تفسير سورة البقرة ـ الدرس { 118 }
ــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {94} وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ {95} وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ {96}}
سورة البقرة / الآيات { 94 ـ 96 } ـ الجزء الرابع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مما تبقى من فوائد عند قول الله عن اليهود :
{ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {94} وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ {95} وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ {96}}
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــ
أننا أوضحنا في الدرس الماضي أن الوقف المناسب وألأفضل أن يوقف على كلمة {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } فهو أحسن من الوقف على كلمة حياة {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } { وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ }
فإن وقف على كلمة حياة فلتعلم أن الواو{وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } استئنافية
يعني بدأ كلام جديد فيكون المعنى {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } يعني أن اليهود أحرص الناس على حياة ثم تكلم عن صنف آخر وهم الذين أشركوا {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } لو وقفنا على {الَّذِينَ أَشْرَكُوا} وهو الأحسن فيكون المعنى أن اليهود أحرص الناس على حياة وأحرص من الذين أشركوا
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــ
أن قوله {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} الضمير يعود إلى من ؟ أيعود إلى المشركين أم إلى اليهود ؟ من الذي يتمنى ؟
{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} المقصود المشركون أم اليهود ؟
يحتمل أن المقصود هم اليهود ويحتمل أنهم هم المشركون
والأقرب أنهم المشركون {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} يعني المشركين لأمرين :
الأرجح هنا كما قلنا ترجيح أول أن الوقف على {الَّذِينَ أَشْرَكُوا} أحسن من الوقف على { حَيَاةٍ }
الترجيح الثاني {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } يعني الأمنية هنا وقعت من قلوب المشركين أم من قلوب اليهود في تعمير ألف سنة يحتمل هذا وهذا والأحسن أنه في سياق المشركين لأمرين :
الأمر الأول : وهي قاعدة في اللغة أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور
{ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } الضمير هنا أهم المشركون أقرب مذكور إلى هذا الضمير أهم المشركون أم اليهود ؟ المشركون
قد يخرج عن هذه القاعدة لكن الأصل أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور
الأمر الثاني : أن السياق يبين حرص اليهود على الحياة فإذا جعلنا الضمير يعود إلى المشركين فيكون المعنى أن اليهود أحرص الناس على حياة وأحرص من الذين أشركوا الذين يود أحدهم أن يعمر ألف سنة فيكون مطلب اليهود أن يعمر أكثر من ألف سنة
إذًا نخلص من هذا من حيث المعنى الإجمالي للآية :
أن اليهود أحرص الناس على حياة ، وأحرص من الذين أشركوا على الحياة
ثم إن هؤلاء اليهود يتمنون أن يعمروا أكثر من أمنية المشركين
المشركون يؤملون أن يعمروا ألف سنة هؤلاء اليهود يتمنون أن يعمروا أكثر من ألف سنة
ولماذا كان القياس بين اليهود وبين المشركين ؟
لأن المشركين يعرفون أن مصيرهم هو النار لأنه لا كتاب عندهم ولا مزية لهم ، بينما هؤلاء اليهود عندهم كتاب وفضلهم الله كما جاء في سور متعددة
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ {20}}
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ {47}}
سبحان الله ! إذا كان هؤلاء اليهود الذين عندهم كتاب ولهم هذه المناقب لو أنهم أطاعوا الله أحرص من الذين أشركوا الذين لا مزية لهم هذا يدل على حب اليهود للدنيا
ومن الدلائل على حبهم للدنيا :
أن من حرص على الحياة خاف من الموت ، وبالتالي يكون به صفة الجبن فمن كان حريصا على الحياة في المقابل يخاف من الموت وإذا خشي من الموت يكن جبانا في الإقدام
ولذلك ذكر الله عن هؤلاء في أواخر سورة الحشر {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ {14}}
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــ
أن محل الرغبة القلب
ولذلك قال { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } والود من أعظم درجات المحبة العشر
للمحبة عشر درجات من خوالص درجات المحبة الود فهذا يدل على أن محبة الدنيا قد وقرت وخلصت إلى قلوب هؤلاء اليهود
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــ
أنه قال جل وعلا هنا {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ }
{ لَوْ } : هنا فيه قاعدة في اللغة تفيدك بإذن الله تعالى ، الأظهر هنا أن{ لَوْ } هنا مصدرية غير شرطية
{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ} إذا أتت لو بعد كلمة الود فهي في الأصل مصدرية
فنأخذ لو المصدرية بما بعدها من الفعل ونسكب لو مع الفعل المضارع فيتولد لنا مصدر إذًا فيكون المعنى {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ }
{ لَوْ } مصدرية { يُعَمَّرُ } فعل مضارع ، يود أحدهم تعميره ألف سنة
{ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ {9} } { لَوْ } هنا مصدرية وقعت بعد الود يعني ودوا مداهنتكم
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} يعني ودوا كفركم
ويصح أن تكون هنا شريطة لكن المصدرية هنا أولى
فيصح أن تكون شرطية {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } جواب الشرط محذوف لكان أحب إليه لأن فائدة في لو الشرطية قد يحذف جواب الشرط للتعظيم والتفخيم
قول الله جل وعلا : {وَلَوْ تَرَى} ” لو ” هنا شرطية ، انتبه افهم اللغة حتى تفهم كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام
قال تعالى : {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} أين جواب الشرط ؟ لرأيت أمرا عظيما
يقولون : كأن جواب الشرط اختفى من شدة الهول
إذا كان الجواب اختفى من شدة الهول فكيف بك أنت يا ابن آدم {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} في مثل هذا السياق لعظم الهول
قول الله جل وعلا : {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ {1} حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ {2} كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ {3} ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ {4} كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ } بعض الناس يصل الآية هذه بالتي بعدها فيتغير المعنى فكأنه فهم {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ {5} لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ {6}} لا
قف لا تصل {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} وتقف {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ }
{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} هذه جملة منفصلة انتبه انظر إلى عظم اللغة العربية كيف تفهم بها كلام الله
{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} هذه واقعة في جواب قسم يعني والله لترون الجحيم
هذه منفصلة عن الأولى لا علاقة بها بآية {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ }
{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ }هنا { لَوْ } شرطية أين الجواب ؟
محذوف دل عليه ما قبله في صدر السورة
{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ } الجواب ما ألهاكم التكاثر
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــ
أن طول العمر ليس بمحمود وهو في الحقيقة ليس بمذموم على وجه الإطلاق ، فإطالة العمر ليست محمودة على وجه الإطلاق وليست مذمومة على وجه الإطلاق
ولذلك إذا دعوت الله لأحد أن يطيل عمره كره ذلك السلف حتى تقيدها : الله يطيل عمرك على طاعته ، أطال الله عمرك على طاعته
لأن بعضا من الناس قد يطول عمره ويزداد شرا ، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام كما عند الترمذي : (( خيركم من طال عمره وحسن عمله وشركم من طال عمره وساء عمله ))
والنبي عليه الصلاة والسلام قال كما عند البخاري (( إن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرا ))
إذًا لما تدعو الله أن يطيل عمرك تقول على طاعتك يالله
إذا أردت أن تدعو لأحد بإطالة العمرفقيدها
لكن لو قال قائل : النبي عليه الصلاة والسلام دعا لأنس ولم يقيد ؟
فنقول : إن دعوة النبي عليه الصلاة والسلام هنا مربوطة بالجمل الأخرى لأنه دعا له بالبركة وهذا يتضمن ان عمره يطول على خير وعلى عبادة
ولذلك كره الإمام أحمد لما قيل له أطال الله عمرك قال : لا ، لم ؟
لأن إطالة العمر قد تكون وبالا على الإنسان
ونحن نرى أناسا في الستين في السبعين في التسعين وهم أشر خلق الله
لكن لو قال قائل :
أيجوز أن أدعو لشخص بأن تدوم أيامه : أدام الله أيامك على طاعته أدام الله حياتك على طاعته ؟
لا ، ولو قيدتها بالطاعة لأن الدوام مستحيل لابن آدم ، لكن تدعو لإنسان بإطالة العمر قيدها بالطاعة : اللهم أطل عمره على طاعتك
لكن كلمة “اللهم أدم عمره أو حياته أو أيامه ” حتى لو قال على طاعته فخطأ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27}}
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــ
{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } ألف سنة
لماذا حدد ألف سنة ؟
إما أن تكون مبالغة لأن الألف سنة لها قيمتها وقدرها من باب التعيظم أو لأن المقصود من { الَّذِينَ أَشْرَكُوا } هم المجوس والمجوس يعظمون الألف ولذلك كانوا ينذرون أن يبقوا نارهم ألف سنة موقدة لا تطفأ لأنهم يعبدونها من دون الله
ولذلك لما دخلها سعد بن أبي وقاص في عهد عمر بن الخطاب دخل العراق ودخل قصر كسرى ونودي بالأذان فأطفئت نارالفرس التي لم تطفأ منذ ألف سنة
أتى الحق فدمغ حتى النار فأطفأها