تفسير سورة البقرة ــ الدرس ( 108 )
ــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ {92} }
سورة البقرة ـ الآية ( 92 ) ــ الجزء الأول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى :
{ َلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ {92} }
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــ
أنه جل وعلا خاطب بني إسرائيل بخطابات متعددة وبأساليب متنوعة بتجزئة الأحداث التي وقعت من أسلاف ممن كان في عصر النبي عليه الصلاة والسلام في مواضع متعددة
ما الفائدة ؟
يمكن أن تجمع الحوادث والقصص والأخبار عن بني إسرائيل جملة واحدة لكن لماذا فرقت ؟
فرقت من باب تذكير هؤلاء الذين هم الأحفاد بتذكير ما كان عليه أسلافهم من العتو والعناد والطغيان حتى تبقى الذكرى
لأنها لو جمعت أو قيلت في موضع إذا بها تذكر في حينها ثم تنسى لكن لما تأتي متفرقة إذا بمن هم في عصر النبي عليه الصلاة والسلام يقفون على حقيقة أسلافهم بين الفينة والأخرى وهذا من فضيل نعمة الله على هذه الأمة
لأن قصة موسى عليه السلام سواء كان مع قومه أو مع السحرة أو مع فرعون أنها تعددت من أجل أن نأخذ منها العبرة
ولذلك في هذه القصص : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } يأتي ذكر أخذ العبرة مما جرى لهؤلاء حتى لا نقع في مثل ما وقعوا فيه
ثم في تجزئتها إقامة الحجة تلو الحجة على اليهود الذين هم في عصر النبي عليه الصلاة والسلام
إلا من هداه الله ممن هداه من هؤلاء وهم قلة { فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ }
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــ
أنه جل وعلا هنا أكد هذا المجيء من موسى لليهود بثلاثة مؤكدات
اللام : { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ }
اللام ، القسم لأن اللام موطئة للقسم الأصل والله قد جاءكم ، وقد
المؤكدات في اللغة العربية كثيرة لكن هنا المذكور اللام والقسم وقد
فرق بين أن تقول : اجتهد زيد ــ هذا خبر
وفرق بين قولك قد اجتهد زيد التأكيد على أنه اجتهد
لو زدت قلت : والله قد اجتهد زيد هنا مؤكد ثاني لتعظيم اجتهاد زيد
إذا أتيت بإن : والله إن زيدا قد اجتهد ، هنا أيضا فيه تقوية للخبر
هنا قوي الخبر بثلاثة مؤكدات ، ما هو الخبر ؟ أن موسى جاء لليهود
ويفترض لما يأتك الخبر من العليم الخبير أن تقبل { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا }
لكن أتي بهذه المؤكدات للدلالة على تأكيد خبث نفوس اليهود وإلا فإخبار الله عن مجيء موسى كافي لكن أتي بهذه التوكيدات من باب إقامة الحجة على هؤلاء وأن هؤلاء لا يقبلون وهذه هي طبيعة اليهود
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــ
هذا القرآن نزل على النبي عليه الصلاة والسلام
إذًا قال { جَاءَكُمْ } هذه الآية في القرآن إذًا المخاطب بها من هم اليهود الذين في عصر النبي عليه الصلاة والسلام ، مع أن موسى لم يأتهم ، ما أتاهم إلا النبي عليه الصلاة والسلام ، موسى أتى أسلافهم فكيف يقول :
{ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } هل هم اتخذوا العجل ، الذين هم في عصر النبي عليه الصلاة والسلام ؟ لا ، إنما الذي اتخذه هم أسلافهم
لماذا وجه الخطاب لليهود الذين هم في عصر النبي عليه الصلاة والسلام وهم لم يدركوا موسى ولم يتخذوا العجل ؟
لأنهم رضوا بما فعلته أجدادهم وأسلافهم والراضي كالفاعل فدل على أن من رضي بالمنكر فهو شريك لمن فعل المنكر وإن لم يكون في درجة واحدة إلا إنه شريك له ، ولذلك وجه الخطاب إليهم من باب التوضيح على أن هؤلاء لم ينكروا ما كان عليه أسلافهم
كيف ينكرون ؟
يجب أن ينكروا بالقول وبالفعل
لو نظرت إلى قولهم وأقوالهم مع النبي عليه الصلاة والسلام لوجدت الكفر الصراح اقرأ ما قبلها { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ }
لما أتي إلى أفعالهم لم يطبقوا هذا الدين بل سعوا إلى قتل النبي عليه الصلاة والسلام فإذًا ما فعلته أسلاقهم {فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} ، أسلافهم كذبوا الرسل وقتلوا الرسل ، هؤلاء الأحفاد جمعوا هاتين الخصلتين الذميمتين : التكذيب بالنبي عليه الصلاة والسلام وإرادة القتل لأن من أراد القتل وعزم عليه ولم يمنعه لأن من عزم على القتل وانسدت عليه الأبواب يعني هو يريد أن يقتل لكنه أغلقت عليه الأبواب هنا يكون كمن قتل ولو لم يكن مثل من قتل لكنه يكون شريكا ، وهؤلاء حاولوا أن يقتلوا النبي عليه الصلاة والسلام فاستحقوا أن يوصفوا بأنهم قتلة لأن من عزم على القتل فإنه قاتل
تصور لو أن إنسانا أراد أن يزني وتحرى ومشى بقدميه وأراد أن يفعل فلما كاد أن يصل إذا بالأبواب قد أغلقت أبوابه هو رجع من أجل ماذا ؟
ما وجد ما يريده وإلا هو عازم إذًا هو مثل الزاني وإن لم يكن مثله في المباشرة لكن عليه إثم كإثم الزاني
لكن لو أنه ذهب ثم لما اقترب تذكر عظمة الله وتذكر الخوف من الله ثم رجع هنا يؤجر ، فهؤلاء أرادوا قتل النبي عليه الصلاة والسلام فهم قتلة في الحقيقة
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــ
أنه قال هنا { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ } هنا فيه كلمة محذوفة
{ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ } لو في غير القرآن ولقد جاءكم موسى بالآيات البينات فهنا صفة لموصوف محذوف
أهل اللغة يقولون يمكن أن تبقى الصفة ويحذف الموصوف ، الموصوف هنا حذف ، ما هو ؟ الآيات
فالبينات صفة لموصوف محذوف تقديره الآيات
مثل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا } يعني أكلا رغدا
إذًا هذه صفة لموصوف محذوف التقدير أكلا وصف بأنه رغد
هذه أمثلة على حذف الموصوف وإبقاء الصفة
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــ
أن البينات مفردها بينة وسميت بهذا الاسم لأنها تبين الحق وتوضحه ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( البينة على المدعي ) لأنها تبين الحق
فسبحان الله ! يعني هؤلاء أتى أسلافهم موسى عليه السلام بهذه الآيات الواضحات الساطعات المنيرات التي لا ريبة فيها ولا شك ومع ذلك ما آمنوا ، وهذا يدل على أن القلب كلما بعد عن الله كلما زاد بعده عن الله أكثر
وكلما قرب القلب من الله كلما قرب منه أكثر
نحن نرى في بعض الأحوال لما يكون الإنسان أكثر قربا من الله إذا به يريد أن يقرب ، لكن الطاعة تولد طاعة والمعصية تولد معصية
فأتتهم هذه الآيات البينات ما هي هذه الآيات البينات ؟
القرآن يفسر بعضه بعضا :
قال تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ } يعني آيات متتابعات لم تأت دفعة واحدة
هذه الأشياء المذكورة في هذه الآية أتت متتابعة لذلك قال { مُفَصَّلَاتٍ } كلما أتتهم عقوبة ندموا لكنه ندم كاذب عادوا مرة أخرى فسلط الله عليهم العذاب الذي يليه ومع ذلك { فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}
ومن الآيات البينات : كم عددها ؟ تسع {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}
لو قال قائل : هل من البينات التوراة ؟
نتامل في الآية :
{ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ } يعني من بعد ذهاب موسى لأخذ التوراة اتخذتم العجل إذًا لم تأت التوراة بعد
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــ
إذا أراد الله أن يعمي بصيرة إنسان أعمى بصيرته أتتهم هذه الآيات البينات { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ }
قال { ثُمَّ } لم يقل فاتخذتم ” ثم ” في اللغة العربية تفيد الترتيب والتراخي يعني هناك زمن طويل وفاصل بين هذه البينات وبين اتخاذكم العجل
يعني مع وجود هذه الآيات البينات التي هي ساطعة أمامه ويرونها ويبصرونها ومع ذلك هناك برهة من الزمن حتى يتفكروا إذا بهم يعبدون غير الله
يعني يمكن أن يكونوا معذورين لو قال ” فاتخذتم ” لأن الفاء تفيد الترتيب والتعقيب مباشرة في الزمن ، تقول جاء زيد فعمرو يعني مجيء عمرو بعد زيد مباشرة من غير فاصل من الزمن
لكن لو قلت جاء زيد ثم عمرو ، عمرو جاء بعد زمن يمكن بعد ساعة أو ساعتين يوم ثلاثة أيام
قال { ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} سبحان الله ! مع وجود هذه الآيات البينات الواضحات وهناك مساحة من الزمن للاتعاظ اتخذتم العجل !
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــ
أن هؤلاء اتخذوا العجل ما هو هذا العجل ؟
العجل هو ولد البقر لكن هذا العجل المتخذ أهو العجل الذي هو من لحم وعظم ودم ؟ لا ، لماذا قلنا لا ؟ لأن الآيات التي في سورة طه تبين
إذًا القرآن يفسر بعضه بعضا ، على المسلم أن يتأمل أكثر القصص التي وردت متفرقة قصة موسى عليه السلام
لو أسأل سؤال : ما هي أعظم قصة في القرآن ؟
قصة موسى أعظم من قصة يوسف بل قصة هود وقصة صالح ولوط أعظم من قصة يوسف
يقول شيخ الإسلام ، لم ؟ يقول لأن محنة يوسف عليه السلام من أجل شخصه هو من أجل جماله لكن قصة موسى قصة هود صالح من أجل المحنة من أجل الله عز وجل
الرسل امتحنوا بسبب أنهم أتوا إلى الناس لكي ينقذوهم من الشرك
لكن لو قال قائل :
أول سورة يوسف : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ }
لما نقرأ هذه نفهم أن قصة يوسف أعظم قصة في القرآن
أكمل الآية كما قال شيخ الإسلام { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } دل على أن القصص المذكورة في القرآن هي أعظم القصص وليس المقصود هذه القصة التي ستذكر عن يوسف بدليل آخر السورة : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } فدل هذا على أن قصة موسى أعظم من قصة يوسف
وقصة هود وصالح ولوط وشعيب
ولذلك قال { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } يعني أن قصص القرآن المقصود منها هنا أحسن القصص يعني القصص المذكورة في القرآن