بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة إبراهيم
من الآية 1 إلى الآية 12
(الدرس 145)
للشيخ زيد بن مسفر البحري – حفظه الله –
قال تعالى :
﴿الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ ﴾(1)
تفسير سورة إبراهيم، سورةُ إبراهيم سورةٌ مكية، وإن كان بعضُ العلماء تنازع في بعض آياتها، هل هي آيات مدنية، أم آيات مكية.
قال تعالى (الر)، ومر معنا تفسير الحروف المقطعة في أول سورة البقرة.
(الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ)، كتاب أنزلناه إليك يا محمد، لمَ؟ (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ).
(لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ): من ظلمات الجهل والشرك والشك والنفاق وما شابه ذلك، (إِلَى النُّورِ): نور الإسلام، نور الخير، فدل هذا على أنه جعل الظلمات مجموعة لأنها (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) وأما النور فأفرده لأن طريقَ الله واحد.
ولذا قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).
(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ): لا شيء يقعُ إلا بإذنه عز وجل ولذا قال (لِتُخْرِجَ النَّاسَ) لأنك سبب يا محمد وذلك عن طريق تبليغ هذا الكتاب، وإلا فالُمخرِجُ للناس من الظلمات الى النور هو الله عز وجل: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) ومع هذا كله فإنه لا يمكن لأحد أن يهتدي وأن يخرُجَ من الظلمات إلى النور إلا بإذنه عز وجل.
ثم أيضاً أنتَ أُمِرتَ بهذا الأمر بناءً على ما أَذِنَ به عز وجل، فأنتَ رسولُ الله حقاً، فقال هنا: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) إلى طريق العزيز: القوي، الغالب الذي لا يُنالُ بسوء.
الحميد: المحمود على أفعاله المحمود لما له من الأسماء والصفات، فدل هذا على ماذا؟
دلَّ هذا على أنَّ من اهتدى فإنه يكونُ في طريقِ الله عزَّ وجل، ومِن ثَمَّ فإنَّ اللهَ يُعِزُّهُ، ومن ثَمَّ فإنَّ اللهَ عز وجل يُثني عليه.
{إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ودل هذا على ماذا؟ على أنه لا يمكن أن يكونَ الناسُ على خير في دينهم ولا يمكن أن يُوعظَ الناس ولا يمكن أن يُفَقَّهَ الناس إلا عن طريقِ هذا القرآن وسنة النبي ﷺ أما عداها من النظريات والتخيُلات والقَصَص الحياتية وما شابه ذلك مما عَمَّ وانتشر فإنه وإن كان على حسَبِ الصورة مما يظنون أنه يؤثر فإنه في الحقيقة لا تأثيرَ له وإنما لو قُدِّر فهو تاثير وقتيّ، ثم مع ذلك فلا يبقى إلا الحق، ولذا ذمَّ السلف رحمهم الله القُصَّاص، لمَ؟ لأنهم يزيدون ويكذبون ويصرِفون الناس عن دين الله عز وجل، فقال هنا (إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).
هنا قال (اللَّهِ) وكلمة الله قال بعضُ العلماء: إعرابُها صفة لأنَّ ما سبق (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) وهو مجرور، إذاً (اللَّهِ) صفة والصفة تتبع الموصوف، لكنَّ الأظهر من أن الأحسن أن يقال في إعرابها: هي بدل أو عطفُ بيان.
(اللَّهِ) لمَ؟ لأن اسم الله عز وجل يتضمنُ كلَّ الأسماء والصفات، ومن ثَّمَ فإنه تبين لي ولم أرَ أحداً سبقني إلى ذلك فيما أعلم من أن قوله تعالى لما قال: (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ) من أنه فيه رد وهو معتقد أهل السنة والجماعة، لكن هذا دليل تبين لي أنه دليل لهم، وذلك مُعتقد أهل السنة والجماعة: من أسماء الله عز وجل ومن أن صفاته تابعةٌ له عز وجل وليست منفصلة كما قال من قال من أهل التعطيل وممن حرَّفَ الأسماء والصفات، وهو عز وجل له ذاتٌ لكن ليس ذاتاً مُجردة وإنما ذاتٌ لها أسماء وصفات ولذا قال تعالى: (اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ومن ثَمَّ فإذا كان له ما في السموات وما في الأرض فهو الذي يستحق العبودية وحدَه، ولذا قبلها قال (الله) لأن الله هو المعبود مع المحبة والتعظيم.
(اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ): ويل كلمة وعيد وتهديد، وقال بعض العلماء كلمة ويل: وادٍ في جهنم، وقد أخذوا بحديث عند الترمذي: “ويل وادٍ في جهنم” لكنه حديث ضعيف؛ فالذي يُظهر من أن معناها كلمة وعيد وتهديد (وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) شديدٌ من حيثُ قوتهُ ومن حيث غلظتُه ومن حيث أنواعُه.
(الَّذِينَ) ذكرَ عز وجل صفاتهم بعد ذلك (وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) ما صفاتهم؟ (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ) قال يستحبون يعني: يحبون، وأتى بالسين والتاء من باب التأكيد، بمعنى أن مَحبتهم عظيمة في هذا الأمر الخبيث (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ)، بمعنى أن محبتهم محبةٌ عظيمةٌ لهذه الدنيا.
(الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ)، بمعنى أن محبتهم فقط إنما هي للدنيا أما الآخرة فإنهم يُعرضون عنها ولا يؤمنون بها، ولذلك قال عزوجل (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ).
فقال عز وجل (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) سبحان الله مع أنهم ضُلَّال في أنفسهم يصدون غيرَهم وهم دعاة الشر (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) وأتى بصيغة الفعل المضارع (يَصُدُّونَ) من باب الاستمرار، أنهم مستمرون على ذلك.
(وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) يبغون طريق الله مِعوجَّةً، والله عز وجل، جعل طريقهم مستقيماً (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) فهؤلاء يريدون بما يأتون به من صَدِّ الناس عن دين الله، وبما يأتون به من الخرافات والشبهات والبدع وما شابه ذلك أن يجعلوا طريق الله عز وجل طريقاً مِعوَجّاً.
(وَيَبْغُونَهَا) أي: يطلبونها (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) إذاً هؤلاء ضُلَّال وضَلال أي ضلال؟ ضلال بعيد، مما يدلُّ على ماذا؟ يدلُّ على أنهم استغرقوا في الضلال إلى أبعد ما يكون فدل هذا على أن ضلالهم قد استغرقوا وانغرقوا فيه.
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) اللسان هنا معناه: اللغة، لأن اللسان يُطلق وله عدة معانٍ هنا اللغة.
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) أي: إلا بلغةِ قومه، وهذا من رحمة الله عز وجل إذ جعل كلَّ نبيٍّ جعله على وِفْقِ لغة قومه حتى يفهموا عنه.
فقال هنا: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) لمَ؟ (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ليبين لهم شرع الله عز وجل.
ولو قال قائل: النبي محمد ﷺ بُعث للناس كافة وهم قد اختلفت لغاتُهم فلماذا كان عربياً؟ فالجواب عن ذلك: من أنه كما في هذه الآية قال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) فهو بلغةِ قومه وهي اللغة العربية ومن ثَمَّ فإنه لو كانت لغته لغة غير عربية لشككت فيه كفارُ قريش ولذا قال عز وجل :(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ) فبيَّن هنا من أنه كان بلغة قومه حتى لا يشككوا فيه أما ما عدا قومَه فإنه يحصل التبليغ عن طريق الترجمة ومن ثَمَّ حصل ما حصل فبلغت الصحابة رضي الله عنهم بلغوا دينَ الله للأمم الأخرى بما يسمى بالترجمة.
فقال هنا (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) لكن الموفق من وفقه الله والمخذول من خذله الله فماذا قال بعدها؟
(فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) وفي هذا ردٌ على القدرية لذين يقولون إنَّ العبدَ يخلُقُ الضلال لنفسِه والهدى لنفسه فقال هنا مُقيدا بالمشيئة: (فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) وتأمل هنا: (فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) دل هذا على أن الأنبياء إنما عليهم البلاغ أما الهداية هداية التوفيق والإلهام فمن الله عز وجل.
ثم أتى بصيغة الفعل المضارع: (فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) من أجل ماذا؟ من أجل أن هدايتَه عز وجل وإضلاله لبعض خلقِه إنما هو على وجه الاستمرار والدوام فيكونُ العبدُ حينَها يكونُ العبد إذا كان مهتدياً يخشى من ماذا؟
يخشى من إضلال الله عز وجل له، فيلتجئ إلى الله وعليه أن يسأل الله الثبات وأيضاً هنا لما قال (وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) إن كان ضالاً يتعرضُ لرحمة الله عز وجل حتى يهديَه.
(فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) ولو نظرنا إلى الواقع وكلٌّ يشهدُ بذلك -فنسألُ الله الثبات- نرى أناساً فيما مضى كانوا على أحسن حالٍ من الهداية لكن ما الذي جرى؟
تغيرت الأحوال سبحان الله!
وكان أناسٌ فيما مضى كانوا من أشقى الناس في دينِ الله عز وجل من حيث الضلال فهداهم الله عز وجل فالموفق من وفقه الله والمخذول من خذله الله، ومن ثَمَّ فإن على العبد أن يلتجئ إلى الله وأن يسأله الثبات.
(فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) العزيز: القوي الغالب، ومن ثَمَّ فإنه عز وجل قوي على إضلال من يشاء وهداية من يشاء.
الحكيم: وهو الحكيم عز وجل إذ جعل الهدايةَ لأناس وذلك بفضلٍ منه عز وجل، وجعل الضلال لأناس بحكمةٍ منه وعدل ولذا قال عز وجل (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فدل هذا على أن الله عز وجل هو أعلمُ بحال الخلق ومن ثَمَّ فإن على العبد أن يلجأ إلى الله عز وجل.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) لما ذكر الرسل ذكر موسى عليه السلام ومن ثَم فإن موسى عليه السلام لما ذكر عز وجل في سورة يونس لما ذكر (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) ذكر ماذا؟ لما ذكرهم على وجه العموم ذكر قصة موسى وهنا لما ذكرهم على وجه العموم (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ)، ذكر هنا قصةَ موسى عليه السلام ولذا قال الإمام أحمد رحمه الله: هي أفضل قصة في القرآن، لأن بها العبر ولأن بها العِظات ولذا كان يتأسى النبي ﷺ بموسى ولذلك لما قسَم قسما كما ثبت في الصحيح: فقال شخصٌ: (هذه قِسمة ما أُريدَ بها وجهُ الله) فقال ﷺ: (رَحِمَ اللهُ موسى لقد أُوذيَ بأكثرَ من هذا فَصَبَر).
فقال هنا:(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى) بمعنى أن قصةَ موسى فيها تسليةٌ للنبي ﷺ من تكذيب قومه وذلك أن قومَ موسى كذَّبوه بأنواع التكذيب كما مر معنا تفصيل ذلك في سورة الأعراف.
فقال عز وجل هنا: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) قال هنا (بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) القوم هنا قال بعضُ المفسرين: هم آلُ فرعون وقوم موسى، ومن ثَم فإن بعض العلماء لمَّا فسر(بِآَيَاتِنَا) فسرها بأنها: الآيات التي ذكرها عز وجل في سورة الأعراف وكذلك التوراة، ولكن في هذا نظر وقد رأيت بعض المفسرين قد أخطأ في مثل هذا في عدةِ مواضع في ما يتعلق بهذا الأمر وذلك بعضهم يقول: الآيات هي التوراة، ولِيُعلم أن التوراة ما أُنزلت إلا بعد هلاكِ فرعون وما أنزلت إلا بعد ما أغرق الله عز وجل فرعون، ومن ثم فإنه ليتبين المسلم حينما يقرأ من أن كلمة الآيات إذا كانت السياق فيما يتعلق بموسى وقومه وهم بنو إسرائيل إذا كان قبلَ إغراقِ فرعون ونجاتهم فليس المقصود التوراة، وكذلك الشأن إذا كان السياق في آل فرعون فإنها ليست التوراة لأن التوراة ما نزلت إلا بعد إغراقِ فرعون ونجاة بني اسرائيل كما وضحنا ذلك ولذلك قال عز وجل: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) وكما قال تعالى: (وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) وذلك بعد ما نُجِّيَ بنو إسرائيل، فهنا إن كان المقصود بالآيات التوراة فإنه لا دخلَ لآل فرعون هنا.
إذاً (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ) فإذا كان القومُ هم بنو إسرائيل فالمقصود بالآيات: التوراة والآيات التي في سورة الأعراف.
وإن كان المقصود من ذلك من القوم هم آل فرعون وبنو إسرائيل فالآيات: هي ماذا؟
الآيات التي في سورة الأعراف.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) انتبه (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) الله عز وجل ماذا قال للنبي ﷺ في أولِ السورة؟
(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) هنا أيضا أُسند الإخراجُ إلى موسى لأنه هو السبب.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) قال (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) دل هذا على أن طريق الله واحد في دين محمد ﷺ وفي الأديان السابقة، وأن الكفر متشعب لأنه لما قال عن النبي ﷺ: (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) قال هنا عن موسى: (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) هنا الأيام هي الوقائع والأحداث (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) قال بعضُ العلماء المقصود من ذلك: أي ما أنزله الله عز وجل بالعقوبة على الأمم الكافرة السابقة.
ولكنَّ الصحيح من أن قولَه تعالى (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) المقصود من ذلك ذكرهم بعقوبة الله عز وجل لمن كفر وذكرهم بما أنعمَ اللهُ عز وجل من النعم.
ولذا مما يؤكد ما رجحته من أن ختام الآية (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) فالصبار: هو الذي يكون ماذا؟ عند نزول البلاء، والشكور: عند نزول النعماء، ولذا ماذا قال تعالى؟ كما مر معنا وكما سيأتي هنا: {وإِذْ نَجَّيْنَٰكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوٓءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ ۚ وَفِى ذَٰلِكُم بَلَآءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} فالبلاء يكون بالنعمة ويكون بالضراء.
فقال هنا (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي: فيما قدره عز وجل من السراء والضراء (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ) لعلامات (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) قال صبار على وزن فعال، والشكور على وزن فعول للمبالغة دل هذا على ماذا؟
على أن الذي ينتفع أكثر هو من كان أعظمَ صبراً وأعظمَ شكراً.
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) ومن هنا لما قال (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) ماذا قال بعدها مُبيناً لهم نوعاً من أيام الله عز وجل (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ).
(اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) بقلوبكم وبألسنتكم وبجوارحكم (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) ما هي هذه النعمة؟
(إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) قال هنا: { بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} يشمل الابتلاء بالنعمة وبالضراء، وهذه الآيةُ مرت معنا في تفسير سورة البقر وبينا هناك تفسيراً لها وبينا هناك لماذا أتت هناك بدون واو وهنا أتت بالواو، وعلى كل حال من باب التذكير:
(إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) دل هذا على أن قوله: (وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) قال بعض العلماء هي زائدة، ولكنَّ الصحيح أنها ليست بزائدة وإنما التذبيحُ إنما هو نوعٌ من أنواع العذاب، ولعل المسألة يُعاد إليها فيما مضى في تفسير سورة البقرة فهناك أشمل وأعم.
فقال هنا: { وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) أي أعلم ربكم، وهذا يدل على ماذا؟
على أن هذا الأمر، قد وضح واتضح (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) دلَّ هذا أنَ من شكر نعمة الله فإن الله عز وجل يزيدُه، فكما أن النعمةَ تبقى بالشكر أيضاً تزدادُ بالشكر، الدليل على زيادتها بالشكر هذه الآية: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) إن كفرتم بالله عز وجل وبنعمه فعذابُه عز وجل شديد.
(وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا) يعني قال موسى لقومه: (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) فله الغنى المطلق التام الكامل، وهو الحميد المحمود على أفعاله، وله الأسماء والصفات العظيمة، ولذا في أول السورة ماذا قال؟ (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).
قال هنا (فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) فهو لا يحتاجُ إلى شكركم ولا إلى أعمالكم فهو الغني، وهو عز وجل المحمود بل حَمِدَ نفسَه قبل أن تحمَدُوه فهو الغني الحميد، وهذا كما قال عز وجل، (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) وكما قال تعالى (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).
فقال هنا (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) فالطاعةُ إنما تنفعُ صاحبَها، والمعصيةُ هي التي تضر صاحبها، واللهُ لا تنفعُه طاعةُ المطيع ولا تضره معصيةُ العاصي، ولذا قال النبي ﷺ كما في صحيح مسلم: قال الله عز وجل:
(يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) ولذلك قال في اخر الحديث:
(إنما هي أعمالكم أوفيها لكم فمن وجد خيراً فليحمد الله) لأنه وفقه (ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه).
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ): هل هذا من تمامِ قول موسى عليه السلام لقومه من باب أنه يعظهم بما نزل بالأمم السابقة؟ قال هذا بعضُ المفسرين.
وقال بعضُ المفسرين كابن كثير رحمه الله: إنها ليست مُتعلقة بما مر ذِكره عن موسى عليه السلام لأنه لا يوجد في التوراة كما قال -رحمه الله-: لا توجد قصة عاد وثمود، فدل هذا كما قال على أنَّ هذا في هذا تهديدا لكفار قريش، وعلى كل حال سواء قيل بهذا أو بهذا فإن بها عبرةً وعظة بحيث يعتبر أي كافر بما جرى للأمم السابقة.
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ)، يعني: خبر (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) والاستفهام للتقرير يعني: أتاكم.
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ) قال هنا مُبيناً أن الأمم كُثر بعد هؤلاء كقوم إبراهيم وقوم لوط وما شابه هؤلاء مما لا يعلمهم إلا الله عز وجل (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) بالدلائل الواضحة على صدقهم {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}
(فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ) بمعنى أنَّ هؤلاء الكفار ردوا أيديهم في أفواههم واختُلِفَ في ذلك اختلافاً كثيراً(فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ): بمعنى أنهم جعلوا أيديهم على أفواههم يُسكِّتون الأنبياء، أو أن المقصود: من أنهم يجعلون أيديهم على أفواههم غَيظا وحَنَقا كما قال تعالى (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ).
وعلى كل حال الذي يظهر من أنَّ هذه الآية (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ) بيانُ جحودِ وإنكار تلك الأمم السابقة لما أتتهم الرسل حتى إنهم لَيُسَكِّتونَ رسلَهم وإذا بهم يَعُضُّون على أيديهم غيظا وحنقا على الرسل وهم لا يريدون أن يسمعوا شيئا مما تقوله الرسل وهذا يدل على ماذا؟ على كِبرِهم وغَطرَسَتِهِم.
وقال تعالى هنا (جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ.
(وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ) إذاً هؤلاء الذين كفروا بك يا محمد، أو على القول الآخر: كفروا بك يا موسى، فإن قبلَهم من الأمم من كفرت فأنزل اللهُ بهم عذابَه، فقال عز وجل (جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ).
(وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ) لفي ريب (مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) وقال هنا (مُرِيبٍ) بمعنى أنه شك جعلنا في رَيبةٍ وفي اضطراب، وهذا من باب صرفِ الناس عن دينِ الله عز وجل.
قال هنا (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) في قصة صالح كما مر معنا في سورة هود ماذا قال عز وجل عنهم؟ (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) ذكر ماذا؟
ذكر الاختلافَ هنا وهناك (تَدْعُونَنَا) وهنا (تَدْعُونَنَا)، وهناك (إِنَّنَا) وهنا (إِنَّا):
ومن ثَم فإنه لما كان هنا ما يتعلق بالجَمْع (مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ) وهم الرسل جَمْع أتى بها هنا، بينما في قصة صالح، الذي دعاهم صالح فأتت بالإفراد ومن ثم لم تأتِ، لكن لو قال قائل: لماذا لم تأتِ النون الثانية في قوله: (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ) لماذا لم يقل (وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ) الجواب عن هذا والعلمُ عند الله:
من باب تخفيف النونات فهنا ثلاث نونات فلو أتى بها لكانت أربع، فلذا كانت ثلاث نونات سواء في قصة صالح أو في قصة هؤلاء الأمم (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ).
(قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ)، إنكارٌ لقول هؤلاء (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ) في وجوده وفي توحيده.
(قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) مبدع السموات والأرض على غير مثالٍ سابق (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) هي دلائل على عظمة الله عز وجل.
يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) يدعوكم عز وجل وذلك بأن أنزل الكتب وأرسل الرسل (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) وهذا يدل على ماذا؟
يدل على محبته وفرحه للتائبين (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) قال بعضُ العلماء: {من} هنا زائدة، أي: ليغفرَ ذنوبكم لأن الإسلام يهدمُ ما قبلَه، فقال هنا (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ).
وقال بعض العلماء: إنَّ {من} ليست زائدة وإنما لا يقاس حالِ هذه الأمة بحال الأمم السابقة فالأممُ السابقة لا تُكفَّرُ عنها الذنوب كلُّها وإنما يُكفَر بعضها إذا أسلموا لكنَّ أمة محمد ﷺ كما ثبت عنه ﷺ: (الإسلام يهدم ما قبله) وعلى كل حال هنا قال:
(لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)لأن زيادة {من} في سياق الإثبات لا يراها البَصريون، وأما عند الكوفيون فإنهم يرون زيادةَ {من} ولو كانت في سياق الإثبات وهنا في سياق الإثبات، وعلى كل حال فالشأن من لأنَّ أمةَ محمد ﷺ أعظم لا شك في ذلك لكن لعلَّ رأيَ الكوفيين في مثل هذا الأمر يكون هو أرجح والعلم عند الله لأنه لا دليلَ فيما نعلمُه من أنَّ الإسلام لا يهدم الذنوب كلها في الأمم السابقة إذا أسلم من أسلم.
(يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) وهذا أيضاً سيمر معنا في قوم نوح عليه السلام ولذا ماذا عز وجل؟ قال:
(إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)
(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) وقال هنا (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) يعني: أرسل الرسل وأنزل الكتب من أجل ماذا؟ من أجل أن تؤمنوا وتبقوا مدةَ حياتكم في هذه الدنيا، فإنكم إن لم تؤمنوا فإنَّ العذابَ سيستأصلكم، ولذلك فإن من آمن فإن الله عز وجل يغفرُ له ويؤخره إلى أجلٍ مسمى إلى وقتِ وفاته دون أن يُعذَّب، لكن من كفر فلا مغفرةَ له وأيضاً يُستأصَلُ بالعذاب.
(يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) ولا يعني ذلك أنه إذا استأصلهم من أنهم لم توفَّ لهم آجالُهم! لا، وإنما وُفَّيَت لهم آجالُهم فأُخِذُوا بهذا العذاب الذي استأصلهم لأن سبب ذلك هو إعراضُهم، كما يكون في قتل الشخص فالمقتول مات لأَجَلِه الذي قدَّره الله عز وجل لكن جعل القتلَ سبباً، ومر معنا هذا مفصلاً في سورة آل عمران في قوله عز وجل: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا).
فقال عز وجل هنا (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى زمنٍ مسمىً قدَّره الله عز وجل لكم في هذه الحياة (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى).
(قَالُوا) يعني: الكفار لرسلهم (قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ) أي ما أنتم (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) ودل هذا على ماذا؟ على أن من تأمل القرآن وجد أنَّ من بين العراقيل ومن الشُبَه التي عند هؤلاء الكفار أنهم يستبعدون أن يكونَ هناك رسولٌ من البشر كما مر معنا بيان ذلك في تفسير سورة الأعراف كما قال نوحٌ عليه السلام: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ).
إذاً شأنُ هؤلاء في جميع الأنبياء يقولون لهم هذا الكلام، إذاً لما قالت لك قريش هذا القول يا محمد: كيف يوحى إليك وأنت بشر ولا يكون معك ملك! فقد سبق قومك ممن سبق من الأمم الكافرة فقالت هذا القول.
(قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) ثم ماذا؟ (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا) سبحان الله! هنا التعلُق بطريقة وبعادات الأوائل والأجداد ولو كانت باطلة، ولذا قال هنا عن هؤلاء من باب ماذا؟ من بابِ تنفير الناس منهم، إذ يقولون: إنَّ هؤلاء ما أتوا إلا من أجل أن يصرِفونا عن طريقة آبائنا.
(تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أي: بحجَّة بينة وواضحة على ما قلتموه وذلك من الآيات التي تكون على حسَبِ مقترحاتنا.
(قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ) وقال هنا: { قَالَتْ لَهُمْ} في أول الآيات: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) لكن هنا قال (لهم) لمَ؟ لأنه والعلمُ عند الله لمّا استبان الحق وبان عنادُ هؤلاء أكد هذا الكلام بقوله (لَهُمْ) لهؤلاء الذين قالوا هذا القول.
(قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) يعني ما نحن ُإلا بشرٌ مثلكم ولا ننكر ذلك.
ولذا ماذا قال تعالى؟ قال تعالى : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ) هذا في شأن محمد ﷺ (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) فمنته وعطاؤه على من يشاءُ من عباده فَمَنَّ اللهُ علينا بالرسالة.
(وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) مما تقترحونه من الحُجَج (إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) ولذا مر معنا في سورة الرعد (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) وعلى اللهِ وحدَه فليتوكل المؤمنون، لأن التوكل هو من مُقتضيات الإيمان ومن أُسُس الإيمان.
(وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ) فدل هذا على ماذا؟ على أنَّ التوكلَ كما مر معنا وقلت ذلك مراراً: التوكل على الله واجبٌ في كل أحوال الناس، في كل حالٍ من أحوال الإنسان الدينية والدنيوية، وأعظم ما يتوكل العبد على ربه أن يتوكل عليه في أمر دينه كما هنا ومر معنا أشياء كثيرة في هذا.
(وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا ) الثناء على الله (وَقَدْ هَدَانَا) والهداية بيد الله (وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا) وقال هنا (وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا) هنا جُمِعَت السُّبُل وهذه الآية كالآية التي مرت معنا في سورة المائدة كما قال عز وجل (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ).
وبيَّنا ذلك موضَّحاً وبينا أيضاً هناك: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا).
(وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا) دل هذا على أنَّ الرُسل أوذوا، إذاً: صاحبُ الدعوة، صاحبُ العلم لو أُوذي بقولٍ أو بفعل عليه أن يتأسَّى بالأنبياء (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا).
ثم بعد ذلك أكدوا (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) يعني شأن المتوكلين لا يتوكلون إلا على الله، هم أهلُ الإيمان، وأهل الإيمان شأنُهم أنهم يتوكلون على الله وحده ولذلك قال قبلها: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).