إنها غير منكرة فاعتبار ما آل إليه علم موسى عليه السلام من أن البشر بطبيعتهم لو وُكِّلوا إلى أنفسهم ما قاموا بهذا ، فكونه كبشر لا يقوم هو وأمته بهذا ، لكن لما منَّ الله عز وجل به عليه من القدرة والإعانة فإنه يرتقي إلى ما هو أعلى ، ولذلك هذه الخمس الصلوات لم يعجز عنها أناس ، بل كان الصحابة رضي الله عنهم يتنافسون ، هذا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كما في الصحيحين ( لما زوجه أبوه امرأة فجاء ينظر إليها ، فسأل عمرو بن العاص زوجته ؟ قالت نِعم الرجل ما كشف لنا كنفا ) عبارة عن أنه كان يصوم رضي الله عنه في النهار ويصلي بالليل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ألم أُخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل كله ؟! قال نعم ، قال لا تفعل ) فهؤلاء ارتقوا إلى أعلى ما يكون ، فهذه الجملة إما أن نقول إنها منكرة ، وإن قلنا إنها غير منكرة فإن هذا ما آل إليه علم موسى عليه السلام من أن النبي عليه الصلاة والسلام لكونه بشرا لا يستطيع هذا ، لأن البشر إذا وكلوا إلى أنفسهم وكلوا إلى ضعف ، ولذلك من محبة النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه وهي أيضا محبة لأمته ، قال ( إني أحبك يا معاذ لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول ” اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )