تفسير سورة البقرة ــ الدرس ( 110 )
ــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ {92} }
سورة البقرة ـ الآية { 92 } ــ الجزء الثالث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى :
{ َلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ {92} }
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــ
أن قوله { اتَّخَذْتُمُ } ” اتخذ ” كما في اللغة العربية من أفعال التصيير التي تنصب مفعولين والفوائد اللغوية يستفاد منها في كتاب الله وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام فليست معلومة مجردة تلقى ثم تنسى أو لا يؤبه لها ، كلا
فبعض الناس يظن أنه لما يتلقى اللغة العربية في المدارس أنها مجرد مادة تدرس أو أنها لغة تمسك بها أمن أجل أنها لغة عربية هي شعار للأمة ليس هذا فحسب
بل إن تدريسها يستفاد منه في فهم النصوص الشرعية لأن قوله { ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ } قلنا إنها من أفعال التصيير وأفعال التصيير تنصب مفعولين
من أفعال التصيير اتخذ وجعل
وبالتالي فإننا حينما نقول : إن أفعال التصيير تنصب مفعولين فإن جعل لا تكون بمعنى خلق وإنما بمعنى صير
آيات كثيرة تدل على أن القرآن منزل غير مخلوق
{ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ }
{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ }
آيات كثيرة تدل على أن القرآن منزل لأنه كلام الله وكلام الله ليس بمخلوق خلافا للمبتدعة الذين يقولون هو مخلوق خلقه الله
فالشاهد من هذا :
أن قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } ليس معناه إنا خلقناه قرآنا عربيا لأن الآية الأخرى تفسر ، في أول سورة يوسف { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}}
فتحمل آية { إِنَّا جَعَلْنَاهُ } على آية { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ }
لو قال قائل :
لم لا تحملون { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ } على { إِنَّا جَعَلْنَاهُ } ؟
الجواب : ليس هناك مخرج لغوي حتى نحيله ، وإنما المقصود{ إِنَّا جَعَلْنَاهُ } يعني صيرناه قرآنا عربيا لم يأت بلغة أخرى كما قال تعالى في أواخر سورة فصلت { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ }يعني هذا نبي عربي وهذا قرآن أعجمي لا يمكن هذا تناقض
يعني لو صيرناه من حيث اللفظ قرآنا أعجميا { لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ }
فإذا نصبت “جعل ” مفعولين فإنها بمعنى صير كـ ” اتخذ ” ، أما إذا نصبت مفعولا واحدا فهي بمعنى خلق : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ }أي خلق الظلمات لأنها نصبت مفعولا واحد ا
فهنا فائدة لغوية وجميع الفوائد اللغوية يستفاد منها في دين الله عز وجل
فهنا { اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } ” اتخذ ” هنا تحتاج إلى مفعولين ، أين المفعول الأول ؟ { الْعِجْلَ }
أين المفعول الثاني ؟ محذوف لدلالة السياق عليه : ثم اتخذتم العجل إلها
لأن الآيات الأخرى وضحت ذلك
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــ
بيان فضيلة موسى عليه السلام وأن له هيبة فصاحب الهيبة يفعل في غيبته ما لايفعل في حضرته لأنهم اتخذوا العجل { مِنْ بَعْدِهِ } يعني من بعد ذهاب موسى عليه السلام فدل على أن موسى له هيبة
فمن له هيبة يفعل في غيبته ويقال في غيبته ما لا يقال ويفعل في حضرته
ولكن كيف تؤخذ الهيبة ؟
تؤخذ الهيبة إذا كان الإنسان لا شك أنه متمسك بشرع الله لابد أن تظهر شعائر الله عليه
ومن أظهر وأبرز ما تكون الهيبة للإنسان إذا قل كلامه
فإذا كان الإنسان مكثارا للكلام فإن هيبته تقل بقدر كثرة كلامه وبقدر قلة كلامه بقدر ما تكون له هيبة
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــ
أن قوله { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } الواو هنا حالية ، فيه واو عاطفة فيه واو استئنافية
فيه واو فصيحة
الواوات في اللغة كثيرة
لكن هنا { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } الواو هنا حالية يعني أنكم اتخذتم العجل إلها حالة كونكم ظلمة
يعني لم تقدموا على هذا إلا بسبب الظلم الذي خيم على قلوبكم وفي قلوبكم
بعض الناس قد يتخذ إلها لكن من غير علم ، من جهل لكن أنتم { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } وهذه طبيعة بني إسرائيل ، ولذلك لما نجاهم الله من فرعون الدسيسة الخبيثة التي وقرت في قلوبهم بحب الشرك أظهرت ذلك بعدما نجوا وتخلصوا من فرعون ماذا قالوا ؟
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ {138}}
سبحان الله ! مازالت تلك الكلمة باقية حتى مضت سنوات وإذا بموسى يذهب ليأتي بالتوراة ولكن من في قلبه دسيسة لحب المعصية إذا لم يتعاهد هذا القلب بعلاجها فإنه يوشك أن يرجع إليها
وبالتالي فإنهم اتخذوا العجل إلها من دون الله عز وجل
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــ
الظلم ما معناه في اللغة ؟
الظلم في الشرع : وضع الشيء في غير محله الذي وضع له
وهنا ذكر الظلم ، لماذا ذكر الظلم هنا ؟لأن أعظم الظلم أن تشرك الله وهؤلاء أشركوا بالله كيف أشركوا بالله ؟ اتخذوا هذا العجل إلها
فالظلم ثلاثة أنواع :
أعظم أنواع الظلم : أن تشرك بالله ، أن تجعل معه ندا ، ولذلك قال لقمان يوصي ابنه : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
النوع الثاني : أن يظلم الإنسان نفسه بفعل الذنوب التي دون الشرك
النوع الثالث : الظلم الذي يتعدى به على غيره من حقوق الناس
ولذلك الظلم في الشرع : هو وضع الشيء في غير موضعه لأن هؤلاء لما أشركوا بالله وضعوا أنفسهم في مكان ليس هو المكان ليس في محله ، لم ؟
لأن القلوب والنفوس كما قال عليه الصلاة والسلام جبلت على الفطرة
في الصحيح ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة )
هذا هو معناه الشرعي
لكن ما معنى الظلم في اللغة ؟ الظلم في اللغة هو النقصان
والدليل من القرآن : { آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا }
أنبتت أكلها ولم تنقص منه شيئا ، وهذا المعنى اللغوي يصدق وضعه في الحكم الشرعي لأن الظلم نقصان ينقص من قدرك يحط من قدرك
مع أن بني إسرائيل علماء والعلم يرفع صاحبه { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ }
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ {175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ }
فالعلم رفعة إذا عمل به وهؤلاء لم يعلموا ولذلك نقص قدرهم وانحطت مكانتهم ، لأن العلم الحقيقي هو خشية الله ليس العلم الحقيقي هو ما يقوله الإنسان من وعظ أو تذكير لا شك أن هذا علم لكن العلم الحقيقي الذي ينتفع به الإنسان هو ما يطبقه
{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } العلماء من هم ؟
من يلقي الدروس والكلمات ؟ لا ، هو الذي يطبق ما تعلمه في الشرع هذا هو العالم ، ولذلك يقول السلف كل من عصى الله فهو جاهل
أبو جهل يلقب بأبي الحكم لأن عنده حكمة لكن لما جاء الإسلام كناه بأبي جهل مع أنه ذو حكمة
فالحكمة لا تنفع إلا إذا كانت في مسار الشرع
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــ
أنه قال هنا { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ }
الفائدة البلاغية هنا :
إذا أتت الجملة جملة اسمية فيختلف الحال في حكمها عن الجملة الفعلية
الجملة الاسمية أقوى من الجملة الفعلية وتفيد الثبوت والاستمرار
{ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } تفيد أن هؤلاء ثابتون ومستقرون على الظلم وهذا هو ديدنهم
أعطيكم مثالا لكي تعرفوا فائدة اللغة العربية :
قول الله عز وجل : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى }هذه جملة فعلية { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} وهي الشرك
لكن لما ذكر كلمة الله { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } جملة اسمية أتى بها جملة اسمية ، لأنها باقية مستقرة
مثال آخر :
إبراهيم عليه السلام لما أتته الملائكة سلموا عليه ورد عليهم السلام
{ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ }
هنا فيه فائدة :
إبراهيم عليه السلام لم يرد التحية بمثلها وإنما رد بأحسن منها
منهم سلاما ومنه سلام ؟ ما الفرق
{ قَالُوا سَلَامًا } هذه جملة فعلية يعني نسلم سلاما ، لكن هو أتى بالجملة الاسمية { قَالَ سَلَامٌ } الأصل سلام عليكم ، هذه جملة اسمية والجملة الاسمية أقوى في اللغة العربية من الجملة الفعلية ، هذه مزية لإبراهيم
كيف نعرف أن إبراهيم رد التحية بأحسن منها ولم يرد بمثلها ؟
{ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا }
لا يمكنك أن تعرف إلا عن طريق اللغة العربية لأن القرآن نزل باللغة العربية المبينة
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــ
{ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } أنتم ضمير مخاطب
فائدة لغوية لفظية :
أنتَ للمذكر
أنتِ للمؤنث
عندنا فتحة أنت وكسرة أنتِ للمخاطبة
كم بقي من حركة ؟ الضمة
ولذلك لما يأت ذكر المخاطبين نضم أنتما نضم التاء ، لما يأت الجمع نضم أنتم كما هنا { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ }
لا أحد يقول اللغة العربية والقواعد ما أفهمها كل شيء إلا الاعراب ، إذا لم تفهم الإعراب لم تفهم النحو ولم تفهم اللغة العربية لأن أصلا خلاصة النحو هو الإعراب من يعرف يعرب يعرف النحو ، من لا يعرف الإعراب لا يعرف النحو
فالقواعد العربية مفيدة جدا لطالب العلم