الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
ذكر الأقراء
حديث رقم – 358-
( صحيح ) أخبرنا عيسى بن حماد قال أنبأنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله عن المنذر بن المغيرة عن عروة أن فاطمة بنت أبي حبيش حدثته : أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه الدم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذلك عرق فانظري إذا أتاك قرؤك فلا تصلي وإذا مر قرؤك فلتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء قال أبو عبد الرحمن قد روي هذا الحديث هشام بن عروة عن عروة ولم يذكر فيه ما ذكر المنذر )
من الفوائد :
حرص الصحابيات رضي الله عنهن على سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أشكل عليهن ، وهكذا يتحصل العلم ، كما قيل لابن عباس رضي الله عنهما ( كيف ظفرت بهذا العلم ؟ قال بلسان سؤول وقلب عقول )
ومن الفوائد :
أن المستحاضة إذا أطبق معها الدم وصار لا ينقطع أو ينقطع في أيام قلائل من الشهر فإنها ترجع إلى عادتها السابقة ، فإذا كانت عادتها السابقة مثلا تأتيها في اليوم الخامس من الشهر وهي خمسة أيام فإنها تبقى هذه الفترة فإذا جاء اليوم العاشر تغتسل وتصلي ولو كان الدم معها .
بخلاف ما ذهبت إليه الشافعية أن المرأة إذا استمر معها الدم لا تعود إلى عادتها السابقة وإنما تنظر إلى التمييز ، فدم الحيض يميز بعلامات كونه أسود وثخينا ومنتن الرائحة ، هذه صفات دم الحيض ، فيقولون تعول المرأة على صفات الدم ولا تنظر إلى العادة .
ولكن الصواب :أن العادة هي الأصل كما دل على ذلك هذا الحديث .
ومن الفوائد :
أن المرأة الحائض ممنوعة من الصلاة ، ولذلك ما أذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة إلا بعد أن يزول حيضها ، فإذا صلت المرأة الحائض فقد أثمت ولا يصح لها صوم ولا صلاة .
حديث رقم – 359-
( صحيح ) أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا عبدة ووكيع وأبو معاوية قالوا حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : اني امرأة استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة قال لا إنما ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي )
ومن الفوائد :
أن ( القصَّة البيضاء ) لا تأتي جميع النساء ، فإذاً كيف تعرف النساء الأخريات الطهر ؟ بالجفاف كما دل على ذلك قولها ( إني أستحاض فلا أطهر ) يعني لا يقف معي الدم ، فدل على أن علامة طهر المرأة من الحيض إما الجفاف وإما خروج القصَّة البيضاء
ومن الفوائد :
أن المستقر في أذهان الصحابيات رضي الله عنهن أن الصلاة لا تصح حال الحيض ، ولذلك قالت ( أفأدع الصلاة )
ومن الفوائد :
أن قوله صلى الله عليه وسلم ( إنما ذلكَ عرق ) يصح أن يكون بكسر الكاف ، فيكون الخطاب لها ( إنما ذلكِ عرق )
ومن الفوائد :
أن التنصيص على ( العرق ) يدل على أن الاستحاضة تختلف في علامات عن علاماتها الحيض ، فلو أن إنسانا نزف دم عرقه كان هذا الدم أحمر وكان رقيقا وليست به رائحة منتنة ، فالتنصيص على العرق يدل على أن الاستحاضة يكون الدم معها أحمر ، رقيق ، ولا رائحة منتنة له ، لكن هب أن المرأة انطبق معها الدم وبه صفات الحيض من السواد والثخونة والرائحة الكريهة ؟
فيقال لها ترجعين إلى عادتك السابقة ، ولا تلتفتين إلى هذه العلامات لأنها علامات ما أتت في زمنها المعتاد ، فما خرجت عن زمنها المعتاد دل على أن هذا مرض وليس بحيض .
ومن الفوائد :
أن قول النبي صلى الله عليه وسلم ( واغسلي عنك الدم ) يدل على أن دم الحيض دم نجس .
لو قال قائل : مر معنا في سنن أبي داود كما في حديث عائشة ( أن إحدانا تبل دم حيضها بريقها ) ومعلوم أن الريق لا يطهر ، فدل حديث عائشة رضي الله عنها على أن دم الحيض ليس بنجس ؟
الجواب :
أن هناك رواية أخرى تنص على ( القطرة ) فدل على أن اليسير من دم الحيض مما يشق على المرأة يعفى عنه ، كما نص على ذلك بعض فقهاء الحنابلة مثل كتاب ( منار السبيل ) .
ومن الفوائد :
أن قوله صلى الله عليه وسلم ( اغسلي عنك الدم ) استدل به الجمهور على أن دم الآدمي إذا خرج من أحد السبيلين فهو نجس ، وهذا لا إشكال فيه – ولكن إذا خرج من غير السبيلين ، كأن يخرج دم من يد الآدمي أو من قدمه ، فهل يكون هذا الدم نجسا ؟
الجواب / الجمهور يرون أنه نجس ، ويعفى عن يسيره ، ويستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم ( اغسلي عنك الدم )
وهناك قول لبعض العلماء : يرى أن دم الآدمي غير نجس ، وهو الصواب والأقرب ، لأن الأمر هنا بغسل الدم هو دم الحيض الذي خرج من السبيل ، ولذلك يقول الألباني رحمه الله كما في الإرواء يقول ” إنه لا دلالة للجمهور في هذه الجملة على نجاسة دم الآدمي إذا خرج من غير السبيلين .
[ جمع المستحاضة بين الصلاتين ، وغُسلها إذا جمعت ]
حديث رقم – 360-
( صحيح) أخبرنا محمد بن بشار قال حدثنا محمد قال حدثنا شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة : أن امرأة مستحاضة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قيل لها إنه عرق عاند وأمرت أن تؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل لهما غسلا واحدا وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلا واحدا وتغتسل لصلاة الصبح غسلا واحدا )
حديث رقم – 361-
( صحيح ) أخبرنا سويد بن نصر قال حدثنا عبد الله عن سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم عن زينب بنت جحش قالت : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم أنها مستحاضة فقال تجلس أيام إقرائها ثم تغتسل وتؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل وتصلي وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل وتصليهما جميعا وتغتسل للفجر )
من الفوائد :
أن الاستحاضة مرض ، وإذا كانت مرضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز لها الجمع بين الصلاتين ، بأن تجمع الظهر مع العصر وتجمع المغرب مع العشاء ، فيقاس على ذلك المريض الذي يشق عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها ، فإذا كان به مرض ويشق عليه إفراد الصلاة في وقتها فإنه يجمع بين الصلاتين .
ولتعلموا أن الجمع من رخص السفر كما أن القصر من رخص السفر ، لكن لا يمكن أن يكون قصر في الحضر ، والجمع بين الصلاتين يكون في السفر وفي الحضر ، لكن أيكون قصر للصلاة الرباعية في الحضر ؟ لا يمكن أبدا .
ومن الفوائد :
أن بعض العلماء قال إن هذا الجمع المذكور في الحديث جمع صوري ليس جمعا حقيقيا ، قالوا إن المقصود من ذلك تأخير صلاة الظهر أن يصليها في آخر وقتها ، فإذا فرغ منها إذا بوقت العصر قد دخل فيصلي العصر مباشرة من حين دخول وقتها ، ويقولون إن المقصود من تأخير صلاة المغرب أن يؤخر صلاة المغرب إلى آخر وقتها فإذا فرغ منها إذا بوقت صلاة العشاء قد دخل فيصلي العشاء ، هذا ما ذهبوا إليه من أن الجمع جمع صوري ، والصواب أنه جمع حقيقي كما أسلفنا لأن كلمة ( الجمع ) في الشرع تدل على جمع الصلاتين في وقت واحد .
ومن الفوائد :
أن صلاة المغرب على قول من يقول بأن الجمع صوري – أن صلاة المغرب لها وقت مديد ، فيمتد إلى غياب الشفق الأحمر .
ومن الفوائد :
أن المرأة المستحاضة يجب عليها الغسل مرة واحدة ، متى ؟ إذا ذهب حيضها ، فإذا ذهبت حيضتها فإن الدم الذي يأتي بعد الحيضة يعد دم استحاضة فيجب عليها أن تغتسل بعد مضي زمن الحيض ، أما هذه الأغسال المذكورة فإنها أغسال مستحبة ، فيستحب للمرأة المستحاضة أن تجمع بين صلاتي الظهر والعصر وتغتسل لهما غسلا واحدا وتجمع بين المغرب والعشاء وتغتسل لهما غسلا واحدا وتصلي صلاة الفجر بغسل آخر ، إذاً المجموع ثلاثة أغسال .
مع أنه ورد حديث ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل لكل صلاة ) وهذا على سبيل الاستحباب ، فالمستحاضة إذاً الأفضل في حقها أن تغتسل لكل صلاة ، فإن عجزت وشق عليها فلتجمع بين الصلاتين ولتغتسل ثلاثة أغسال في يومها كما دلَّ على ذلك هذا الحديث ، فالواجب على المستحاضة الغسل عند إدبار الحيضة والوضوء عند كل صلاة ، فالوضوء لابد منه ، لكن قيل بالاغتسال من باب الأكمل والأفضل .
ومن الفوائد :
أن الاستحاضة إذا عظمت مع المرأة فإنها توصف بوصف زائد على العرق وهو ( عرق عاند ) لأن الدم الذي نزل معها على خلاف المعتاد لكثرته وتعاقبه .
سؤال : لو أن المرأة لم تغتسل وإنما توضأت لكل صلاة فجمعت بين الظهرين وجمعت بين العشاءين أيمكن أن تصلي الظهر والعصر بوضوء واحد ، والمغرب والعشاء بوضوء واحد ؟
الجواب : المشهور من مذهب الحنابلة أن هذا يمكن ، فالمستحاضة إذا دخل وقت الصلاة تتوضأ وتصلي ما تشاء من فروض ونوافل إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى .
ولكن ابن حجر رحمه الله ذكر قولا آخر : ” أن هذا لا يغني ” لأن الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم ( توضئي لكل صلاة ) فيلزمها إذاً أن تتوضأ لصلاة المغرب ولصلاة العشاء .
وأما ما جاء من رواية ( توضئي عند وقت كل صلاة ) فيقول ابن حجر رحمه الله ” إنه لا أصل له ” إنما الوارد ( توضئي لكل صلاة )
فإذاً يلزمها أن تتوضأ لصلاة الظهر وتتوضأ صلاة العصر، وتتوضأ لصلاة المغرب وتتوضأ لصلاة العشاء لأن طهارتها طهارة ضرورية لأن الدم مستمر معها .
ومن الفوائد :
أن المرأة المستحاضة تعود إلى عادتها السابقة .
[ باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة ]
حديث رقم – 362-
( حسن صحيح ) أخبرنا محمد بن المثنى قال حدثنا بن أبي عدي عن محمد بن عمرو وهو بن علقمة بن وقاص عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف فأمسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضئي فإنما هو عرق قال محمد بن المثنى حدثنا بن أبي عدي هذا من كتابه )
من الفوائد :
أن هذا الحديث بيَّن دم الاستحاضة من دم الحيض ، فوصف دم الحيض بأنه ( أسود يُعرف ) ووصف دم الاستحاضة بأنه ( دم عرق ) .
ولذلك ذهب من ذهب من العلماء إلى أن المرأة إذا استمر معها الدم فإنها تميز حيضها بهذه العلامات ولا ترجع إلى عادتها كما في الحديث السابق ، في الحديث السابق ذهب بعض العلماء – وهو الصواب – إلى أن المرأة المستحاضة تعود إلى حيضتها السابقة ، فإذا مرت أيام حيضها قبل أن يحصل معها هذا الدم المستمر فتغتسل وتصلي ، بينما الشافعية يرون ما نص عليه هذا الحديث وهو ( التمييز ) فيقولون لا تعود إلى عادتها السابقة وإنما تعود إلى التمييز ، تنظر هل هذا الدم أسود ثخين ، منتن الرائحة أم لا ؟
والصواب : أنها تعود إلى عادتها ، لم ؟ لأن الأصل هو الرجوع إلى العادة ، ولأننا لو قلنا إنها تأخذ بالتمييز ألغينا الحديث السابق ، فنقول المرأة المستحاضة تعود إلى عادتها السابقة ، فإذا نسيت عادتها السابقة أو كانت مبتدأة – أول مرة يأتيها الحيض واستمر معها – فإنها تعمل بهذا الحديث وهو التمييز .
إذاً أعلى ما تذهب إليه المرأة المستحاضة ( العادة ) فإن كانت ناسية لها أو كانت مبتدأة ، يعني أتاها الحيض أول مرة فاستمر معها فتعود إلى التمييز .
ومن الفوائد :
أن دم الحيض وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ( دم أسود يُعرف )
العلامة الأولى : ( أنه أسود )
العلامة الثانية : ( يُعرف ) يعني تعرفه النساء .
وقال بعض العلماء : إن قوله ( يُعرف ) يعني له رائحة ، مأخوذ من ( العَرْف ) كما في حديث ( لا يجد عَرْف الجنة ) يعني ريحها ، فيكون هذا الحديث ذكر علامتين على ما قالوا : إنه أسود وأن له رائحة .
وأما العلماء الآخرون قالوا : إنه ( يُعرف ) يعني تعرفه النساء ، ولذا لو أن امرأة سألتك عن دم نزل معها ؟ فقل هل هو الدم المعتاد الذي يأتيك في وقت الحيض بأوصافه أم لا ؟ فلابد أن تسأل المرأة ذاتها هل هو نفس الدم الذي يأتيها أم لا ؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( هو دم أسود يُعرف )
ومن الفوائد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أرجع النساء المستحاضات إلى العادة السابقة أو إلى التمييز ، فلو قال قائل : في ظاهر هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرها في طيلة أيام الشهر أن تقضي تلك الأيام التي ظنت أنها حائض ، ولذلك قالت إحداهن ( إني أستحاض سبع سنين ) هذا يدل على أنها في تلك الفترة لم تؤمر بالصلاة ، فهذا هو ظاهر هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهن بإعادة الصلاة ، ولكن إذا نظر الإنسان إلى الأحاديث الأخرى دلت على ماذا ؟ دلت على أن قضاء تلك الصلوات لابد منه ، باعتبار أنها في تلك الفترة طاهرة وليس حائضا ، والعلم عند الله .