التفسير الشامل ـ [ تفسير سورة الأحزاب]
من الآية (28) إلى الآية (52)- الدرس (207)
لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا(31)﴾
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ﴾ لما اشتكت زوجات النبي ﷺ قلة المعيشة في بيت النبي ﷺ واشتكين قلة النفقة للنبي ﷺ قال الله ﷻ:
﴿إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا﴾ الحياة الدنيا والتمتع والزينة فيها ﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ﴾ كما يمتع الزوجة زوجته إذا طلقها يعطيها شيئًا من المال أو ما شابه ذلك ﴿وَأُسَرِّحْكُنَّ﴾ يعني أطلقن ﴿سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ يعني لا مشقة فيه ولا عتب ولا لوم وهذا الذي يتعين على الإنسان لما يطلق زوجته يخفي ما مضى ويسرح المرأة سراحًا جميلًا.
ولذلك لما حصل ما حصل، أتى النبي ﷺ إلى عائشة رضي الله عنها وقال: إني سأخبركِ بأمر فقرأ عليها هذه الآية فقال: لا تعجلي حتى تستأذني أبويكِ فقالت عائشة رضي الله عنها: أأستأذن أبوي فيك يا رسول الله لا والله اختارك ثم إذا بزوجات النبي ﷺ يقلن مثل ما قالت عائشة.
﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ فالله لا يضيع أجر المحسنين.
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ﴾ لكنّ قدر وشرف لكن بقدر مكانتكن يعظم الذنب، ولذلك قال ﷻ في حق النبي ﷺ ﴿وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ﴾[الإسراء: 74-75]، ولذلك قال الله عز وجل ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ أي فحشت مبينة فاحشة واضحة -الفحش ما استفحش شرعا وعقلًا- ﴿مُبَيِّنَةٍ﴾ واضحة وبينة وقد ظهرت وبانت ﴿يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾ لمكانتها ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ فلا يعجزه شيء فيما يتعلق بهذا الأمر ولا بغيره.
﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ القنوت هو الطاعة، كما نُسب القنوت إلى الله نُسب وأضيف إلى النبي ﷺ ومعلوم أن القنوت لله، لكن القنوت المقصود هنا الطاعة ﴿وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ﴾ لعلو منزلتها ﴿وَأَعْتَدْنَا لَهَا﴾ هيأنا لها ﴿رِزْقًا كَرِيمًا﴾ وأعظم هذا الرزق الجنة.
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا(34)﴾
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ لم يقل كواحدة بل قال كأحد لأن كلمة أحد تصدق على المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث كما قال تعالى: ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾[البقرة: 285]، ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾[الحاقة: 47]، ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ﴾ وأضافهن إلى النبي ﷺ من باب التشريف لهن ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ لستن كأي جماعة من جماعة النساء ﴿إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ بشرط التقوى فإن كنتن متقيات ﴿إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ الله فليس أحد في منزلتكن، وهذا يدل على أن الإنسان إنما يشرف بطاعة الله وبتقوى الله.
﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ﴾ يعني لا تملن في القول فيكون بخضوع وتغنج وما شابه ذلك ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ يعني في قلبه حب وشهوة للزنا ولذلك قال: ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ فإن كلمة يطمع تدل على أن من أصيب بعشق فإن عليه حتى يزول بعد الاستعانة بالله أن يقطع الطمع فيمن يعشقه فقال هنا: ﴿وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ يعني قلن كلامًا معروفًا من حيث أحكام الشرع لكن قول معروف من غير خضوع في القول، وهذا وإن كان الخطاب موجهًا لنساء النبي ﷺ فغيرهن من باب أولى.
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ يعني من القرار المكث في البيوت وفي قراءة (وقرنِ) يعني من الوقار يعني كن في بيوتكن وعليكن في بيوتكن بالوقار وبالرفق، ولذلك ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: ” إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ “وليس معنى ذلك أنها لا تخرج لا إن كان هناك حاجة فإنها تخرج، ولذلك زوجات النبي ﷺ يخرجن لكن لحاجة.
﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ التبرج هو الظهور يعني أنكن لا تتبرجن وتظهرن الزينة منكن كتبرج أهل الجاهلية الأولى، وهل هناك جاهلية أولى؟ قال بعض العلماء المقصود من ذلك النهي عن التبرج ولو لم يكن هناك جاهلية أولى، لكن على كل حال جملة من أهل العلم يقول: هناك تبرج في الجاهلية الأولى زمنه هل هو في زمن داود أو في زمن عيسى ما بين ذلك؟ الله أعلم فلا دليل صحيح فيما يتعلق بهذا.
لكن التبرج هنا المقصود بالتبرج هنا هو إظهار الزينة بجميع أنواعها ﴿وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ﴾ مما يدل على عظيم فضل الصلاة والزكاة ﴿وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ﴾ يعني تلك الأوامر من أجل ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ﴾ يعني الذنوب التي توقع الإنسان في الرجس والآثام ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ يعني يا أهل البيت ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ لأن شرع الله به التطهير ولذلك من دلالة هذه الآية أن زوجات النبي ﷺ من أهل بيته، ولذلك في قصة إبراهيم لما أتوا يبشرونه قال الله عز وجل ﴿رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ [هود: 73]، يخاطبون الزوجة قال هنا: ﴿لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ وأتى بصيغة المذكر لم لم يأتِ بصيغة المؤنث مع أنهن إناث؟ من أجل أن يبين أن أهل البيت لا ينحصر في زوجات النبي ﷺ، بل النبي ﷺ جمع فاطمة والحسن والحسين وعليًا وقال هؤلاء أهل بيتي، فأهل بيته ما ذكر من الرجال وما ذكر من النساء وزوجاته من أهل بيته.
﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ واذكرن في بيوتكن تلك البيوت التي نزل فيها القرآن والسنة ولذلك قال: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ يعني القرآن والحكمة يعني السنة ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾ فلطف ﷻ بكم وهو خبير بما تصنعونه في بيوتكم فهو لطيف وخبير ﷻ.
﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)﴾
﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ﴾ لما ذكر ما يتعلق بزوجات النبي ﷺ ذكر هنا ما يتعلق بغيرهم من الرجال والنساء من أهل الإيمان، ولذلك بعض النساء قلن: لم الأحكام تأتي للرجال فأنزل الله هذه الآية ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ الإيمان هو الإسلام والإسلام هو الإيمان، لكن إذا اجتمعت كهذه الآية فالإسلام للأمور الظاهرة للأحكام الظاهرة والإيمان للأحكام الباطنة ﴿وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ﴾ يعني الطائعين والطائعات ﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا﴾[الأحزاب: 31] ﴿وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ﴾ يعني في أقوالهم ﴿وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ﴾ يعني الصابرين على طاعة الله وعلى ترك معاصي الله وعلى أقدار الله المؤلمة ﴿وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ﴾ عند تلاوة القرآن وفي الصلاة ﴿وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ﴾ من أموالهم ﴿وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ﴾ يعني والحافظات فروجهن ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾ وقد قال بعض أهل العلم الإنسان يكون ذاكرًا لله ﷻ كثيرًا إذا كان يطبق الأذكار التي وردت السنة بها عند دخول المسجد وعند خروجه وعند دخوله إلى بيته وما شابه ذلك من هذه الأذكار ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ أعد الله لهم وهيأ لهم مغفرة لذنوبهم فيزول عنهم ما يكرهون وأعد لهم الأجر العظيم الذي هو جنات النعيم.
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا(37)﴾
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ﴾ يعني ما ينبغي لمؤمن ومؤمنة ﴿إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ يعني لا يختارون أمرًا لا يوافق أمر ربهم وأمر رسوله ﷺ ولا يقدمون ما يختارونه على ما يريده الله ﷻ ويريده رسوله ﷺ، ولذلك ماذا قال في أول السورة؟ ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
زينب بنت جحش وهي قرشية وكانت جميلة وزيد بن حارثة كان مولى، فأمرها النبي ﷺ أن تتزوج به فلم ترضَ بذلك، فلما نزلت هذه الآية تزوجت بزيد بن حارثة وهو مولى فقال الله عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ﴾ ذكر المؤمن من باب التأكيد أيضًا على أنه لو كان الأمر فيما يتعلق بزينب فأيضًا كل مؤمن ومؤمنة في أي أمر من الأمور تشمله الآية ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا﴾ فقد ضل وتاه عن الحق ضلالًا مبينًا واضحًا.
﴿وَإِذْ تَقُولُ﴾ يا محمد ﴿لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ بالإسلام ﴿وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾ بالعتق بالرعاية والإحسان إليه وهو زيد بن حارثة ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ لأن زيدًا كان يشتكي منها فيقول النبي ﷺ ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ يا محمد ما الله مظهره لأن الله ﷻ أخبره بأن زيداً سيطلق زينب وسيتزوج بها ومعلوم أنهم في الجاهلية يعظمون هذا الأمر أن الإنسان يتزوج بامرأة ابنه الذي تبناه، ولذلك في أول السورة جاء ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ فماذا قال هنا؟ ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ تقول عائشة رضي الله عنها لو كان النبي ﷺ مخفيًا شيئًا لأخفى هذه الآية ولكنه بلغ صلوات ربي وسلامه عليه.
﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ ليس معنى ذلك أنه لا يخشى الله بل قال ﷺ أنا أخشاكم لله، بل فيما يتعلق بهذا الأمر لو أنكروا عليك ولذلك هذا هو القول الصحيح المحقق في الآية، أما قول بعض المفسرين وذكر بعض الروايات أن النبي ﷺ رأى زينب رضي الله عنها فجأة فلما رآها ورأى جمالها قال: سبحان الله يا مقلب القلوب وهنا يقول لزيد ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ وهو راغب فيها لأن محبتها وقعت في قلب النبي ﷺ لكنها روايات باطلة لا تصح، الصحيح ما ذكرناه أنه كان مأموراً بأن يتزوج بها حتى يبطل الله عادة أهل الجاهلية من تحريم الزواج بالولد المتبنى فقال الله عز وجل: ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا﴾ يعني حاجته منها من الزواج بها، وصرح باسم زيد لأن الواقعة تحتاج إلى تصريح اسمه باعتبار إلغاء ذلكم الحكم الذي عند أهل الجاهلية.
﴿زَوَّجْنَاكَهَا﴾ ولذلك كانت تفتخر زينب رضي الله عنها فتقول لنساء النبي ﷺ الذي زوجني هو الله ولذلك قال ﴿زَوَّجْنَاكَهَا﴾ من غير ولي ومن غير شهود ومن غير أي أمر من الأمور ﴿لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ﴾ يعني إثم ﴿في أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا﴾ يعني لو أن أي مؤمن أراد أن يتزوج بزوجة من يدعيه من أهل التبني فلا حرج عليه، شرعنا هذا الأمر ﴿لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ﴾ يعني بعد طلاقها وبعد قضاء عدتها ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ ما أمر الله به ﷻ واقع ومتحقق.
﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)﴾
﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ﴾ يعني من إثم ﴿فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ﴾ يعني فيما فرض الله له وقدره له من إباحة هذا الشيء، فالفرضية هنا تتضمن الإباحة في هذا الأمر وفي غيره.
﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾ كسنة الله أو سن الله سنة ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ يعني هذه سنة لم تأتِ بها يا محمد، بل هي سنة في الأمم السابقة من الأنبياء ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ يعني ما قدره الله ﷻ سيقع وأكده بقوله مقدورًا.
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ﴾ الرسل عليهم السلام ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ﴾ هذه صفة لمن هم في الآيات السابقات ﴿وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾ وهذا فيه تزكية للنبي ﷺ أنه يخشى الله وحده وفيه أيضًا تزكية للأنبياء السابقين ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ فهو الحسيب ﷻ وهو الكفيل وهو سيحاسب خلقه وأيضًا هو حسيب وسيكفي عباده المؤمنين ما يسوؤهم.
﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ ممن يتبنى -وقال هنا من رجالكم- كما قال بعض العلماء لأن النبي ﷺ له أولاد القاسم وما شابه ذلك قالوا: لأنهم كانوا صغارًا فلا يسمون بالرجال، وقال بعض المفسرين المقصود من ذلك ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ يعني ممن ليس من صلبه فلا يمكن أن يكون ولدًا له، وإنما له ولد لمن كان من صلبه كزيد ابن حارثة.
مما يدل والعلم عند الله مع إني لم أر هذا لأحد من العلماء وعدم العلم لا يدل على العدم أن الرجال هنا ما يتعلق بزيد لأنه كان مولى ولذلك قال عز وجل ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾[البقرة: 282]، وهذا فيما يتعلق بالأحرار لأن زيد أصبح حرًا بعد عتق النبي ﷺ له ﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ يعني ولكن كان رسول الله خبر كان ﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ لماذا لم يقل وخاتم المرسلين؟ من باب أن يبين أنه خاتم المرسلين وخاتم النبيين لأن الأنبياء أكثر من الرسل والرسول هو الذي أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه أما النبي فهو الذي أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه يعني أنه لا نبي بعده ﷺ ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ ومن ذلك ما جرى فيما جرى مما ذكره ﷻ فيما يتعلق بالآيات السابقات.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا(44)﴾
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ أتت هذه الآية والعلم عند الله من باب أنه لا يخاض فيما مضى، بل على المؤمن أن يحرص على أن ينطق لسانه بذكر الله ﷻ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ حتى تكونوا من أولئك ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾.
﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً﴾ يعني في أول النهار ﴿وَأَصِيلًا﴾ يعني ما يكون في آخر النهار وقد قال بعض المفسرين ﴿وَسَبِّحُوهُ﴾ يعني صلوا له بكرة يعني صلاة الفجر ﴿وَأَصِيلًا﴾ يعني صلاة العصر والمغرب والعشاء.
وعلى كل حال هم مأمورون بذكر الله وبتسبيح الله ومن ذلك الصلاة ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُه﴾ صلاة الله ﷻ على العبد ثناءه عليه في الملأ الأعلى، وصلاة الملائكة على العبد الاستغفار ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾[غافر: 7]، فقال الله ﷻ ﴿لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ ومر معنا ما يتعلق بالظلمات والنور في سورة البقرة ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ فهو ﷻ يرحم المؤمنين رحمة خاصة فيسعدهم في دنياهم ويسعدهم في أخراهم .
ولذلك قال بعدها ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ﴾ يعني يسلم الله ﷻ عليهم ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾ هيأ لهم الأجر الكريم الذي هو الجنة.
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)﴾
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ﴾ لما ذكر ونادى أهل الإيمان ذكر هنا مناداة الله ﷻ للنبي ﷺ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا﴾ لتشهد على هؤلاء يوم القيامة ﴿وَمُبَشِّرًا﴾ بالخير والنعيم لمن أطاعك ﴿وَنَذِيرًا﴾ أي محذرًا لمن خالف أمر الله مخوفًا له من العذاب ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ﴾ أنت تدعو إلى الله بإذن الله ليس منك، إنما أتيت بهذا بأمر الله ﷻ ﴿وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ والسراج هو الذي يضيء في الظلمة ووصفه هنا بأنه منير لأن بعض السراج لا ينير إذا لم يوقد عليه شيء، فالنبي ﷺ كان سراجًا منيرًا وهذا يدل على ما فضل الله ﷻ به نبيه ﷺ ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ الفضل الكبير في الدنيا والآخرة.
﴿وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ في أول السورة ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ هنا قال ﴿وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾ لا تلتفت ولا تبالي بأذاهم مما يقولونه من قول أو فعل فإنك على الحق ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ فهو يتولى أمورك وسيحفظك وسيعاقب هؤلاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا(52)﴾
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ مع أن هذا الحكم يشمل من تزوج أيضًا بكتابية لأن الكتابية يجوز الزواج بها، فهذا الحكم يشملها أن عليها العدة، لكن نص على المؤمنات من باب الحث على أن المسلم لا يتزوج إلا بمؤمنة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ﴾ يعني عقدتم عقد الزواج ﴿ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ يعني من قبل الدخول والجماع ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ ليس لكم عدة تنتظرون وتحسبون على هذه المرأة ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ عند الطلاق بأي شيء من المال ﴿وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ من غير تأنيب ولا عنف ولا لوم فما مضى يُستر عليه.
فإن هذه الآية تدل على أن من دخل بزوجته أو جامعها إذا دخل بها فعليها العدة، لكن لو خلا بها لم تذكر الآية الخلو لأن بعض الناس قد يعقد على امرأة وإذا به يجتمع بها عند أهلها وهو في مكان خفي لكن ليس معهم أحد يدخل ذلك، ولذلك في الأثر قضى الخلفاء الأربعة أن من أرخى ستره وأغلق بابه فقد وجبت العدة والصداق وكان الصداق كاملًا.
﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ لو طلق الرجل زوجته قبل أن يخلو بها وقبل أن يدخل بها فإن لها أن تتزوج مباشرة، ولذلك قال ﴿ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ أتى بكلمة ثم مع أنها تدل على الزمن الطويل مبينًا أن من طلق زوجته بعد أن عقد عليها فلها أن تتزوج، لو طلقها ثم بقيت مدة من الزمن أيضًا لها أن تتزوج وليس عليها عدة.
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا﴾ يعني أبحنا ﴿أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ وهو المهر فدل هذا على أن المهر أجر وهذا يدل على أن المهر مقابل الاستمتاع بفرج المرأة والاستمتاع بها ﴿وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ يعني أباح الله لك ما ملكت يمينك ﴿مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ﴾ يعني من الفيء الذي يكون في الجهاد مع أنه يباح له لو شرى أمة فلماذا قال: ﴿مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ﴾ لأن مدة التأكد من رحم من تُسبى أكثر ممن تُشترى لأنه إذا سبيت ينتظر بها حيضة تحيض ثم يجامعها ﴿وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ﴾ يجوز الزواج بهن ﴿اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾ هنا قيد لابد أن يهاجرن معك، ولذلك بعض العلماء قال هاجرن معك يعني أسلمن معك، وبعض العلماء يقول وهو الأقرب أن الزواج بمن مضى إنما هو بشرط أن تكون قد هاجرت معك، ولذلك جاء في حديث وإن كان فيه ضعف، لكن يؤيده ظاهر السياق أن أم هانئ لما قيل لها: لمَ لم يتزوج بكِ النبي ﷺ؟ قالت: إني ممن لم أهاجر معه.
﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا﴾ يعني أباح لك هذه المرأة وما يشابهها لأن النبي ﷺ يجوز له أن يتزوج بالمرأة التي تهب نفسها له من غير ولي أمر ومن غير صداق قال: ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ﴾ من غير صداق ﴿إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا﴾ يعني على حسب إرادة النبي ﷺ ولذلك لم يتزوج بها ﷺ وإنما قال رجل يا رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال زوجتكها بما معك من القرآن ﴿خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ هذا يخص النبي ﷺ من خصوصياته ولذلك في أول السورة ماذا قلنا؟ ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ ولم يقل بما تعمل مما يدل على أن الأحكام الموجهة له موجهة للأمة، إلا إذا خص هنا خصص مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ يعني فيما يتعلق بأهل الإيمان من أن الله ﷻ قد أباح لهم أربع نسوة ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ وأيضًا لا يباح لهم أن يتزوجوا امرأة من غير صداق، ﴿قَدْ عَلِمْنَا﴾ هو يعلم من الأزل فلماذا قال ذلك؟ يعني قد علمنا أن هذه أحكام واجبة عليكم وهي لم تُنسخ فواجب عليكم أن تقوموا بها ﴿لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ﴾ يعني يا محمد حتى لا يكون عليك حرج فيما يتعلق بك من أحكام خاصة ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فيما لو أخطأ الإنسان.
﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ﴾ تؤوي يعني تضم و ترجي يعني تؤخر ﴿وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ بعض المفسرين قال: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ﴾ يعني أنك لا ترغب فيمن وهبت نفسها وتضم من تشاء في ذلك وهذا قول يدخل في الآية، لكن الأظهر أن النبي ﷺ ما كان القسم عليه بين زوجاته واجبًا وحتى يطمئن قلبه وتطمئن قلوب زوجاته ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ﴾ يعني من زوجاته ﴿وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ تضم إليك من تشاء ﴿وَمَنِ ابْتَغَيْتَ﴾ يعني طلبت ﴿مِمَّنْ عَزَلْتَ﴾ أي انصرفت عنها يعني القسم ليس واجبًا عليه تأتي إلى هذه في أيام حسب ما تشاء وتلك في أيام حسب ما تشاء ﴿وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ﴾ من أزواجك ﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾ يعني فلا إثم عليك ومع هذا كان ﷺ يقسم بين زوجاته بالعدل مع أنه لم يجب عليه هذا الأمر ﴿ذَلِكَ أَدْنَى﴾ يعني هذا الحكم أنك تقرب وتقسم من تشاء لهن ﴿ذَلِكَ أَدْنَى﴾ يعني أقرب ﴿أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ﴾ يعني زوجاته ﷺ ﴿وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ﴾ من القسمة لأنهن يعلمن أن هذا أمر من الله ﷻ.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ مما يكون من خواطر وما شابه ذلك ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا﴾ فهو عالم بما يدور في الخواطر وعالم بأحوال الناس وهو حليم لا يعاجل بالعقوبة فهو لا يعاجل عبده بالعقوبة إذا أذنب.
﴿لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ لما خيرهن ﷺ فيما مضى من آيات ﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ﴾ قال الله عز وجل للنبي ﷺ ﴿لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ﴾ من بعد هؤلاء الزوجات ﴿وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ﴾ أن تطلق واحدة منهن وتتزوج بأخرى ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ ممن تريد أن تتزوج بها ﴿إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ لأن مملوكة اليمين ليست بزوجة ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ فهو الرقيب الشهيد العالم بكل شيء.
قال بعض المفسرين: ﴿لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ﴾ قال: من بعد راجعة إلى ﴿أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ﴾ الآية.. ولذلك في مسند الإمام أحمد لما سئل أبيّ بن كعب رضي الله عنه فقيل له: لو ماتت كل زوجات النبي ﷺ فهل يتزوج؟ فقال أبيّ: فما يمنعه؟ فقال هذا الآية ﴿لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ﴾ فقال: إنما كان ذلك في نوع من أنواع النساء والمقصود من ذلك الآيات السابقات، لكن هذا الحديث ضعيف.
لكن لو قال قائل: بناء على ماذا؟ لأن السياق يدل على أنه لا يحل ولا يباح له أن يتزوج بامرأة على هؤلاء النسوة اللواتي اخترنه، لكن جاء في مسند الإمام أحمد قالت عائشة رضي الله عنها: ما مات رسول الله ﷺ حتى أباح الله له النساء، فبعض العلماء يقول هذا الحديث ضعيف.
والجمع بين الأدلة قول ابن كثير رحمه الله قال: حرم الله ﷻ عليه أن يتزوج بغير هؤلاء النسوة لكن في آخر حياته أباح له ذلك، لكن مع ذلك لم يتزوج ﷺ عليهن من باب أن تكون المنة من النبي ﷺ على زوجاته أعظم، مع أنه أباح له في آخر حياته مع ذلك لم يتزوج بما سوى هؤلاء النساء.