﴿بسم الله الرحمن الرحيـــــــم﴾
تفسير سورة الإسراء
من الآية ( 58 ) إلى ( 77 )
الدرس (160)
لفضيلة الشيخ/ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى :
﴿وَإِن مِن قَريَةٍ إِلّا نَحنُ مُهلِكوها قَبلَ يَومِ القِيامَةِ أَو مُعَذِّبوها عَذابًا شَديدًا كانَ ذلِكَ فِي الكِتابِ مَسطورً﴾ (58)
{وَإِن مِن قَريَةٍ إِلّا نَحنُ مُهلِكوها قَبلَ يَومِ القِيامَةِ أَو مُعَذِّبوها عَذابًا شَديدًا} فدل هذا على أنه ما من قرية قبل قيام الساعة إلا وهي بين هلاك وبين تعذيب، ولذا قال بعض العلماء: الهلاك للقرية المؤمنة لأنها ستموت، وأما التعذيبُ فإنه يكون للقرية الكافرة.
وقال بعض العلماء: بل إن هذه الآية إنما هي في سياق الكفار، فالقرى الكافرة إما أن يهلكها الله عزوجل وإما أن يعذبها ولذلك قال عزوجل: {وَما كُنّا مُهلِكِي القُرى إِلّا وَأَهلُها ظالِمونَ}
فدل هذا على: أن هذا القول هو الأقرب – والعلم عند الله:
أنَّ الهلاك والتعذيب يكون للقرى الكافرة.
فقال عزوجل: {كانَ ذلِكَ} أي: كان ذلك مما ذُكِر من هلاك وتعذيب هؤلاء {فِي الكِتابِ} أي في اللوح المحفوظ، {مَسطورًا} بمعنى أنه مكتوب.
﴿وَما مَنَعَنا أَن نُرسِلَ بِالآياتِ إِلّا أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلونَ وَآتَينا ثَمودَ النّاقَةَ مُبصِرَةً فَظَلَموا بِها وَما نُرسِلُ بِالآياتِ إِلّا تَخويفًا﴾ (59)
{وَما مَنَعَنا أَن نُرسِلَ بِالآياتِ} أي التي اقترحها كفارُ قريش مما اقترحوه كناقة صالح وعصا موسى {إِلّا أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلونَ } فلما كذب بها الأولون لأن سنة الله عزوجل إذا أنزل الآية التي اقترحوها فلم يؤمنوا أهلكهم الله عزوجل، وفي هذا رحمةٌ من الله عزوجل لهؤلاء فلم يُنْزل عليهم ما يقترحونه، وأيضًا رحمة الله عزوجل بنبيه محمد ﷺ كما قال تعالى : { وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم وَأَنتَ فيهِم } ولذلك هو ﷺ كما ثبت في الصحيح لما أتاه ملَك الجبال وقال إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين – وهما الجبلان المحيطان بمكة – فقال : لا بل أرجو أن يُخرِجَ الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا .
{وَآتَينا ثَمودَ النّاقَةَ مُبصِرَةً} بمعنى أنه ذَكَر عز وجل هنا آية تدل على ما اقترحه قوم صالح فلما عقروها عاقبهم الله عز وجل – فكذبوا بها – فقال عز وجل {وَآتَينا ثَمودَ النّاقَةَ مُبصِرَةً} مُبصِرَةً: بمعنى أنها آية واضحة وبيِّنة يُبصر بها العقلاء من أن هذا النبي وهو صالح من أنه صادق؛ {فَظَلَموا بِها} بمعنى أنهم عقروها {وَما نُرسِلُ بِالآياتِ إِلّا تَخويفًا} بمعنى أنه عز وجل يُرسل الآيات من أجل أن يُخَوِّف هؤلاء {وَما نُرسِلُ بِالآياتِ إِلّا تَخويفًا} لعل هؤلاء ينزجرون.
﴿وَإِذ قُلنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنّاسِ وَما جَعَلنَا الرُّؤيَا الَّتي أَرَيناكَ إِلّا فِتنَةً لِلنّاسِ وَالشَّجَرَةَ المَلعونَةَ فِي القُرآنِ وَنُخَوِّفُهُم فَما يَزيدُهُم إِلّا طُغيانًا كَبيرًا﴾ (60)
{وَإِذ قُلنا لَكَ} يا محمد {إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنّاسِ} أحاط بهم علمًا وقدرةً وما شابه ذلك، فأنت محفوظٌ ومعصومٌ والله عز وجل يعصمك منهم فالله حافظك، لأن الله عز وجل قد أحاط بهم علمًا
{وَما جَعَلنَا الرُّؤيَا الَّتي أَرَيناكَ إِلّا فِتنَةً لِلنّاسِ} بمعنى أن تلك الرؤيا التي كما مرَّ معنا في أول السورة وهو ما رآه عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء والمعراج لما أخبرهم، فهناك من آمن به ﷺ وصدَّقَهُ، وهناك من كفر به، وهناك من هو ضعيف الإيمان فارتد عن ذلك.
{وَما جَعَلنَا الرُّؤيَا الَّتي أَرَيناكَ إِلّا فِتنَةً لِلنّاسِ} وهنا الرؤيا: رؤيا اليقظة، التي كما مرَّ معنا في أول السورة وليست رؤيا منام، وإلا لو كانت رؤيا منام لما جرى ما جرى من فتنة كما قال عز وجل هنا: { وَما جَعَلنَا الرُّؤيَا الَّتي أَرَيناكَ إِلّا فِتنَةً لِلنّاسِ وَالشَّجَرَةَ المَلعونَةَ فِي القُرآنِ}
بمعنى/ أن الشجرة الملعونة في القران، وهي: شجرة الزقوم ولذلك لما أخبرهم ﷺ كما ذَكَر عز وجل: { إِنَّها شَجَرَةٌ تَخرُجُ في أَصلِ الجَحيمِ ( 64) طَلعُها كَأَنَّهُ رُءوسُ الشَّياطينِ} هنا صارت فتنة، حتى إن أبا جهل قال: إن محمدًا يزعُمُ أن شجرة تنبت في النار، وقال : لتأتوا إليَّ بِزُبْدٍ وتمر فجعل يأكل من هذا بهذا وقال: تَزَقَّمُوا فما أرى الزقوم إلا هذا.
{وَالشَّجَرَةَ المَلعونَةَ فِي القُرآنِ} وهي ملعونة باعتبار ما بها مما يكون من عذابٍ شديدٍ، وما ذكر ﷺ عن شدة عذابها كما ثبت عند الترمذي:
(لو أن قطرة من الزقوم قطّرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم) فهي ملعونة وخبيثةٌ، فتكون لمن هو ملعون وخبيث من هؤلاء.
{وَنُخَوِّفُهُم فَما يَزيدُهُم إِلّا طُغيانًا كَبيرًا} ونخوفهم: يخوفهم بما يذكره عز وجل من الآيات، كما مرَّ في الآية السابقة {وَما نُرسِلُ بِالآياتِ إِلّا تَخويفًا}
{فَما يَزيدُهُم إِلّا طُغيانًا كَبيرًا} إلا طغيانًا وتجاوزًا للحد، بل هو طغيانٌ كبير كما قال عز وجل عن أهل الكتاب: {وَلَيَزيدَنَّ كَثيرًا مِنهُم ما أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ طُغيانًا وَكُفرًا}.
﴿وَإِذ قُلنا لِلمَلائِكَةِ اسجُدوا لِآدَمَ فَسَجَدوا إِلّا إِبليسَ قالَ أَأَسجُدُ لِمَن خَلَقتَ طينًا﴾ (61)
{وَإِذ قُلنا لِلمَلائِكَةِ اسجُدوا لِآدَمَ فَسَجَدوا إِلّا إِبليسَ قالَ أَأَسجُدُ} وهذا استفهام منه على وجه الاستعظام منه والتكبر {قالَ أَأَسجُدُ لِمَن خَلَقتَ طينًا} يعني: آدم، وقد مر معنا ما يتعلق بذلك مفصلًا في سورتي البقرة والأعراف.
﴿قالَ أَرَأَيتَكَ هذَا الَّذي كَرَّمتَ عَلَيَّ لَئِن أَخَّرتَنِ إِلى يَومِ القِيامَةِ لَأَحتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلّا قَليلًا﴾ (62)
{قالَ أَرَأَيتَكَ} والكاف أُتِي بها من باب التأكيد {قالَ أَرَأَيتَكَ هذَا الَّذي كَرَّمتَ عَلَيَّ لَئِن} بمعنى أنك كرمت آدم وذلك بأن أمرت الملائكة بالسجود له وأمرتني بالسجود له { قالَ أَرَأَيتَكَ هذَا الَّذي كَرَّمتَ عَلَيَّ لَئِن أَخَّرتَنِ إِلى يَومِ القِيامَةِ لَأَحتَنِكَنَّ } أي : لأستأصِلَنَّ { ذُرِّيَّتَهُ إِلّا قَليلًا} والقليل مرَّ معنا في سورة الحِجر { إِلّا عِبادَكَ مِنهُمُ المُخلَصينَ } – { إِنَّ عِبادي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطانٌ إِلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغاوينَ } وقال:
{ لَئِن أَخَّرتَنِ إِلى يَومِ القِيامَةِ } وأراد أن لا يموت مِن ضمن مَن يموت ، لكن قال عز وجل كما مر معنا { قالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرينَ – إِلى يَومِ الوَقتِ المَعلومِ } أي إلى النفخة الأولى فتُصعق مع من يُصعق في وقت وزمن النفخة الأولى.
﴿قالَ اذهَب فَمَن تَبِعَكَ مِنهُم فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُم جَزاءً مَوفورًا﴾ (63)
{قالَ اذهَب} وهذا فيه الترهيب، الترهيب للشيطان {قالَ اذهَب فَمَن تَبِعَكَ مِنهُم فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُم جَزاءً مَوفورًا} أي: كاملًا مُتَممًا، ولذا قال عز وجل: {لَأَملَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنهُم أَجمَعينَ}.
﴿وَاستَفزِز مَنِ استَطَعتَ مِنهُم بِصَوتِكَ وَأَجلِب عَلَيهِم بِخَيلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكهُم فِي الأَموالِ وَالأَولادِ وَعِدهُم وَما يَعِدُهُمُ الشَّيطانُ إِلّا غُرورًا﴾ (64)
{وَاستَفزِز} يعني استَخِفّ {وَاستَفزِز} ويتضمن الأمر منك لهؤلاء على وجه الاستخفاف بهم {بِصَوتِكَ}: بمعنى بكل صوتٍ يكون منك للإغواء، من سماع المحرمات وما شابه ذلك مما يدعو به الشيطان عن طريق الصوت.
{وَأَجلِب عَلَيهِم} وَأَجلِب: الجلْب وهو رفع الصوت {بِخَيلِكَ} الخيل
{وَرَجِلِكَ} يعني من هو راجِل: يمشي على قدميه؛ بمعنى أنك تحُث جنودَك من الخيَّالة، وممن يمشي على الأرجل.
{ وَأَجلِب عَلَيهِم بِخَيلِكَ وَرَجِلِكَ } بمعنى : أن في هذا بيان أن الله عز وجل أذِن له على وجه التهديد له، وعلى وجه الابتلاء للبشر، من أن الشيطان له طُرُقٌ لإغواء ابن آدم عن طريق الصوت، وعن طريق جنوده من الخيَّالةِ ومن يمشي على الأرجل.
{وَشارِكهُم فِي الأَموالِ } فيما يتعلق بحثهم على الأكل المُحَرّم من الربا وما شابه ذلك من أنواع المحرمات، وحتى فيما يتعلقُ بتحريم بعض الأنعام وبإباحة بعض الأنعام.
قال { وَشارِكهُم فِي الأَموالِ وَالأَولادِ } معنى ذلك أنك تشاركهم في الأولاد وذلك عن طريق تزيين الزنا لهم، وكذلك ما يكون من جَعْلِ ابن آدم ينسى الدعاء الذي يكون عند الجماع كما قال ﷺ: ( إذا أتى أحدكم امرأته فليقل بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن قُدِّر بينهما ولد لم يضره الشيطان) فقال هنا { وَشارِكهُم فِي الأَموالِ وَالأَولادِ } ويدخل فيه مشاركته في الأولاد وذلك: بأن يسموا أولادَهم بأسماءٍ غير شرعية: كعبد النب ، أو عبد اللات وما شابه ذلك.
{وَعِدهُم} بمعنى أنك تُزَيِّن لهم في هذه الدنيا {وَما يَعِدُهُمُ الشَّيطانُ إِلّا غُرورًا} يظنون أنهم يلبثون في هذه الدنيا وأنهم يستمتعون بها وإنما هذا الوعد منه إنما هو غرور؛ بعدها يكون المآلُ إلى العذاب.
﴿إِنَّ عِبادي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكيلًا﴾ (65)
{إِنَّ عِبادي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطانٌ} ليس لك عليهم حُجة ولا تسلُّط {وَكَفى بِرَبِّكَ وَكيلًا} كفى بالله عز وجل وكيلًا: حافظٌ لعباده المؤمنين؛ من التجأ إلى الله عز وجل واعتصم به من الشيطان فالله عز وجل وكيلُه.
﴿رَبُّكُمُ الَّذي يُزجي لَكُمُ الفُلكَ فِي البَحرِ لِتَبتَغوا مِن فَضلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُم رَحيمًا﴾ (66)
{رَبُّكُمُ الَّذي يُزجي لَكُمُ الفُلكَ} يزجي: يعني يسوق، الفُلك: السُّفُن
{ فِي البَحرِ} دلَّ هذا على أنه عز وجل سخَّر البحر كما مرَّ معنا في سورة إبراهيم، وكل ذلك يدل على عَظَمة الله عز وجل {لِتَبتَغوا مِن فَضلِهِ } لِتطلبوا من فضله { إِنَّهُ كانَ بِكُم رَحيمًا } فهو رحيمٌ بكم لأنكم محتاجون إلى التنقل عبر البحار، وإلا فلو أتيتم بما أتيتم من القوى حتى تُحركوا هذه السُّفُن في البحار لما استطعتم ولذا قال عز وجل: { وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ(34)} الشورى
﴿وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحرِ ضَلَّ مَن تَدعونَ إِلّا إِيّاهُ فَلَمّا نَجّاكُم إِلَى البَرِّ أَعرَضتُم وَكانَ الإِنسانُ كَفورًا﴾ (67)
{وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحرِ} بيَّن هنا من أن حال هؤلاء عند نزول الشدائد في البحر فإنهم يدعون الله عز وجل ويخلصون له الدعاء، وقد مر معنا ذلك مفصلًا في سورة الأنعام وفي سورة يونس ولذا قال تعالى: {فَإِذا رَكِبوا فِي الفُلكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخلِصينَ لَهُ الدّينَ فَلَمّا نَجّاهُم إِلَى البَرِّ إِذا هُم يُشرِكونَ} فقال هنا: {وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحرِ ضَلَّ} أي غاب {ضَلَّ مَن تَدعونَ إِلّا إِيّاهُ} يعني من أن تلك الأصنام تغيب عن بالكم وعن أحوالكم.
حتى قال بعض المفسرين: إذا أتى الضر في البحر أخذوا بأصنامهم وقذفوها في البحر والتجؤوا إلى الله عز وجل وحده فقال هنا { ضَلَّ مَن تَدعونَ إِلّا إِيّاهُ } دل هذا على إخلاصهم حال الشدائد لكن في حال اليسر وفي حال السراء يُشركون مع الله عز وجل { ضَلَّ مَن تَدعونَ إِلّا إِيّاهُ فَلَمّا نَجّاكُم إِلَى البَرِّ أَعرَضتُم } أين ذلكم الإخلاص في الدعاء! { أَعرَضتُم وَكانَ الإِنسانُ كَفورًا } لأن هؤلاء لمَّا أنعم الله عليهم بالنجاة كفروا به لمَّا نجَّاهم إلى البر.
﴿أَفَأَمِنتُم أَن يَخسِفَ بِكُم جانِبَ البَرِّ أَو يُرسِلَ عَلَيكُم حاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدوا لَكُم وَكيلًا﴾ (68)
{أَفَأَمِنتُم أَن يَخسِفَ بِكُم} الخسف: وهو السقوط في قاع الأرض {جانِبَ البَرِّ} جانب: يعني جهة البر، دل هذا على أن الأرض لها جانبان: جانبُ البحر وجانبُ البر، فأنتم في جانب البحر لما أتاكم الضر فنجَّاكم الله وأتيتم إلى جانب البر أعرضتم وكفرتم.
فقال هنا {أَفَأَمِنتُم} يعني هل تأمنون من عذاب الله عز وجل، أن ينزل بكم عذابه في البر {أَو يُرسِلَ عَلَيكُم حاصِبًا} بمعنى: الحصباء وهي شدةُ الريح بالحصباء، {ثُمَّ لا تَجِدوا لَكُم وَكيلًا} لا تجدون وكيلًا يتولاكم ويحفظُكم من عذاب الله عز وجل.
﴿أَم أَمِنتُم أَن يُعيدَكُم فيهِ تارَةً أُخرى فَيُرسِلَ عَلَيكُم قاصِفًا مِنَ الرّيحِ فَيُغرِقَكُم بِما كَفَرتُم ثُمَّ لا تَجِدوا لَكُم عَلَينا بِهِ تَبيعًا﴾ (69)
{أَم أَمِنتُم أَن يُعيدَكُم فيهِ تارَةً أُخرى} يعني مرةً أخرى أن يعيدكم إلى البحر مرة أخرى {فَيُرسِلَ عَلَيكُم قاصِفًا مِنَ الرّيحِ} يعني: تكون ريحًا شديدة قاصفة مهلكة {فَيُغرِقَكُم} في البحر بسبب الكفر {ثُمَّ لا تَجِدوا لَكُم عَلَينا بِهِ تَبيعًا} أي لا يتبعنا أحد للأخذ بحقكم؛ لأن الله عز وجل هو العزيز الجبار القوي ولذا قال عز وجل: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)} [الشمس]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَلَقَد كَرَّمنا بَني آدَمَ وَحَمَلناهُم فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقناهُم مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلناهُم عَلى كَثيرٍ مِمَّن خَلَقنا تَفضيلًا﴾ (70)
{وَلَقَد كَرَّمنا بَني آدَمَ} كرم الله عز وجل بني آدم بشتى أنواع التكريم، فلم يكونوا كالبهائم، كرمهم بالعقل، كرمهم بأن يمشوا على استواء وعلى طريقةٍ حسنة، إلى غير ذلك مما يكون من تكريم.
{وَلَقَد كَرَّمنا بَني آدَمَ} حتى قال بعضُ المفسرين: ويدخل في ذلك كرَّم الرجال منهم باللحى، وكرَّم النساء منهم بالذوائب يعني بالشعور، وهذا من الجَمَال لهم، بالنسبة إلى الرجال وبالنسبة إلى النساء.
{وَحَمَلناهُم فِي البَرِّ وَالبَحرِ} بمعنى أنه عز وجل سخَّر لهم ما يستطيعون به السير في الأرض وفي البحر، وهذا يدل على أنه هو الذي يستحق العبودية إذ أكرم بني آدم.
{وَرَزَقناهُم مِنَ الطَّيِّباتِ} أنعم الله عز وجل عليهم بكل ما استطاب
{وَفَضَّلناهُم عَلى كَثيرٍ مِمَّن خَلَقنا تَفضيلًا} والتفضيل هنا قال بعض العلماء: هو التكريم،
وقال بعض العلماء: بل إن التفضيل يختلف لأنه قال كرمنا، وقال هنا فضلنا، دل هذا على أن بني آدم كُرِّموا وفُضِّلوا { وَفَضَّلناهُم عَلى كَثيرٍ مِمَّن خَلَقنا تَفضيلًا }
ومن ثَم ذكر بعض العلماء ما يتعلق بالخلاف بين تفضيل الملائكة على صالحي البشر أو العكس، وقد مرَّت معنا المسألة موضحة في قوله تعالى: {لَن يَستَنكِفَ المَسيحُ أَن يَكونَ عَبدًا لِلَّهِ وَلَا المَلائِكَةُ المُقَرَّبونَ}.
﴿يَومَ نَدعو كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِم فَمَن أوتِيَ كِتابَهُ بِيَمينِهِ فَأُولئِكَ يَقرَءونَ كِتابَهُم وَلا يُظلَمونَ فَتيلًا﴾
(71) {يَومَ نَدعو كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِم} إمامهم: قيل إنه هو الرسول الذي يشهد عليهم، وقيل: هو كتاب أعمالهم، ولذا قال بعدها لما قال: {يَومَ نَدعو كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِم فَمَن أوتِيَ كِتابَهُ بِيَمينِهِ}
ولا تعارضَ بين القولين، فنبيهم يشهد عليهم، وكتابُ أعمالهم يشهد عليهم، كما قال عز وجل في أول السورة: {وَنُخرِجُ لَهُ يَومَ القِيامَةِ كِتابًا يَلقاهُ مَنشورًا -اقرَأ كِتابَكَ كَفى بِنَفسِكَ اليَومَ عَلَيكَ حَسيبًا}.
{يَومَ نَدعو كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِم} ودل هذا على أن كل أمة تأتي يوم القيامة منفردة مستقلة عن الأمم الأخرى، ويدل لهذا قوله تعالى: {وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً}.
{يَومَ نَدعو كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِم فَمَن أوتِيَ كِتابَهُ بِيَمينِهِ فَأُولئِكَ يَقرَءونَ كِتابَهُم وَلا يُظلَمونَ فَتيلًا} والفتيلُ كما مرَّ معنا هو: الخط الذي يكون في نواة التمر، فقال: {يَقرَءونَ كِتابَهُم} وذلك من باب التكريم لهم، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)} الحاقة
﴿وَمَن كانَ في هذِهِ أَعمى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعمى وَأَضَلُّ سَبيلًا﴾ (72)
{وَمَن كانَ في هذِهِ أَعمى}: أي في هذه الدنيا وعن تلك النعم التي مر ذِكرها، وإن كان فيها أعمى فلم يتبَصّر بها ولم يستفد ولم يعبد الله عز وجل، ولم يشكر الله عز وجل فالجزاء من جنس العمل {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعمى وَأَضَلُّ سَبيلًا} أي: وأضل طريقًا،
ومِن ثَم فإنه حتى في يوم القيامة يكون أعمى الحُجة، فلا يستطيعُ أن يعتذر ولا يستطيع أن يحاجج عن نفسه { فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعمى وَأَضَلُّ سَبيلًا }
ولذا كما سيأتي معنا في آخر السورة: { وَنَحشُرُهُم يَومَ القِيامَةِ عَلى وُجوهِهِم عُميًا وَبُكمًا وَصُمًّا مَأواهُم جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَت زِدناهُم سَعيرًا } وهذا سيتبين كيف يكونون هؤلاء {أَعمى} في الآخرة، ومع ذلك قال عز وجل : { أَسمِع بِهِم وَأَبصِر } يعني ما أسمَعَهم وأبصَرَهم في ذلك اليوم، وهذا كما سيأتي بيانُه في آخر السورة بإذن الله تعالى .
﴿وَإِن كادوا لَيَفتِنونَكَ عَنِ الَّذي أَوحَينا إِلَيكَ لِتَفتَرِيَ عَلَينا غَيرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذوكَ خَليلًا﴾ (73)
{ وَإِن كادوا } أي هؤلاء { لَيَفتِنونَكَ } أي يصدونك، وذلك بكثرة إلحاحهم من أنك تتهاون معهم فيما يتعلق بدينهم ﴿وَإِن كادوا لَيَفتِنونَكَ عَنِ الَّذي أَوحَينا إِلَيكَ لِتَفتَرِيَ عَلَينا غَيرَهُ}
{وَإِذًا لَاتَّخَذوكَ خَليلًا} {وإذًا} يعني: لو طاوعتَهم {لَاتَّخَذوكَ خَليلًا} فأنت الآن في أعينهم من أبغض الناس، لكن لو أنك طاوعتهم فإنك تكون من أحب الناس إليهم، بل تصير إلى منزلة الخُلَّة التي هي أعظم المحبة، والنبي ﷺ لم يطاوع هؤلاء وإنما هنا بيان من أن هؤلاء من شدة إلحاحهم وطلبهم للنبي ﷺ، فبيَّن الله عز وجل له نعمته عليه إذ حماه وحَفِظَه من كيد هؤلاء
{ وَإِن كادوا لَيَفتِنونَكَ عَنِ الَّذي أَوحَينا إِلَيكَ لِتَفتَرِيَ عَلَينا غَيرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذوكَ خَليلًا } ولذلك هو ﷺ ما همَّ بشيءٍ من ذلك أبدًا، ولذا في سورة يونس كما مرَّ معنا قال تعالى : { قالَ الَّذينَ لا يَرجونَ لِقاءَنَا ائتِ بِقُرآنٍ غَيرِ هذا أَو بَدِّلهُ قُل ما يَكونُ لي أَن أُبَدِّلَهُ مِن تِلقاءِ نَفسي إِن أَتَّبِعُ إِلّا ما يوحى إِلَيَّ إِنّي أَخافُ إِن عَصَيتُ رَبّي عَذابَ يَومٍ عَظيمٍ}.
﴿وَلَولا أَن ثَبَّتناكَ لَقَد كِدتَ تَركَنُ إِلَيهِم شَيئًا قَليلًا﴾ (74)
{وَلَولا أَن ثَبَّتناكَ} دل هذا على نعمة الله عز وجل على نبيه ﷺ، ودل هذا على أن العبد محتاج إلى تثبيت الله عز وجل {وَلَولا أَن ثَبَّتناكَ لَقَد كِدتَ تَركَنُ} أي: تميل إليهم {لَقَد كِدتَ تَركَنُ إِلَيهِم شَيئًا قَليلًا} ومع ذلك لم يركن ﷺ وإنما هو بيان لنعمة الله عز وجل عليه إذ ثبته، وقد بيَّنا ما يتعلق بذلك في سورة يونس كما قررنا آنفًا.
﴿إِذًا لَأَذَقناكَ ضِعفَ الحَياةِ وَضِعفَ المَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَينا نَصيرًا﴾ (75)
{ إِذًا لَأَذَقناكَ } يعني على فَرَض لو أنك طاوعت هؤلاء: { إِذًا لَأَذَقناكَ ضِعفَ الحَياةِ وَضِعفَ المَماتِ } أي لعذبناك في هذه الحياة ضعفين وفي الآخرة ضعفين، وذلك لأن الإنسان كلما علت مرتبته فإن العذاب يكون عليه أعظم، وكلما علت مرتبته وأطاع الله عز وجل يكون له الأجر أعظم، ولذا قال عز وجل عن نساء النبي ﷺ:
{ يا نِساءَ النَّبِيِّ مَن يَأتِ مِنكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَف لَهَا العَذابُ ضِعفَينِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسيرًا (30) وَمَن يَقنُت مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسولِهِ وَتَعمَل صالِحًا نُؤتِها أَجرَها مَرَّتَينِ (31)} الأحزاب، فقال هنا: {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَينا نَصيرًا } أي: لن تجد أحدًا ينصُرُك من عذابنا.
﴿وَإِن كادوا لَيَستَفِزّونَكَ مِنَ الأَرضِ لِيُخرِجوكَ مِنها وَإِذًا لا يَلبَثونَ خِلافَكَ إِلّا قَليلًا﴾ (76)
{وَإِن كادوا لَيَستَفِزّونَكَ مِنَ الأَرضِ} والاستفزاز من الأرض هو: الحث على الخروج بشدة
{وَإِن كادوا لَيَستَفِزّونَكَ مِنَ الأَرضِ لِيُخرِجوكَ مِنها وَإِذًا لا يَلبَثونَ خِلافَكَ إِلّا قَليلًا}
وإن كادوا ليستفزونك من الأرض/ هل هم اليهود والنصارى الذين قالوا: لماذا لا تخرج من المدينة إلى الشام؛ حيث الأنبياء؟
أم يكون هذا من كفار قريش، يُخرجونه ويحثونه على الخروج من مكة؟
والذي يظهر: من أن هذا السياق في حال قريش لِم؟ لأن هذه السورة مكية { وَإِن كادوا لَيَستَفِزّونَكَ مِنَ الأَرضِ لِيُخرِجوكَ مِنها } وهذا يدل على ما مرّ معنا في قوله عز وجل: { وَإِذ يَمكُرُ بِكَ الَّذينَ كَفَروا لِيُثبِتوكَ أَو يَقتُلوكَ أَو يُخرِجوكَ } فقال: { وَإِن كادوا لَيَستَفِزّونَكَ مِنَ الأَرضِ لِيُخرِجوكَ مِنها وَإِذًا } يعني: لو استفزوك وخرجتَ { وَإِذًا لا يَلبَثونَ خِلافَكَ إِلّا قَليلًا } أي: لا يلبثون في مكة ولا يمكثون {خِلافَكَ} يعني: بعد خروجك إلا قليلا لأن الله عز وجل سيعذبهم ؛ ولذا لما خرج ﷺ من مكة مهاجرًا إلى المدينة وقعت غزوة بدر، فأوقع الله عز وجل بصناديدها القتل، ورُموا في بئر بدر.
﴿سُنَّةَ مَن قَد أَرسَلنا قَبلَكَ مِن رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحويلًا﴾ (77)
{سُنَّةَ مَن قَد أَرسَلنا قَبلَكَ مِن رُسُلِنا} هذه سنة الله عز وجل فيمن أخرج أنبياءه فإنهم لا يبقون بعد نبيهم إلا قليلًا فيأتيهم العذاب، وتأمل ما جرى لقوم صالح ولقوم لوط، وما شابه هؤلاء الأنبياء {سُنَّةَ مَن قَد أَرسَلنا قَبلَكَ مِن رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحويلًا}
أي: لن تجد لهذه السنة تحويلًا وتغييرًا وتبديلًا.