تفسير سورة الإسراء من الآية (16) إلى ( 33 ) الدرس (158)

تفسير سورة الإسراء من الآية (16) إلى ( 33 ) الدرس (158)

مشاهدات: 553

﴿بسم الله الرحمن الرحيـــــــم﴾

تفسير سورة الإسراء

من آية (16) إلى (33 ) الدرس (162)

لفضيلة الشيخ/ زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله تعالى :

﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ (16)

هنا: الله عز وجل كما مر معنا في سورة الأعراف {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}  فكيف يأمرهم عز وجل بالفسق،  فقال عز وجل هنا: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} فقال بعض العلماء (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) بالطاعة لكن {فَفَسَقُوا فِيهَا} وقال بعض العلماء {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} يعني كثّرنا مترفيها، وليس المقصود هو الأمر الذي يراد منه الأمر الشرعي، وإنما المراد من ذلك التكثير يعني كثرنا كما في الحديث: (خيرُ مال المرء له مُهرة مأمورة)

 مُهرة: وهي من الخيل، مأمورة: يعني من أنها كثيرة النَّتَاج والنسل، وهذا الحديث عند أحمد لكن هو ضعيف، لكن يُستدل به على ما يتعلق بهذا المعنى اللُغوي لأنه من حيث اللغة يكون الأمر بمعنى التكثير.

فإذًا على القول الذي يقول {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} بالطاعة لكن خالفوا {فَفَسَقُوا فِيهَا} لأن الله عز وجل قال كما في سورة الأعراف {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}

وقال بعض المفسرين: إنما الأمر هنا ليس أمرًا شرعيًا، لأن الأمر نوعان ومر معنا ذلك: أمرٌ ديني شرعي يحبه الله عز وجل ويرضاه ولكن قد يقع وقد لا يقع.

 أما الأمر الكوني القدري فهو: يكون واقعًا لا محالة ويكون فيما يحبه الله وفيما لا يحبه الله عز وجل.

 لكنَّ الأمرَ الشرعي فيما يحبه الله عز وجل من الطاعات، أما الأمر القدري فإنه لابد أن يقع، هذا الأمر الكوني وقد يكون فيما يحبه الله وفيما لا يحبه الله.

{َمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} الأمر هنا أمرٌ كوني قدري، يعني: ما وقع من فسق من هؤلاء إنما هو بأمره القدري عز وجل ، وكلا القولين لهما وِجهه، وإن كان القول الذي يقول من أنه أمر كوني يسلم من التقدير فتبقى الآيةُ دون تقدير.

لكن على الرأي الآخر {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} فيه تقدير يعني أمرنا مترفيها بالطاعة.

{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} والمُترف هو: المُتلذذ بنعم هذه الدنيا دون أن يشكرَ الله عز وجل وكما قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}.

{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} فما الذي يجري؟  قال {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} قال {فَحَقَّ} يعني وَجَب مع أنه أتى بصيغة الفعل الماضي لمَ؟ لأن ما أمر الله عز وجل به إذا أراده فإنه سيقع لا محالة فهو متحقق، كما مر معنا في سورة النحل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} فقال هنا {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} أي وجب عليها القول {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} {فَدَمَّرْنَاهَا} يعني أهلكناها تدميرًا، أي تدميرًا محققًا ليس تدميرًا معنوي بل هو تدميرٌ مُحقق فلن يسلم هؤلاء {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.

وهذا يدل على ماذا؟  يدل على خطورة الذنوب في الأرض وانغراق هؤلاء أصحاب الترف في معاصي الله عز وجل، ولذا قال عز وجل كما مر معنا في سورة الأنفال {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} وهذا يدل على أنه لا يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولذا ثبت في الحديث الصحيح قال ﷺ:

 (إن الناسَ إذا رأوا المنكرَ فلم يُغيِّروه أوشك أن يعمَّهم اللهُ بعقابِه).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ (17(

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} {وَكَمْ أَهْلَكْنَا} كَمْ هنا للتكثير دل على أن هناك قرونًا وأمماً قد هلَكت {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ} قرنا بعد قرن {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} “مِنْ” لابتداء الغاية لأن الهلاك أتى من بعد قوم نوح فأهلك الله بعدهم عاد ثم ثمود وهكذا {مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} ودل هذا على أن ما قبل نوح كان الناس على التوحيد كما مر ذِكْره في سورة البقرة {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} وفي سورة يونس {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا}

كما قال ابن عباس رضي الله عنهما:

 (كان بين آدم وبين نوح عشَرة قرون كانوا على التوحيد)

فقال هنا {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} قال {وَكَفَى بِرَبِّكَ} فاللهُ عز وجل قد أحاط بذنوب عباده، فيكفي في إحاطةِ ذنوب العبد من أن الله عز وجل قد أحاط بكل أعمالهم ولذا أكَّد ذلك بالباء {بِرَبِّكَ} {وَكَفَى بِرَبِّكَ} لا بغيره.

{خَبِيرًا بَصِيرًا} قال {خَبِيرًا} ذكر الخبير لأنه حتى في دقائق الأمور الخفية يعلمُها الله عز وجل فهو الخبير العالم بظواهر الأمور وببواطنها وما دَقَّ منها إنه كان بعباده {خَبِيرًا بَصِيرًا} ويبصرهم ويرى أحوالهم وسيجازي كل إنسان بعمله.

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾ (18)

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} يعني الدنيا، دل هذا على أن أولئك المترفين الذين فسقوا في البلاد أرادوا الدنيا وهي عاجلة لأنها تنقضي وتزول، كم عمرك؟ وكم عمري؟  وهكذا كأنها ثوانٍ مرت.

فقال عز وجل {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} الدنيا {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} أي مِن مُتَعِ الدنيا مما قدره الله عز وجل لكن قيد { لِمَنْ نُرِيدُ} ليس لكل أحد، ولذا فإن قوله تعالى في سورة هود كما مر معنا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} ليس لكل أحد، ولربما أن الكافر لا يمتع حتى في هذه الدنيا، فيجتمع عليه الفقران فقر الدنيا وفقر الآخرة، وبعضهم يكون له الغنى في الدنيا لكن يلزمُه الفقر في الآخرة.

{عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا} يقاسي حرَّها {مَذْمُومًا} أي مهانًا ذميمًا مدحورًا، أي مقصى وُمبعد عن رحمة لله عز وجل قال {مَذْمُومًا مَدْحُورًا} دل هذا على أنه لا ينال رحمةَ الله عز وجل أبدًا.

﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ (19)

{وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ} من أراد الدار الطيبة في الآخرة والنعيم في الآخرة {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} دل هذا على أن الإنسان لابد له أن يسعى في العمل الصالح {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} وقيد {وهو مؤمن} لأن العمل الصالح إذا لم يكن على عقيدة فإنه لا خيرَ فيه {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} فأولئك من سعى للآخرة سعيها وهو مؤمن فسعيُهم يكون مشكورًا.

{فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} يشكر الله عز وجل سعيهم وعملهم، فهو شاكر عز وجل فسعيهم يكون مشكورًا، وذلك بأنه عز وجل يقبل منهم هذا السعي القليل ويثيبهم على العمل الكثير، ولذا ثبت في الحديث الصحيح قولُه ﷺ: (مَرَّ رَجُلٌ بغُصنِ شَوكٍ، فنَحَّاهُ عن الطَّريقِ فشكَرَ اللهُ له فغفر له) بهذا الفعل القليل، فالله عز وجل يشكر سعيهم ويزيدهم على هذا العمل ويزيدهم خيرات في الآخرة.

﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ (20(

{كُلًّا} من أهل الإيمان ومن أهل الكفر { نُمِدُّ} يعني نعطي ونزيد {نُمِدُّ هَؤُلاءِ } يعني الكفار الذين يريدون العاجلة.

 {وهؤلاء }: وهم أهل الإيمان الذين سَعَوا للآخرة {مِنْ عَطَاءُ رَبِّكَ} فرزق الله عز وجل في الدنيا للجميع، فالله عز وجل يعطي العبادَ الكافر والمؤمن، يُعطيهم الأرزاق حسبما قدره عز وجل {مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} قال {مِنْ عَطَاءُ رَبِّكَ} لأنه هو الرب المالك المتصرف الذي يربي عباده بنعمه فهو يعافيهم ويرزقهم، فقال هنا {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}  يعني: ممنوعًا من أحد، فكل الخلق رزقهم على الله عز وجل ولا يمنعه أحد.

﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [21]

{انْظُرْ} نظر تأمل وتدبر {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} يعني: في هذه الدنيا من حيث الأرزاق، من حيث المناصب، من حيث الأموال، من حيث الأولاد.

{انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} فهذا محلُّ اعتبار، قال: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}، {أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ} بمعنى: أنَّ أهلَ الجنة في درجات تختلفُ أحوالُهم كما قال ﷺ في الحديث الصحيح: (إنَّ في الجنَّةِ مائةَ درجةٍ) فكل إنسان له ما يناسبه من الدرجة في الجنة بحسب عملِهِ، وكذلك ما يكونُ للكفار في النار من الدركات كلٌّ بحسَبِ عمله.

 {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} ففيها تفضيلٌ لأهل الإيمان، يفضل الله عز وجل بعضَهم على بعض على حسَبِ أعمالِهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا﴾ (22(

ثم قال {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} وهنا خطابُ للإنسان من أنه يُنهى الشرك بالله قال {فَتَقْعُدَ} منصوب بعد الفاء لأنه سبقه نهي {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا} يعني: ذميمًا تُذم على فعلك {مَخْذُولًا} أي لا ناصرَ لك ولا معين، دل هذا على أنه يكون المشرك يكون مذمومًا ويكون مخذولًا لا ناصرَ له بل يكون في عجز وفي خَوَرٍ وفي هوان، لأنه قال {فَتَقْعُد} والقاعد يدل على عجزه.

 

﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ (23(

{وَقَضَى } يعني: أمر ووصى، والقضاءُ نوعان: قضاءٌ شرعي، وقضاءٌ قدري. قضاء شرعي كما هنا {وَقَضَى رَبُّكَ} والقضاء الشرعي: يحبه الله عز وجل ويرضاه كما في هذه الآية ولكن لا يلزم أن يقع، فبعضُ الناس أشرك بالله وبعض الناس لم يُحسن إلى والديه.

وأما القضاء الكوني القدري: فلابد أن يقع سواء كان يحبه الله أو لا يحبه الله كما مر معنا في أول السورة {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} فدل هذا على أن الأمر الكوني القدري والشرعي والديني، وكذلك القضاء الكوني القدري والقضاء الشرعي والديني يجتمعان في المؤمن، فالمؤمن حينما يعبد الله عز وجل فإنه قد قضى الله عز وجل له قضاءً شرعيًا فعبد الله وأيضًا تلك العبادة التي وقعت منه لا يمكن أن تقع منه إلا بقضائه عز وجل الكوني وإلا فالعبد ضعيف.

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} قال {رَبُّكَ} من باب أن يبين أن من أقر بتوحيد الربوبية فيلزمه أن يعبد الله عز وجل وحده وألا يصرف العبادة لغيره {وَقَضَى رَبُّكَ} ألا {أن} هنا للتفسير تفسيرية {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} حصر ذلك: أنَّ العبودية لا تكون إلا له عز وجل.

{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} يعني: ووصى بالوالدين إحسانًا، وقد مر معنا ما يتعلق بالإحسان وبأنواعه وما يتعلق به في قوله تعالى في سورة النساء: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.

{إِمَّا يَبْلُغَنَّ} يعني: يصل به هذين الوالدين الكبر عندك {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ} {عِنْدَكَ} العندية تدل على ماذا؟  تدل على أن هذين الوالدين أو أن أحدهما ملازمٌ لك لن تنفكَّ عنه مما يدل على حاجة هذا الوالد أو تلك الوالدة.

قال هنا {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} وذكر الكبر لأن حاجة الكبير حاجة مُلِحَّة لأنه ليس في قوة شبابه فهو محتاجٌ إلى أولاده قال {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} بمعنى أنه قد يكون {أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} عندك {أحدهما أو كلاهما فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} كلمة أف تدل على التضجر مما يدل على أنك لا تتأفف بأي شيء تراه منهما أو من أحدهما مما هو مُستقذر أو من كلام قاله أحدهما، أو من فعل فعله أحدهما.

{ فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}  ومن ثَم فإنه إذا نهي عن كلمة أف إذًا ما كان أعلى منه مما هو سيء من باب أولى أن يُنهى عنه فينهي من باب الأولوية عن الضرب وما شابه ذلك.

{وَلا تَنْهَرْهُمَا} يعني لا تزجرهما ولا تنهرهما وقال بعدها:

{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} القولُ الكريم الذي به تطمئن نفوس الوالدين، القول الكريم يُدخِل السرور عليهما ويُدخِل البهجة عليهما.

{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} ويدل هذا على أن الابن والبنت أيضًا: يتجنبان أن يقولا شيئا مما يسوؤهما مما يتعلق بشيء أصاب الولد، فإنَّ بعض الأولاد أو بعض البنات ربما يذهب إلى والديه أو إلى أحدهما فيقول: لم أوفق في زواجي أو لم تربح تجارتي أو خَسِرتُ أو ما شابه ذلك!

 فهم ضعفاء، ففي هذه الحال عليك أن تجتنب كل كلام قد يدخل الهم والحزن عليهما بل {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} لمَ؟ لأنهما بحاجةٍ إليه.

 

 

 

﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ (24(

{وَاخْفِضْ لَهُمَا} يعني ألِنْ جانبَك لهما لأجل الرحمة بهما {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} أي الجناح الذليل يدل على التواضع، وهذا أسلوب من أساليب اللغة العربية كما أن الطير إذا أراد ألا يصعد إلى السماء أعلى فإنه يخفض جناحه، وكذلك إذا أتى إلى فراخه فإنه يحنو عليهم بجناحِهِ {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} من أجل الرحمة بهما.

{وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا} ادعُ الله لهما بالرحمة، {كَمَا} أي مثلما {رَبَّيَانِي صَغِيرًا} فتتذكر حالك حال الصغر فإنهما يتعبان من أجلك بل كل عمل قام به أحدُهما وأنت صغير فهما لا يتأففان بل إنهما يفعلان ما يفعلان ويريان ما يريان منك من القذارة وما شابه ذلك، ومع ذلك لا يتأففان بل إنهما يحرِصان على أن يُدخلا السرور على قلبك ويريدان مصلحتك؛

فهنا قد ذهبت قوتُهما وذهب ما يتعلق باستمتاعهما في هذه الدنيا، وبمتع الدنيا من أجلك، فتجد أن الأبوين في همٍ دائم ومستمر يتتبعان أخبار الأولاد فهل وُفقوا أم أنهم لم يوفقوا؟ هل هو معافى أو أنه مريض؟ أو ما شابه ذلك؛ فهما يرعيانك في تلك المرحلة من العمر.

فإذا وصلا إلى هذه الحالة حالة الكبر فتذكر أنهما بذلا أعظم ما بذله من الوقت ومن الراحة من أجلك، ومن ثَم فإن عليك ألا تنظر إلى ما هو أمامك وتنسى ما مضى من حالك، لأن الأولاد إذا تزوجوا نسوا ما فعله الآباء والأمهات والتفتوا إلى الزوجات وإلى ما يتعلق بهم ولربما أنه ينسى هذا الأمر!

 فتذكَّر من بذل مالَه وجُهدَه ووقته ومتابعته من أجلك، فهذا هو جزاؤهما أن تجازيهما بالرفق والإحسان وبالقول الطيب.

ولذا قال عز وجل هنا: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} فتذكر حالك فيما مضى وهما معك في تلك الحال قدَّما لك ما قدما، فدل هذا على ماذا على أن الولد لو بذل ما بذل فإنه لن يوفي حق والديه ومن ثَم فإنه عليه أن يستحضر ما كان من فعلٍ من أبويه، والموفق من وفقه الله والمُعان من أعانه الله والمسدد من سدده الله عز وجل.

﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾ (25)

{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} أي ما تُضمِره نفوسكم من فعل خير أو من فعل شر {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} أي: من رجع إليه فالأواب هو من رجع وتاب وأناب إلى الله، {فإنه كان للأوابين غفورًا} وذلك لأن العبد ربما يقع منه ما يقع من ذنبٍ تجاه والديه.

فقال هنا: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} فأصلحتم ما كان مما مضى منكم من عقوق للوالدين فإن الله عز وجل كما ذكر هنا {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا}

ويدخل في ذلك أيضًا: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} تريدون البر بالأب أو تريدون البر بالأم، لكنَّ بعضَ الآباء وبعض الأمهات قد يكون لها ما يكون لها وهذه طائفةٌ قد تكون شاذة، وإلا فإن الفطرةَ تقتضي أن الوالدين يحبان الأبناء ويقبلان ما يكون من الأولاد من بر هذا من حيث الفطرة، حتى فيما يكون بين الدواب فإن الدابة ترفع رجلها خيفةً من أن تصيبَ ولدها، فدل هذا على أنه ربما من جنس الآباء أو الأمهات وهم حالة شاذة يريد الابن أو تريد البنت أن تبر بوالديها أو بأحدهما لكنهما يرفضان ذلك ولا يريدان ذلك، كُرهًا لهذا الشخص لهذه البنت لهذا الولد أو ما شابه ذلك، فإن الله –عز وجل-إذا علم منهم الصلاح وأراد البر لكنه مُنع من ذلك بسبب ما كان من قسوةٍ في قَلبَي والديه فإنه كما قال تعالى:

﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾

لما ذكر ما يتعلق ببر والديه ذكر حقَّ الأرحام:

 

﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)﴾

{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} آتِ: يعني أعطِ، ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ: من الصلة بشتى أنواعها من مال ومن زيارة ومن مهاتفة وما شابه ذلك.

{وَالْمِسْكِينَ} يعني الفقير، {وَابْنَ السَّبِيلِ} وهو المسافر.

{وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} والتبذير: هو صرفُ المال في غير وجهه الشرعي بحيث يصرف في محرمُ أو أنه يُبذَّر في شيءٍ مباح مجاوزةً للحد.

{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} يعني: مثل الشياطين، وذلك لأن الشيطانَ يحبُّ تبذيرَ الأموال، ويُحِبُّ صَرفها فيما حَرَّمَ الله؛ أو يريد أن تذهبَ هذه الأموال عن الناس فقال –عز وجل-: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} يعني: أمثالَهم وأشباهَهم وهذا فيه التنفيرُ من التبذير والإسراف.

{وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} الشيطان كَفَرَ بالله عز وجل، كما كفر الشيطانُ بنعمة الله عز وجل، كذلك التحذير من التبذير لأنه كفرٌ بالنعمة، نعمةٌ أعطاها الله عز وجل إياك فصرفتها في مُحَرَّم، أو صرفتَ أموالا طائلةً فيما لا طائلَ من ورائه فإنك تكونُ مُشابهًا للشيطان في مثل هذا الأمر {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}.

﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا﴾ (28)

{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} يعني وإما تصرفنَّ عنهم من أنك لا تجد مالًا حتى تعطي هؤلاء الأقرباء أو هؤلاء المساكين أو ابن السبيل.

{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} الإعراض هنا: هو الانصراف لعدم وجود المال لديك، وليس كإعراض أهل الأموال الطائلة الذين يحتقرون الفقراء لا.

{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} يعني طلب، {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} بأن يعطيك الله من رحمته مما يَفيض عليك من الرزق.

{تَرْجُوهَا} أي: ترجو الله أن يعطيك هذا الخير، وهذا يدل على ماذا؟ على أن العبد متى ما كان في حالةٍ مُدقعة من فقرٍ فإنه يسأل الله عز وجل، وأيضا يكون رجاؤه بالله عظيمًا؛ {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} أي قل لهم القول الميسور الحسن بأن تقول ليس عندي شيء، أو بمعنى: أنه إذا رزقني الله عز وجل سأعطيكم ولن أبخل.

ومن ثَم فإن قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} إذا لم تجد أن تعطي قريبَك أو الفقير فهنا عليك أن تقول الكلام الحسن.

﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ (33)

ووضع اليد إلى العنق مغلولة يدل على عدم سَعةِ التصرف، بمعنى أنه لا يستطيع لها حِراكا فهو محبوس.

وهذا حالُ مَن؟ حلُ البخيل {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} ولذا قالت اليهود كما مر معنا -عليهم من الله ما يستحقون – {يد الله مغلولة} بمعنى أنهم يقولون: إنه لا يُنفِقُ علينا.

فقال عز وجل {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} فإذا بسط الإنسان كل ما في يديه فإنه لا يبقى في يديه شيء، دل هذا على أنه إذا أنفق ينفق باقتصاد {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} ولذا من صفات عباد الرحمن كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

لكن لو قال قائل: أبو بكر –رضي الله عنه- أنفق ماله كله؟

 فالجواب عن هذا: من أن من كانت حالُه كحالةِ أبي بكر –رضي الله عنه- من قوة الإيمان والتوكل على الله عز وجل فأنفق مالَه، ثم لما أنفق ماله ذهب يبحثُ عن الرزق، فهنا لا إشكالَ في ذلك، مع أن الأفضل فيما يتعلقُ بآحاد الناس من أنهم إذا أنفقوا بمعنى أنهم يكونون متوسطي الإنفاق {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]

 فقال –عز وجل-: { فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} ملوم: يعني تُلام ملومًا ترجع إلى {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} لأنك إذا بخِلت وأمسكت المال لامك الناس، {مَحْسُورًا} يعني: تكونُ منقطعًا، بمعنى: أن مالك يذهب فتكون كحالة المحسور الممنوع الذي لا شيء عنده، وكلمة {مَحْسُورًا} تعود إلى قوله: {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}.

﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ (30)

مع هذا كله من أنفق أو بَخِلَ فإن كل ذلك إنما هو بتدبير من الله عز وجل فليس الإنفاقُ سبيلًا إلى الفقر، وليس البخلُ مُوصِلًا إلى الغنى، لمَ؟

لأن الذي يبسُطُ الرزق يوسعه على من يشاء، وكذلك يقلل الرزق على من يشاء هو الله عز وجل {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} يعني أنه يُضيق عليه الرزق {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} هو خبيرٌ عز وجل بأحوالهم الظاهرة والباطنة، وبصير يبصر أحوالهم وأعمالهم.

دل هذا على أنه هو خبير بصير يعلم عز وجل أن هذا يصلحه الغنى بسط الرزق، وذاك يصلحه الفقر، فهو إنما:

 إذا بسط الرزق فلحكمةٍ منه عز وجل

 إذا قتَّر الرزق فلحكمة منه عز وجل. {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}

 

 

 

﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ (31)

{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} نهيٌ عن قتل الأولاد، خَشْيَةَ إِمْلاقٍ خيفة فقر

وقد مر معنا في سورة الأنعام قوله عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}  هنا قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} فلماذا التقديمُ والتأخير؟ مرَّ هذا مُفصلًا في سورة الأنعام.

{إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} إن قتل هؤلاء الأولاد كَانَ خِطْئًا: يعني ذنبًا كبيرًا.

﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ (32)

{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} لم يقل ولا تزنوا، نهى عن قُرب الزنا مما يكون من تقبيل أو ضم أو نظر أو ما شابه ذلك.

{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} ومن ثَم فإنه في الغالب من أن الذنبَ إذا كانت النفس تميل إلى ما هو أعظمُ منه، فإنه يأتي النهي عن القُرب كالزنا وكما قال عز وجل عن المال: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الأنعام: 152].

لكن فيما يتعلق بذنبٍ ليس للنفس فيه ميلٌ إلى شيءٍ آخَر كالقتل مثلا، فيكون النهي عن هذا الشيء مباشرةً لم؟ لأن القتل ليس فيه بعد ذلك ليس فيه ما يكون من ميول للنفس، بل إن بعضَهم قد يقدم على القتل وقلبه مترددٌ بين الإقدام وبين الإحجام.

{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً}: إِنَّهُ: أي الزنا، كَانَ فَاحِشَةً: أي ما استُقبح وفَحُشَ.

{ وَسَاءَ سَبِيلًا} أي وساء طريقًا، لمَ ساء سبيلًا؟

لأن الزنا إذا انتشر في المجتمع ما الذي يحصل؟ تختلط الأنساب، أيضًا لا تكون هناك مودة بين الأزواج، فإن المرأة إذا كانت عاهرةً فإنه لا يتحقق من ذلك ما يكون بين الزوجين من المودة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].

وليس المقصد فقط هو إشباع الإنسان لغريزة الجماع، وإنما فيه مصالح وأيضًا يكونُ ما يكون من كثرة الأمراض وما شابه ذلك ويتفكك المجتمع، ويصبح المجتمع كأنه مجتمعٌ حيوانيّ ولذا قال: {وَسَاءَ سَبِيلًا} وسوءُ السبيل فيما يتعلق بالزنا كثير لو تحدثنا عنه أكثر وأكثر.

ومن ثَم فإن الله عز وجل قال لما ذكر في سورة النساء كما مر معنا {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22] زاد هناك مقتًا، وقد بينا ما يتعلق بذلك في سورة النساء.

﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ (33)

{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} نهيٌ عن قتل النفس بجميع أنواعها لما ذكر النهي عن قتل الأولاد، لم؟ لأنهم كانوا يقتلون الأولاد خيفة من الفقر، وكانوا يقتلون البنات للأمرين: خيفةً من الفقر وخيفةً من العار، فذكر هنا على وجه العموم النهي عن قتل أي نفس.

{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} يعني التي حرم الله قتلها

{إِلَّا بِالْحَقِّ} أي بسبب حق، وذلك كأن يقتل شخصٌ شخصاً فإنه يُقتل به، ولذا ثبت بالحديث الصحيح قوله ﷺ قال: «لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بإحْدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، والنَّفْسُ بالنَّفْسِ، والتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفارِقُ لِلْجَماعَة».

{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} {لوليه} يعني: الوراث له، {سلطاناً} يعني حُجة له، وهذا يدل على أن الوارث لمن قُتِل له قتيل له سلطانٌ على القاتل إما بقتله، وإما بأخذ الدية، وإما بالعفو عنه.

{فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} بمعنى أن هذا الوارث لهذا المقتول لا يُسرف في القتل، كيف؟ بمعنى أنه إذا قتله مثَّلَ به، أو أنه إذا قتله شخصٌ من قبيلة قتل بهذا القتيل قتل به اثنين أو ثلاثة.

فقال هنا: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا}

قوله: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} دل هذا على ما ذكره العلماء أن الذي قتل له قتيل له أن يقتصَّ بنفسه من هذا القاتل تحت إشراف ولي أمر المسلمين، يعني يتولى قتله بنفسه إذا كان يُحسِنُ القتل لكن إذا كان لا يحسن، أو أتى التنظيم كما هو معروف في البلاد من أن الذي يقوم بذلك الدولة، فيكونُ لأمر الدولة.

فقال هنا: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } بخلاف الحدود، الحدود لا يقيمها إلا السلطان وكذلك هذا القتل قتل العمد لا يُقامُ إلا بطريق السلطان أو تحت إشراف السلطان.

{إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} يعني هو منصور على هذا القاتل وذلك إما بقتله أو بأخذ الدية.

فقوله عز وجل: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}: فقد جعلنا لولي المقتول سلطانًا {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}.

وللحديث تتمة إن شاء الله وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.