بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الإسراء
من آية (78) إلى آية (88)
الدرس (161)
لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأُصلي وأُسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى أله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين..
أما بعد، كنا قد توقفنا عند قول الله عز وجل :
﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلوكِ الشَّمسِ إِلى غَسَقِ اللَّيلِ وَقُرآنَ الفَجرِ إِنَّ قُرآنَ الفَجرِ كانَ مَشهودًا﴾ ﴿٧٨﴾
﴿ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلوكِ الشَّمسِ إِلى غَسَقِ اللَّيلِ ﴾ أمر الله عز وجل بإقامة الصلاة من دلوك الشمس إلى غسق الليل وهذا يدل على أن أعظم ما يُزيل الهموم هو الصلاة.
وكـفار قـريش كـما سبق كـذبوا الـنبي ﷺ وهمــــوا بـإخراجه مـن مكـة، فـأمره الله عز وجل أن يُـقيم الـصلاة ﴿ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلوكِ الشَّمسِ ﴾ أي: لزوال الشمس، فالدلوك هو الزوال.
﴿إِلى غَسَقِ اللَّيلِ﴾ يعني إلى ظلمة الليل، ومن ثَم فإن من الزوال إلى غسق الليل يتضمن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
ومن ثم فإن قوله: ﴿غَسَقِ اللَّيلِ﴾ شدة الظلمة، وذلك يكون في منتصف الليل، وهذا يدل على أن الصحيح من قولَي العلماء من أن الصلاة العشاء تنتهي إلى نصف الليل بدلالة هذه الآية ولما ثبت عند مسلم قوله ﷺ : ( صلاةُ العشاء إلى نصفِ الليل ) .
﴿ وَقُرآنَ الفَجرِ﴾ يعني: صلاة الفجر، وذكر هنا القرآن باعتبار أن أعظم ما يكونُ في الصلاة الفجر هو قراءةُ القرآن، ومن ثم فإنه يُشرع التطويل في قراءة صلاة الفجر كما كان النبي ﷺ كما ثبت في الصحيح من أنه كان يقرأ ما بين الستين إلى المائة، ﴿ وَقُرآنَ الفَجرِ﴾ أي: وقراءة الفجر.
﴿ إِنَّ قُرآنَ الفَجرِ كانَ مَشهودًا﴾ بمعنى أن الصلاة الفجر تشهدها الملائكة، ولذا في الصحيحين قوله ﷺ : ( يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وبالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر ) .
بــل إن بعض الــعلمـاء قــال: (﴿وَقُرآنَ الفَجرِ إِنَّ قُرآنَ الفَجرِ كانَ مَشهودًا﴾ فيه حث على الحضور لصلاة الجماعة في صلاة الفجر ففيه حثٌّ بأن يشهدها الكثير من أهل الإسلام)
وهذا أيضًا يدل له قول النبي ﷺ مبينًا أن من حضرها فهذا دليل على إيمانه وأن من تركها فهذا دليل على نفاقه، ولذا قال ﷺ عن صلاتَي العشاء والفجر: (ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْواً).
﴿وَمِنَ اللَّيلِ فَتَهَجَّد بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَن يَبعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحمودًا﴾ ﴿٧٩﴾
﴿وَمِنَ اللَّيلِ فَتَهَجَّد بِهِ﴾ أي: القرآن ﴿وَمِنَ اللَّيلِ فَتَهَجَّد بِهِ﴾ والتهجد هو: الاستيقاظ من النوم، فدل هذا على أن التهجد لا يكونُ إلا بعد نوم، لأن هجَدَ بمعنى نام، فدل هذا على أن التهجد لا يكون إلا بعد نومَة.
﴿وَمِنَ اللَّيلِ فَتَهَجَّد بِهِ﴾ أي: بالقرآن ﴿نافِلَةً لَكَ﴾ أي زيادةً لك
ومِن ثَم فإن صلاة الليل كانت واجبةً على النبي ﷺ وعلى الصحابة رضي الله عنهم في أول الإسلام ، لكن بعد ذلك نسخ اللهُ عز وجل الوجوب في حق أهل الإيمان وقال عز وجل : ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّـهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ الآية، وهل بقي الوجوب في حق النبي ﷺ أم أنه نُسخ ؟
قيل: إن الوجوب باقٍ في حقه، وقال بعض العلماء: ( ليس واجباً ) يعني صلاة الليل ، ليست واجبةً على النبي ﷺ لمَ ؟
لأنه قال ﴿نافِلَةً لَكَ﴾ ولم يقل نافلةً عليك، فدل هذا على أنه ليس بواجبٍ عليه ﷺ ، ومع هذا كله سواءً قيل بالوجوب أم عدم الوجوب فالنبيُّ ﷺ كان حريصًا على قيام الليل حتى قالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح لما تتفطر قدماه من طول القيام، فقالت يا رسول الله: (إنه قد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: (أفلا أكون عبدًا شكورًا).
وأيضًا كان ﷺ إذا فاتته صلاةُ الليل من نومٍ أو ما شابه ذلك قضاها في النهار ثنتي عشرةَ ركعة
﴿ نافِلَةً لَكَ﴾ قوله تعالى: ﴿نافِلَةً لَكَ﴾ يدل على فضل صلاة الليل، ولذا وردت الأحاديث الكثيرة في بيان فضلها.
﴿عَسى أَن يَبعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحمودًا﴾ عسى من الله عز وجل متحققة، فاللهُ عز وجل سيحقق هذا الأمر وسيبعث محمدًا ﷺ المقامَ المحمود، ومن ثَم فإننا نسأل الله عز وجل كما جاءت بذلك السنة بعد الأذان (وابعثه مقامًا محمودًا) فنسأل الله U بعد الآذان أن يُعطيَ النبي ﷺ هذا المقام المحمود،
وهذا المقامُ المحمود هو: كل مقام في يوم القيامة تحمده الخلائق، فالقيامة مواقف لكن وردت السنة هنا من أن المقام المحمود هو: الشفاعة كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة.
وجاء عن مجاهد رحمة الله من أنه قال : ﴿عَسى أَن يَبعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحمودًا﴾ قال :(يُجلسه الله عز وجل على العرش معه) وهذا الأثر عن مجاهد رحمه الله، ومِن ثَم فإن ما ذكره أهلُ السنة فيما تقدم من هؤلاء كالدارَ قطني وغيره رحمهم الله، والدار قطني من أعلم الناس بالحديث وصاحب سنة رحمه الله من أن هذا هو مُعتقدٌ يجب الإيمان به خلافًا للجهمية الذين يُنكرون جلوس النبي ﷺ على العرش استنادا على هذا الأثر، لكن هذا الأثر ضعفه الألباني رحمه الله، كما في السلسة الضعيفة.
ولذا لما سُلئت اللجنةُ الدائمة برئاسة شيخنا ابن باز رحمه الله عن جلوس النبي ﷺ على العرش قالوا: (لا نعلم حديثًا صحيحًا في مثل ذلك أما أثر مجاهد فإنه لا يصح) فدل هذا على أن هذا الأثر عند هؤلاء العلماء المعاصرين من أنه أثرٌ ضعيف، لكن قُلت مُعتقد ما تقدم من علماءِ أهل السنة كالدار قطني رحمه الله من إثبات ذلك، بل إنَّ الدارَ قطني رحمه الله جاء بالسند من أنه ذكر أبياتًا تدل على ثبوتِ ذلك، وأصابته فتنةٌ رحمه الله بسبب هذا القول وجرى ما جرى، وإن كان الألباني رحمه الله يقول: إن هذا السند المأثور فيما يدل على هذه الأبيات المنسوبة إلى الدار قطني فإنها لا تصح فبها ضعفاء، ومن ثَم فإن الدار قطني كما سلف ونقل ذلك العلماء
ولذلك شيخ الإسلام رحمه الله كما في الفتاوى قال: ( ونقل العلماء الأثّبَات والأئمة المرضيون من أن النبي ﷺ يُجلسه الله عز وجل معه على العرش كما ذكر ذلك ابن جرير الطبري عن مجاهد رحمه الله)
وابن القيم في كُتبه ذكر مثل ذلك، وذكر عن أئمة ذكر أسماءهم وعدّد أسماءهم بالقول فيما يتعلق بثبوت هذا الأمر.
قلتُ: ولعل ما ذكره هؤلاء العلماء لعلهم لم يأخذوا بحديث أو بأثر مجاهد رحمه الله وحدَه، وقد ورد حديثٌ مرفوع من أنه قال ﷺ : (يُجلسني الله على العرش) وقد ضعفه الألباني رحمه الله، بل قال إنه باطل، وأيضًا قُلت ورد حديثٌ ورد أثرٌ موقوف عن بعض الصحابة y فيما يتعلق بهذا الأثر، ولعل ما ذكره المتقدمون مما تناقله هؤلاء الأئمة ومما نقلوه وارتضوه بناءً على أثر مجاهد وبناءً على تقوية هذا الأثر بما جاء من تلك الأحاديث فلعلهم أخذوا بهذا الأمر، هذا ما يتعلق بهذا الأثر.
وليُعلم أنه جاء حديث من أن النبي ﷺ قال 🙁 يجلس الله U على العرش فيبقى من كل جانب منه أربع أصابع) قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى: ( هذا لا يُعرف قائله ولا نعلم ناقله ) وأما ما جاء من حديث: ( أن الله عز وجل يجلس على العرش فيبقى أربع أصابع من جانب واحد ) فأيضًا هو حديثٌ ضعيف، وما ورد من حديث: ( أنه يجلس على العرش فلا يبقى حتى أربع أصابع ) فهو حديثٌ ضعيف، وقد جاءت أحاديثُ أخرى في جلوسه عز وجل على العرش وجلوسِه على الكرسي، قال النبي ﷺ:
( إن كرسي الله عز وجل وسع السموات والأرض وإن الله عز وجل يجلس على الكرسي ويقول للعلماء ما أعطيتكم هذا العلم وأنا سأعذبكم) أو نحوًا من هذا، فدل هذا على أن هناك آثارًا وردت في مثل هذا المَقام فيها ما فيها من الضعف،
أما جلوسه ﷺ على العرش فكما سبق ما ذكره الأئمة السابقون لعلهم ارتضوا ذلك وتناقله هؤلاء الأئمة خلفًا عن سلف فدل هذا على ما ذكروه رحمهم الله، فهذا ما يتعلق بهذه المسألة التي ربما يُرمى فيها بعضُ الناس بأنه جهمي أو ما شابه ذلك.
﴿وَقُل رَبِّ أَدخِلني مُدخَلَ صِدقٍ وَأَخرِجني مُخرَجَ صِدقٍ وَاجعَل لي مِن لَدُنكَ سُلطانًا نَصيرًا﴾ ﴿٨٠﴾
﴿ قُل ﴾ أمره الله عز وجل أن يتضرع النبيُّ ﷺ إلى الله سبحانه
﴿ أَدخِلني مُدخَلَ صِدقٍ﴾ قال بعض المفسرين: يعني أدخلني المدينة مدخلَ صدق وأخرجني من مكة مُخرج صدق،
والذي يظهر: أن الآية عامة، فهو ﷺ سأل ربه على وجه التضرع أن يُدخله كل مدخلٍ دخله سواءً كان مكانًا أو أمرًا، وأن يُخرجَه من أي شيء سوءًا كان مكانًا، أو أمرًا من أنه يُدخل مدخل صدق وأن يُخرجه مُخرج صدق ، مما يدل على أنه إذا أُدخل مُدخل صدق وأُخرِج مُخرج صدق يكون معه النجاة والتوفيق والسداد من الله عز وجل .
﴿ وَاجعَل لي مِن لَدُنكَ سُلطانًا ﴾ حجة وبيانًا نصيرًا، بمعنى: أنه ﷺ يكون بهذا السلطان قد نصره الله عز وجل ﴿ وَاجعَل لي مِن لَدُنكَ سُلطانًا نَصيرًا ﴾ وذلك حتى يُبلغ رسالة ربه عز وجل، وأيضًا يدخل في هذا من أنه قال: ﴿ وَاجعَل لي مِن لَدُنكَ سُلطانًا نَصيرًا ﴾ يعني من يؤويني ممن ييسره عز وجل لي من الخلق، ولذلك النبي ﷺ كان يطوفُ بمكة وهو يقول: ( من يؤويني حتى أٌبلغَ رسالة ربي ) .
﴿وَقُل جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ إِنَّ الباطِلَ كانَ زَهوقًا﴾ ﴿٨١﴾
﴿جاءَ الحَقُّ﴾ والحق: هو الشيء الثابت المستقر الواضح البيّن
﴿وَزَهَقَ الباطِلُ﴾ اضمحل وزال الباطل واندثـر،لمَ ؟ ﴿ إِنَّ الباطِلَ كانَ زَهوقًا ﴾ فالباطل زهوق مضمحل زائل ولو علا كما مر معنا في قوله عز وجل :
﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفاءً وَأَمّا ما يَنفَعُ النّاسَ فَيَمكُثُ فِي الأَرضِ ﴾ ولذا قـال عز وجل: ﴿ بَل نَقذِفُ بِالحَقِّ عَلَى الباطِلِ فَيَدمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ﴾ فلا يغُرنّك ظهورُ الباطل وظهور أهله فإن الحقَّ منتصر. ولذا النبي ﷺ في فتح مكة، لما أتى إلى مكة ورأى ثلاثمائة وستين صنماً جعل ﷺ كما ذكر المفسرون حول هذه الآيات: جعل ﷺ يضرب هذه الأصنام بعصًا معه وهي تتساقط ويقرأ : ﴿ وَقُل جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ إِنَّ الباطِلَ كانَ زَهوقًا ﴾ .
﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنينَ وَلا يَزيدُ الظّالِمينَ إِلّا خَسارًا﴾ ﴿٨٢﴾
﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفاءٌ﴾ قال هنا مِنَ ومِنَ هنا ليست للتبعيض، بل هي لبيان الجنس من جنس القرآن، فكل آية في القرآن فهي شفاء، والشفاء هنا يشمل الشفاء القلبي والبدني.
ومن ثَم فإن قراءة القرآن ولو بآية واحدة ولو كانت تتعلق بالأحكام فبها الشفاء، شفاءُ الصدور من الشبهات والشكوك وما شابه ذلك من أمراض القلب، وبه شفاءٌ للأبدان من العلل والأسقام ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفاءٌ ﴾ وإن كانت الأدلة أتت بقراءة بعض السور التي بها خير عظيم كسورةِ الفاتحة كما قال ﷺ في الصحيح : ( وما يدريك أنها رقية ) وما شابه ذلك مما ورد من تعيين آيات أو سور في الرقية، لكن لا يعني أنه لا يقرأ بأي آية! وإنما أي آية إذا حضر القلب وإذا اعتقد القلب نفعها من جانب القارئ ومن جانب من يُقرأ عليه، فإن الله عز وجل سيشفيه.
﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنينَ﴾ شفاء لمن؟ للمؤمنين، ورحمة لمن؟ للمؤمنين
فهو رحمة ومن أخذ به فسيرحمه الله عز وجل، من أخذ بالاستشفاء به بالتحاكم إليه وبقراءته وبتدبره وبالعمل به فهو رحمةٌ ﴿ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنينَ﴾ دل هذا على أنهم هم المنتفعون به.
﴿وَلا يَزيدُ الظّالِمينَ إِلّا خَسارًا﴾ ولا يزيد هذا القرآن الظالمين إلا خسارًا لمَ؟ فاللهُ عز وجل أنزله هدى لجميع الناس قال تعالى : ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ ﴾ هو من حيث الأصل هدى للناس، لكن: هؤلاء ما يزيدهم هذا القرآن إلا خسارًا باعتبار أنه كلما نزلت آية، أو نزلت سورة عارضوها وأنكروها فزادهم هذا الطغيان طغيانًا كما قال تعالى:
﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّـهُ مَرَضًا ﴾ وكما قال تعالى : ﴿ وَإِذا ما أُنزِلَت سورَةٌ فَمِنهُم مَن يَقولُ أَيُّكُم زادَتهُ هـذِهِ إيمانًا فَأَمَّا الَّذينَ آمَنوا فَزادَتهُم إيمانًا وَهُم يَستَبشِرونَ ﴿۞﴾ وَأَمَّا الَّذينَ في قُلوبِهِم مَرَضٌ فَزادَتهُم رِجسًا إِلى رِجسِهِم وَماتوا وَهُم كافِرونَ ﴾ وكما قال تعالى: ﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾ وكما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾
فدل هذا على أن هذا القرآن من كذّب به أو أعرض عنه فإنه يزداد معه الطغيان {وَلا يَزيدُ الظّالِمينَ إِلّا خَسارًا﴾
﴿وَإِذا أَنعَمنا عَلَى الإِنسانِ أَعرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَئوسًا﴾ ﴿٨٣﴾
﴿وَإِذا أَنعَمنا عَلَى الإِنسانِ ﴾ أي: جنس الإنسان ﴿ أَعرَضَ وَنَأى ﴾ وَنَأى أي : ابتعد .
﴿ وَنَأى بِجانِبِهِ﴾ مما يدل على أنه لما أنعم اللهُ عز وجل عليه أعرَضَ عن دين الله عز وجل
﴿وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَئوسًا ﴾ فهو ييأس من رجوع هذه النعمة وذلك لأن قلبَه ليس معلقاً بالله، وهذا نظير ما مر معنا تفسيره في سورة هود قال تعالى :
﴿ وَلَئِن أَذَقنَا الإِنسانَ مِنّا رَحمَةً ثُمَّ نَزَعناها مِنهُ إِنَّهُ لَيَئوسٌ كَفورٌ ﴾
﴿ وَلَئِن أَذَقناهُ نَعماءَ بَعدَ ضَرّاءَ مَسَّتهُ لَيَقولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخورٌ ﴿۞﴾ إِلَّا الَّذينَ صَبَروا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولـئِكَ لَهُم مَغفِرَةٌ وَأَجرٌ كَبيرٌ ﴾
﴿ أَعرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَئوسًا ﴾ واليئوس هو : القانط من حصول الخير ومن استبعاد الشر.
﴿قُل كُلٌّ يَعمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُم أَعلَمُ بِمَن هُوَ أَهدى سَبيلًا﴾ ﴿٨٤﴾
﴿قُل كُلٌّ يَعمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ﴾ قل كل يعمل على طريقته التي تُشاكله وتناسبه وتماثله
﴿قُـل كُلٌّ يَعمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ﴾ فنحن نعمل على طريقتنا وهي طريقة الحق وهي التي تشابهنا فإننا على الحق، وهذا هو الحق واعملوا على طريقتكم وعلى شاكلتكم وما يُماثلكم من الباطل ، فأنتم على هذا الباطل . ﴿ قُل كُلٌّ يَعمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ﴾ وهذا تهديد لهم
﴿ فَرَبُّكُم أَعلَمُ بِمَن هُوَ أَهدى سَبيلًا ﴾ أي طريقا إلى الحق، نحن أم أنتم، ولذا قال عز وجل :
﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾.
﴿وَيَسأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي وَما أوتيتُم مِنَ العِلمِ إِلّا قَليلًا﴾ ﴿٨٥﴾
كما ذكر المفسرون هنا لما سأله اليهود عن هذه الروح أو كما قيل من أن كفار قريش كما سيأتي معنا في سورة الكهف من أنهم أتوا إلى اليهود وقالوا: ما شأنُ محمد؟ فقالت لهم اليهود اسألوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب فهو نبي. فقالوا: اسألوه عن الروح؟ واسألوه عن: فتية ذهبوا في كهف؟ واسألوه عن: شخص بلغ مشرق الشمس ومغربها؟
فقال النبي ﷺ: (سأخبركم) سيأتي معنا ما يتعلق بذلك في سورة الكهف بإذن الله تعالى ﴿وَيَسأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ ﴾ وتلك الروح اختلف المفسرون فيها اختلافا عظيمًا كبيرًا.
هل هو مَلَكٌ من الملائكة يأخذ السماوات والأرض ويأكلها في لقمة واحدة؟! إلى غير ذلك من الآثار التي لا نعلم دليلاً صحيحًا عليها، اختلفوا فيها، الذي يظهر من أن الروح هنا المقصود منها هي الروح التي بها يحيا الإنسان، وهي روح ابن آدم.
﴿وَيَسأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ﴾ يسألونه عن ماهية هذه الروح. ﴿ وَيَسأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ ﴾ فقال الله عز وجل : قل يا محمد لهؤلاء ﴿قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي﴾ أي: من مأمور ربي، دل هذا على أن هؤلاء إذا كانوا لا يعرفون ماهية هذه الروح التي في بواطنِهِم دل هذا على قلة علمهم وأن الإنسان لا يعلم شيئًا كثيرًا.
﴿ وَيَسأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي﴾ وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن العبد يفوض ما لا يعلمه يفوض علمه إلى الله عز وجل .
وهذه الروح كما ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه الروح قال: الصحيح أنها مخلوقة، ودل مائة وستة عشر وجهًا من الأدلة الشرعية على أنها مخلوقة، ومن ذلك من أنها كما في جاءت بذلك الأحاديث، إذا قُبضت فإنها تكفن وتحنط، وأيضًا فإن البصر يتبعها إذا قُبضت الروح، وهذا يدل على أنها مخلوقة وأنها جُرم. قال: هي جُرم صغير في باطن الإنسان، ومن ثَم فإنه لا يُستبعد حصول مثل هذا الجُرم لأن الشيطان كما قال ﷺ في الصحيح : ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) فكيف بهذه الروح
﴿ وَيَسأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي﴾
قال : ﴿ مِن أَمرِ رَبّي ﴾ ومن ثَم فإنه لو قال قائل : الله U قــال : ﴿ أَلا لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ ﴾ فكيف تقولون إن الروح مخلوقة مع أن الله عز وجل قال : ﴿ قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي ﴾ فأجاب شيخ الإسلام رحمة الله عن ذلك فقال : ﴿ قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي ﴾ يعني: من مأمور ربي، بمعنى أمر الله عز وجل هذه الروح فكانت وخُلقت كما قال تعالى : ﴿ هَـذَا خَلْقُ الله ﴾ يعني هو مخلوق فالله هو خلقه .
فقوله عز وجل : ﴿ قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي ﴾ أي من مأمور ربي كما قال تعالى :
﴿ إِنَّما قَولُنا لِشَيءٍ إِذا أَرَدناهُ أَن نَقولَ لَهُ كُن فَيَكونُ ﴾ .
﴿وَما أوتيتُم مِنَ العِلمِ إِلّا قَليلًا﴾ بالنسبة إلى علم الله ما أوتيتم من العلم إلا قليلًا، ولو كان الإنسان أعلمَ ما يكون في هذه الأرض مما يُوصَفُ بصفات العلم فعلّمُهُ قليل بالنسبة إلى علم الله عز وجل، ولذا قال تعالى : ﴿ وَفَوقَ كُلِّ ذي عِلمٍ عَليمٌ ﴾، ولذا الخَضْر مع موسى لما ركبا السفينة فأتى عصفورٌ فنقر في البحر نقرة أو تقرتين، فقال الخَضْر:
( يا موسى ما عِلمي وعِلمُك عند علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من البحر )
﴿وَلَئِن شِئنا لَنَذهَبَنَّ بِالَّذي أَوحَينا إِلَيكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَينا وَكيلًا﴾﴿٨٦﴾
ولئن شئنا يا محمد لنذهبن بالذي أوحينا إليك وهو هذا القرآن، لكنه عز وجل رحمه فأنزل عليه القرآن، ولو شاء عز وجل لأزال هذا الوحيَ من صدره ولأزاله من كل شيء من أوراق ومن صدور وما شابه ذلك ﴿وَلَئِن شِئنا لَنَذهَبَنَّ بِالَّذي أَوحَينا إِلَيكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَينا وَكيلًا﴾
أي لن يكون لك وكيل يرد هذا القرآن إليك، وهنا اختلف فيما يتعلق بهذه الآية والآية التي مرت معنا ﴿إِذًا لَأَذَقناكَ ضِعفَ الحَياةِ وَضِعفَ المَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَينا نَصيرًا ﴾ فالنصير يتعلق بما سيكون من عذابٍ لو وقع فإنه لن يجد له نصيرًا، أما هنا إذا أذهبَ الله عز وجل عنه الوحي فلن يجد وكيلًا يتولى هذا الأمر ويُعيد القرآنَ إليه.
﴿إِلّا رَحمَةً مِن رَبِّكَ إِنَّ فَضلَهُ كانَ عَلَيكَ كَبيرًا﴾ ﴿٨٧﴾
﴿ إِلّا رَحمَةً مِن رَبِّكَ ﴾ يعني أبقينا هذا القرآن في صدرك ولم نُذهبه عنك رحمةً منه عز وجل ، وأيضًا ما أرسلك الله عز وجل وما أوحى إليك إلا رحمةً بك كما قال عز وجل:
﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿۞﴾ وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ [سورة القصص]
قال هنا: ﴿ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضلَهُ كانَ عَلَيكَ كَبيرًا ﴾ ﴿ إِنَّ فَضلَهُ ﴾ يعني فضل الله عز وجل عليك كبير يا محمد ، وهذا كما قال عز وجل : ﴿ وَأَنزَلَ اللَّـهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾.
﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ ﴿88﴾
﴿ قُل ﴾ لهؤلاء الكفار متحديًا لهم ﴿ قُل لَئِنِ اجتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلى أَن يَأتوا بِمِثلِ هـذَا القُرآنِ ﴾ على أن يأتوا بمثله، لم يَقل على أن يأتوا به وإنما على أن يأتوا بمثله، بمعنى أنه:
لا يمكن أن يكون هناك مثيل لهذا القرآن أبدًا، لا من حيث لفظُهُ ولا من حيث معناه ولا من حيث تناسبه ولا من حيث إتقانه، لا يمكن بأن يأتوا بأي وجه من الوجوه التي بها يكون مثيلًا لهذا القرآن.
ولعله قدَّمَ الإنس على الجن هنا باعتبار أن الفصاحة والبلاغة في الإنس أظهر، ولذا قال تعالى: ﴿قُل لَئِنِ اجتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ ﴾ اجتمعوا كلهم، وذكر الجن والإنس ولم يذكر الملائكة باعتبار أن هؤلاء هم المخاطبون وهم الذين بُعث إليهم النبي ﷺ وهم الذين عارضوا هذا الأمر، فقـال عز وجل :
﴿ قُـل لَئِنِ اجتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلى أَن يَأتوا بِمِثلِ هـذَا القُرآنِ لا يَأتونَ بِمِثلِهِ وَلَو كانَ بَعضُهُم لِبَعضٍ ظَهيرًا ﴾ ﴿ وَلَو كانَ بَعضُهُم لِبَعضٍ ظَهيرًا ﴾ يعني: بمعنى أنه يكون نصيرًا ومعينًا يُعِينُ بعضهم بعضًا في الإتيان بمثل هذا القرآن، وكما تحداهم هنا ، تحداهم أن يأتوا بمثله كما قال تعالى :﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ﴾ تحدى الإنسَ والجن، ثم تحدى الإنس في قوله : ﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ﴾ بمعنى أن الإنس كلهم لن يستطيعوا، وكذلك كما تحداهم من أن الإنس والجن كلهم لو اجتمعوا ما استطاعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فلما تحداهم تحدى الإنسَ كلهم على أن يأتوا بمثل هذا القرآن فلم يستطيعوا، فتحداهم بعشرِ سور كما قال تعالى : ﴿ قُل فَأتوا بِعَشرِ سُوَرٍ مِثلِهِ مُفتَرَياتٍ ﴾ فلم يستطيعوا، فتحداهم بأن يأتوا بسورة كما قال عز وجل: ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ﴾ فدل هذا على أنهم لما عَجَزوا دل هذا على أن هذا القرآن من عند رب العالمين.