الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
( باب أين فرضت الصلاة ؟ )
حديث رقم 452-
( صحيح ) أخبرنا سليمان بن داود عن بن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث أن عبد ربه بن سعيد حدثه أن البناني حدثه عن أنس بن مالك : ” أن الصلوات فرضت بمكة وأن ملكين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبا به إلى زمزم فشقا بطنه وأخرجا حشوة في طست من ذهب فغسلاه بماء زمزم ثم كبسا جوفه حكمة وعلما ” )
هذا الحديث تتمة للأحاديث السابقة في بيان فرض الصلاة ، ومتى وأين فرضت ؟ وما جاء من ذكر حوادث عن الإسراء والمعراج .
فمن الفوائد :
أن الصلاة فرضت بمكة ولم تفرض بالمدينة ، وفرضيتها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين .
ومن الفوائد :
أن الأحاديث السابقة بينت أن جبريل أتاه ، وهنا ذكر ملكا آخر ، فدل على أن هناك ملكا صاحب جبريل في هذه المهمة .
ومن الفوائد :
أنه قال ( فأخرجا حشوه ) يعني ما في بطنه ، وضبطت ( فأخرجا حَشوته ) بفتح الحاء وبضمها ( حُشْوته ) والمقصود منها الأمعاء ، فكأن هذا اللفظ يثبت أن ما في بطن النبي صلى الله عليه وسلم أُخرج ، وقد جاءت أحاديث أخرى بينت أن النبي صلى الله عليه وسلم شُقَّ صدره أكثر من مرة :
*فشق صدره عليه الصلاة والسلام لما كان في ديار بني سعد ، وكان صغيرا .
*وشق صدره لما بعث عليه الصلاة والسلام بالنبوة .
*وشق صدره لما أسري به .
وشق الصدر كما وقع له عليه الصلاة والسلام وقع لغيره من الأنبياء ، كما أفاد ذلك ابن حجر رحمه الله في الفتح وذكر أدلة على هذا .
ومن الفوائد :
أن هذا الشق كان له أثر ، ولذا كان أنس رضي الله عنه يقول كما عند مسلم ( كنت أرى أثر المخيط في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وما مضى من فوائد في الأحاديث السابقة ، تذكر هنا ولذا يعد بعض العلماء سنن النسائي من أصح السنن ، فالنسائي رحمه الله يستوثق ويتشدد في الرجال ، والنسائي رحمه الله مع هذه المزية وهو الاستيثاق والتأكد من الرجال ، هو رحمه الله يذكر أكثر من حديث تحت الباب ، وهذا مر معنا منه شيء كثير .
( باب كيف فرضت الصلاة ؟ )
حديث رقم – 453-
( صحيح ) أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال أنبأنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : ” أول ما فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر )
من الفوائد :
أن قولها ( أولَ ) منصوبة على الظرفية ، وكلمة ( ركعتين ) جاءت بالنصب وجاءت بالرفع ، فإذا كانت بالنصب فيكون التقدير ( كانت الصلاة أولَ فرضها ركعتين ) فيكون إعراب ( ركعتين ) خبر لكان .
وضبطها ( ركعتان ) يكون التقدير ( الصلاة أولَ فرضها ركعتان )
ومن الفوائد :
أن هذا الحديث استدل به من قال من العلماء ” بوجوب القصر “ وأن المسافر لو شاء أن يتم الصلاة فإنه يحرم عليه ، فكأنه زاد ثالثة في صلاة الفجر ، لم ؟
لأن الصلاة أول ما فرضت فرضت ركعتين ، فدل هذا بقولها ( فأُقرت صلاة السفر ) على أن صلاة السفر لا يجوز أن يزاد فيها على ركعتين ( وأتمت صلاة الحضر ) يعني صلاة المقيم ، فقالوا من هذا المنطلق يكون القصر واجبا ولا يجوز للمسلم في سفره أن يجعل الصلاة أربعا .
والصواب / أن القصر سنة ويكره خلافه ، فيكره للإنسان أن يتم في السفر ، لم ؟
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن الله يُحب أن تُؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه )
وأما ما استدلوا به : فنحن نقول إن هذا من قول عائشة رضي الله عنها فرأت هذا الرأي ، وإذا كان هذا رأيا لها فإنها مخالفة برأي ابن عباس رضي الله عنهما – كما سيأتي معنا إن شاء الله – قال ( وفي الخوف ركعة ) ومما يؤكد ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما كما في صحيح مسلم ( سئل ما بال المسافر إذا صلى وحده صلى ركعتين وإذا صلى مع المقيم صلى أربعا ؟! فقال تلك السنة ) وفي رواية ( سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ) فلو كان الواجب على المسافر أن يقتصر على ركعتين لما جاز له أن يقوم مع الإمام ، لأنه لو قلنا إن الركعتين هما الواجبتان ولا تجوز الزيادة عليهما لو قام كأنه قام إلى خامسة في صلاة الظهر أو في صلاة العشاء أو قام إلى ثالثة في صلاة الفجر .
#ومما يؤكد هذا أنها عممت جميع الصلوات ، ومعلوم أن صلاة الفجر وصلاة المغرب خارجة من هذا ، فصلاة الفجر باقية على ما هي عليه ، ولعلها لم يزد أمرها في الحضر بالنسبة إلى صلاة الفجر لطول القراءة فيها ، كما قال تعالى { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً }الإسراء78 ، فكانت الإطالة في القراءة عوضا عن الركعتين .
$أما بالنسبة إلى المغرب فلأنها ( وتر النهار ) كما جاء عند الترمذي ( المغرب وتر النهار ) فكما أن لليل وترا فكذلك للنهار وتر ، ما هو وتر النهار ؟ ( صلاة المغرب ) .
$ومما يؤكد أن القصر ليس بواجب على النهار وإنما هو مستحب أن عائشة رضي الله عنها كانت ( تمم أحيانا في السفر ) فدل على أن هذا ليس هو المقصود ، كما ذهب إلى ذلك الظاهرية ، لأن الظاهرية يرون تحريم الإتمام ويرون وجوب القصر استدلالا بقول عائشة رضي الله عنها ، وتفنيد هذا القول ما ذكرناه آنفا من وجوه يرد بها عليهم .
%ومع هذا كله ينبغي على المسلم إذا سافر أن يقصر الصلاة ولا يتم ، لكن إذا كان مع شخص يتم وهو مأموم عليه أن يتم حتى لو أدرك هذا المأمومُ الإمامَ في التشهد الأخير ، فإن عليه أن يأتي بها أربعا ، ولا يجوز له أن يقتصر على ركعتين كما يفعله كثير من الناس .
حديث رقم – 454-
( صحيح ) أخبرنا محمد بن هاشم البعلبكي قال أنبأنا الوليد قال أخبرني أبو عمرو يعني الأوزاعي أنه سأل الزهري عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة إلى المدينة قال أخبرني عروة عن عائشة قالت : فرض الله عز وجل الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم أول ما فرضها ركعتين ركعتين ثم أتمت في الحضر أربعا وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى )
من الفوائد :
هذا الحديث نظير الحديث السابق ، لكن ذكرت ( الركعتان مكررة ) وهذا يفيد التوكيد ، يعني أكدت أنها كانت في أول الأمر مفروضة ركعتين ، وهذا يدل على ماذا . يدل على أن جبريل لما نزل وصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس أنه ( صلاها ركعتين ركعتين ) اللهم إلا المغرب ، فقد جاء في مسند الإمام أحمد الاستثناء ( إلا صلاة المغرب ) فاستثنيت صلاة المغرب كما جاء المسند ، فهي من حيث ما فرضت صلاة المغرب فرضت ثلاث ركعات ، والحكمة في ذلك كما أسلفنا أنها وتر النهار ، كما بين ذلك الترمذي رحمه الله في سننه .
حديث رقم – 455-
( صحيح ) أخبرنا قتيبة عن مالك عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت : ” فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر )
من الفوائد :
كون المسافر يخفف عنه والمقيم يزاد عليه ، هذا من باب تيسير الشريعة على المسلم ، فإنه في حال السفر يكون حاله ليس كحال الإقامة ، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين قال ( السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه فإذا قضى
احدكم نهمته فليجعل بالسفر إلى أهله ) حتى في الحج كما في غير الصحيحين وهو حديث صحيح قال ( من قضى حجه فليعجل بالسفر إلى أهله فإنه أعظم لأجره ) فدل هذا على أن حال السفر ليس كحال الإقامة ، ومن باب التيسير فإن الشرع شرع للمسلمين قصر الصلاة الرباعية والفطر حال الصيام ، وسقوط بعض الواجبات التي تجب عليه في الإقامة ولا تجب عليه في السفر .
حديث رقم – 456-
( صحيح ) أخبرنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا حدثنا أبو عوانة عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن بن عباس قال : فرضت الصلاة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة )
من الفوائد :
هذا الحديث كما أسلفنا ينفي ظاهر ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها من أن الصلاة أول ما فرضت إنما فرضت على أنها ركعتان ولا تجوز الزيادة عليهما .
نقول : خولف بحديث ابن عباس رضي الله عنهما من أن صلاة الخوف إنما فرضت ركعة ، فدل هذا على اجتهاد من عائشة رضي الله عنها لما ذكرت ذلك القول ، وليس للظاهرية مستند على ما ذهبوا إليه من أن الواجب القصر في السفر .
نقول : القصر في السفر مستحب ، ويكره للمسافر أن يتم إلا إذا صلى خلف من يتم فإنه يجب عليه أن يتم .
ومن الفوائد :
أن هذا الحديث ذكر فيه القصر بنوعيه ، وهذا يدخل تحت قوله {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ }النساء101 ، فإن القصر نوعان :
#إما قصر عدد .
#وإما قصر هيئة .
#وقد يجتمع القصران ، فمن كان في السفر فإنه يقصر عددا ، الرباعية تكون ركعتين ، من كان في الخوف فينظر إن كان في بلدته فإنه يكون عليه قصر الهيئة ، يعني تختلف هيئة الصلاة بالنسبة إليه بخلاف من هو مطمئن ، فمن كان خائفا وهو في بلدته عليه أن يأتي بالصلاة الرباعية على حالها ، لكن قد لا يتمكن من الركوع ، قد لا يتمكن من السجود ، هنا يومئ إيماءً ، هنا القصر قصر هيئة وليس قصر عدد .
وقد يجتمع القصران ، قد يحصل حرب بين الكفار وبين المسلمين أو يحصل خوف ولو لم يكن حربا ، أن يحصل خوف للمسلم في غير بلدته ، يعني وهو مسافر هنا يجتمع في حقه القصران ” قصر العدد وقص الهيئة ” فمثلا لو مرت به صلاة الظهر وهو مسافر وكان خائفا لا يتمكن من أن يصلي بالركوع أو السجود هنا ، يصلي ركعتين وفي حال الركوع والسجود يومئ إيماءً ، فإذاً القصر نوعان ” قصر هيئة وقصر عدد”
ومن الفوائد :
أن صلاة الخوف لها أنواع متعددة ، قال الإمام أحمد رحمه الله ( من صلى بأي صفة كانت أجزأت صلاته )
فله أن يختار ما يشاء من هذه الأنواع ، ولكن من بين أنواع صلاة الخوف إذا كان المسلم خائفا في سفر يصلي ركعة واحدة ، وهذا كما ذكر ه ابن عباس رضي الله عنهما ، أيضا ثبت ذلك من أحاديث وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه ( صلى عليه الصلاة والسلام بطائفة من الجيش ركعة وسلموا وانصرفوا وأتت الطائفة الثانية وصلت معه عليه الصلاة والسلام ركعة وسلموا معه ) فاقتصرت كل طائفة على ركعة ، بينما هو عليه الصلاة والسلام صلاها ركعتين .
$فخلاصة القول أن صلاة الإقامة تكون تامة وصلاة السفر تكون ركعتين وليس ذلك على سبيل الوجوب ، وبالنسبة إلى صلاة الخوف فإنها متعددة ومتنوعة ، فيحصل فيها قصر الهيئة ، ويمكن أن يحصل فيها قصر العدد إذا كان الخائف مسافرا .
وليعلم أن الخوف لا يقتصر على الحرب ، يعني لو أن الإنسان أدركته الصلاة وخاف أن تفوته الصلاة وقد لحق به سبع أو داهمه سيل أو خاف أن يفوته الوقوف بعرفة مثلا لو نزل وصلى أو خاف على أهله ، لأن الخوف وصف يدخل ضمنه أنواع وأمثلة كثيرة ، فلا يحصر الخوف على الحرب – لا – فمتى ما خاف الإنسان من عدو أو سبع أو نار أو سيل أو فوات الوقوف بعرفة أو خوف على ماله أو خوف على نسائه ، فإنه في مثل هذه الحال يصلي صلاة الخوف ، فإن كان في الإقامة يصلي صلاة تامة ، ولكن بقدر ما يستطيع {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً }البقرة239 ، سواء كنتم على الأرجل أو تركبون على الدواب أو على السيارات الموجودة في هذا العصر ، قال عز وجل {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً }البقرة239 ، فلم يقل {فَإنْ خِفْتُمْ } من عدو ، {فَإنْ خِفْتُمْ } من سبع – لا – أطلق ، ولذلك ما أسلفنا [ حذف المعمول يدل على العموم ] {فَإنْ خِفْتُمْ } من ماذا ؟ لم يُذكر شيء ، فدل على عموم الخوف ، وهذا من نعمة الله عز وجل على هذه الأمة أن الله عز وجل يسر لها سبل الطاعة ، وهذه يؤكد على عظم الصلاة ، فإن الصلاة لا يجوز أن تؤخر عن وقتها بأي حال من الأحوال ، سواء كنت مطمئنا ، سواء كنت مسافرا ، هذا لا يكون عذر في ترك الصلاة ، ولذا ما يحصل من بعض المرضى أنهم يؤخرون الصلاة بسبب أنهم ليسوا على طهارة أو أنهم ليسوا مستقبلي القبلة – هذا خطأ محض – متى ما حضرت الصلاة وخشيت أن يخرج وقتها فصل على حسب حالك ، ما تمكنت من واجبات للصلاة تفعلها ، ما لم تتمكن تسقط عنك .