تفسير سورة البقرة ـ الدرس ( 126 )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى :
{ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( 100 ) ولَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) }
سورة البقرة ـ ( 100 ـ 101 ) / الجزء الثاني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معنا في هذه الليلة تتمة تفسير قوله تعالى :
{ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( 100 ) ولَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) }
من الفوائد :
ــــــــــــــــــ
تشريف النبي عليه الصلاة والسلام إذ إنه أضيف إلى الله لكونه مرسلا من قبل الله
من الفوائد :
ــــــــــــــــــ
بيان صدق النبي عليه الصلاة والسلام فيما جاء به لأنه رسول من الله ، والله عظيم ولا يرسل إلا من هو عظيم في الصفات ، ومن هذه الصفات الصدق الذي لابد منه في الإخبار
ما هو الصدق ؟ هو الإخبار بما في الواقع ، الكذب هو الإخبار بخلاف الواقع ، فإذا كانت الرسالة أعطيها محمد عليه الصلاة والسلام فإنه لابد أن يكون صادقا ، ولذلك جاءت بعدها { مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ }
من الفوائد :
ــــــــــــــــــ
أن رسالة النبي عليه الصلاة والسلام مذكورة عند اليهود عند أهل الكتاب
أين الدليل ؟
هنا { ولَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ } فهذا يدل على أنه هو عليه الصلاة والسلام يعرفونه لأنه يصدق ما عندهم
ولذلك قال تعالى : { النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ }
من الفوائد :
ــــــــــــــــــ
بيان عظم منزلة النبي عليه الصلاة والسلام عند ربه ، لأن العندية في اللغة العربية تدل على القرب ، وعلى المكانة القريبة فهو قريب من الله لكونه رسولا أرسله جل وعلا إلى عموم البشر
ولذلك في الآية التي ذكرتها { النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {157} }
ما الذي بعدها ؟
بيان عموم رسالته عليه الصلاة والسلام {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وأكد بذلك بكلمة { جَمِيعًا }
وفي هذا رد على اليهود لأن اليهود يقولون مع أنهم كانوا يستفتحون على الأنصار بمجيئه عليه الصلاة والسلام فلما جاء ماذا قالوا ؟ هو نبي ورسول الأميين ، رسول العرب
من الفوائد :
ــــــــــــــــــ
أن تكذيبهم للنبي عليه الصلاة والسلام تكذيب لمن أرسله وهذا ما يسمى بالتلازم ، وهو أنه يلزم إذا كذبتم برسالته عليه الصلاة والسلام يلزم من ذلك أن تكذبوا من أرسله الذي قال هو رسولي وإن صدقتموه فإنكم صدقتم بالذي أرسله إليكم
من الفوائد :
ــــــــــــــــــ
بيان سخافة عقول اليهود لأنه قال جل وعلا هنا { مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ } ما الذي معهم ؟ التوراة فقلة عقولهم أنهم إذا كذبوا بالنبي عليه الصلاة والسلام وبما جاء به فيقعون في تكذيب كتابهم الذي هو التوراة ، لم ؟
لأن ما جاء به عليه الصلاة والسلام مصدق لما معهم ، إذا لم يأخذوا بما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام وهو مصدق لما جاء في كتبهم إذا هم لم يأخذوا بكتبهم فقد كذبوا أيضا بكتابهم
من الفوائد :
ــــــــــــــــــ
أن كلمة { نَبَذَ } معناها الطرح ، ولذلك يسمى هذا المشروب يسمونه قديما بالنبيذ لأنهم كانوا يلقون التمر في الماء حتى يحلو هذا نبيذ ، لماذا سمي نبيذا ؟ لأنه يطرح فيه التمر والنبيذ
فمعنى النبذ هو الطرح والذي يطرح لا يؤبه له ، فانظروا إلى حالهم أن هذا الطرح والإلقاء تبع مجيء النبي عليه الصلاة والسلام وجد مجيئه وجد طرحهم وتكذيبهم ونبذهم ، يعني لم يمعنوا النظر لم يأتملوا ، لم يتدبروا
لم ؟
لأن الأهواء غلبت على القلوب مع أنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا وكانت قلوبهم منفتحة لمجيئه فلما جاء وعلموا أنه من العرب وكانوا يظنون أنه منهم هنا أتى الهوى فلما أتى الهوى لم يقبل الحق ، ولذلك قال تعالى : { ولَمَّا جَاءَهُمْ } لما شرطية فعل الشرط جاء الجواب { نَبَذَ } لما جاء
{ نَبَذَ }كما لو قلت : لما جاء زيد أكرمته ، بمجرد ما جاء حصل الإكرام
هؤلاء بمجرد مجيئه عليه الصلاة والسلام كذبوا به
من الفوائد :
ــــــــــــــــــ
بيان عدل الله جل وعلا فإنه لما ذكر { نَبَذَ } هؤلاء وطرحهم وتكذيبهم للنبي عليه الصلاة والسلام وبما جاء به لم يعمم ؟ لأن هناك طائفة مؤمنة {مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ }
ما الذي أدرانا فيما مضى في الآيات السابقة بينا أن أكثر من نقض العهد هم الأكثرية وهناك طائفة لم تنقض العهد هنا تكذيب النبي عليه الصلاة والسلام وقع من فريق ما عدد هذا الفريق قليل أم كثير ؟ كثير
تدل عليه آية آل عمران :{ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } إذًا الأكثرية فسقت ونبذت وطرحت
من الفوائد :
ــــــــــــــــــ
أن التكذيب الواقع هنا ليس من أشخاص عاديين وهذا هو البلاء إذا لم يقبل الحق من عنده العلم هذه البلوى والمحنة
يعني لو كانوا عاديين أو جهال لكان الأمر يسيرا لكن ما تتمة الآية ؟
{ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } يعني أصحاب علم ، وصاحب العلم كان من الواجب عليه أن يكون قابلا للحق فقط ، لا ، بل يكون أسرع الناس قبولا للحق ؛ لأنه يعرف أنه حق ليس مجرد القبول فقط ، بل الإسراع في القبول قبل غيره ، هؤلاء لم يسرعوا ولم يقبلوا بل لم يكونوا جهالا بل حال الجهال أحسن من هؤلاء ، ولذلك تعظم الجريمة على قدر فاعلها في الدين ، ليس كغيره
ولذلك قال تعالى عن النبي عليه الصلاة والسلام : {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا {74} إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا {75}}
قدر زوجاته عليه الصلاة والسلام قدر عظيم : {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا {30} }
فصاحب العلم ليس كغيره ، ولذلك احذر ، وليس المقصود من صاحب العلم من لديه علم غزير أن تعلم ولو علما قليلا بأن ما قيل أو ما ذكر فهو حق فاقبله ولو كان من الأعداء
النبي عليه الصلاة والسلام قبل قول الأعداء لا لأنهم كفار ، لكن لأن الحق جرى على ألسنتهم فقبله ، وهذا كثير ، منها :
لما قالت اليهود إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشاء محمد فقال عليه الصلاة والسلام قولوا : ما شاء الله ثم شاء محمد
مع أن القائل من ؟ اليهود ، فقبل الحق
ــ ولذلك بلقيس قبل إسلامها : { قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } كلام حق مع أنها كافرة فصدقها الله قال
{ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ {34}}
كلمة الحق اقبلها لا يلعبن الهوى بقلبك لا تقل هذا الشخص عدو لي أو أنه ليس بسائر في نفس الطريق والتوجه الذي أسير فيه أنت لا تعظمه ، أنت تعظم الله بقبولك الحق وهذا هو التواضع ؛ لأنك إن لم تقبل الحق ولو من عدوك فأنت متكبر ؛ لما في صحيح مسلم : ( الكبر بطر الحق ) يعني دفع الحق ( وغمط الناس )
من الفوائد :
ــــــــــــــــــ
أن هؤلاء الذين أوتوا الكتاب { نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ} كتاب الله مفعول به لـ { نَبَذَ } ، من النابذ ؟ الذين أوتوا الكتاب
{ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ }
الفاعل هنا فريق الموصوف بأنه من أهل الكتاب ، ماذا فعل ؟
{ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ } كتاب الله نبذوه
ما هو كتاب الله هذا ؟ القرآن ، وقيل : التوراة وكلاهما حق
ولاشك أن الأظهر أنه القرآن لأن القرآن هو الذي أتى به النبي عليه الصلاة والسلام لأن السياق يدل عليه حتى لو قيل هى التوراة نعم نبذوا التوارة لأنهم لم يصدقوا بالقرآن الذي هو يصدق التوراة فلما لم يصدقوا بالقرآن هم في الحقيقة لم يصدقوا بكتابهم الذي هو التوراة
بل من الخزي ، أعوذ بالله من طمس البصائر ، اسأل ربك الثبات والهداية والتوفيق والسداد ، ولذلك أكثر ما كان يحلف النبي عليه الصلاة والسلام
( لا ومقلب القلوب )
وعند مسلم يقول ( اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك )
يعني هؤلاء لم ينبذوا كتاب الله فحسب ، نبذوه على أي حال ؟
وراء ظهورهم ، الذي يلقى وراء الظهر ليس له قدر ولا قيمة ، ولذلك قوم شعيب {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ {91} قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ {92}}
يعني لو أنهم نبذوه عن أمامهم أو عن يمينهم أو عن شمائلهم يمكن أن يكون هناك دواعي لقبوله فيما يستقبل لأنه في المتناول عن اليمين أو الشمال أو في المقابل ، لكن هؤلاء نبذوه وراء ظورهم
الشيء الذي يترك وراء الظهر لا يؤبه له ، ولذلك قال تعالى عن حال الناس يوم القيامة : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ }
يعني ما أعطيناكم أين القصور أين الأموال أين الجاه أين الوظائف أين الوزرات أين الرئاسة أين الملك أين الثراء ؟
{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } كيف خلقوا أول مرة ؟
عراة لا يملكون لباسا ولا طعاما { وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ }
لا يؤبه له انتهى
{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ {88} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ {89}}
هؤلاء اليهود قلوبهم سليمة ؟ قلوبهم مرضى
من الفوائد :
ــــــــــــــــــ
أن الله جل وعلا شبههم بالجهلة بل الجهلة أعظم منهم قال {كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } ” كأن ” للتشبيه ، ” كأن ” لها معان في اللغة : للتوقع ، للظن والشك ، أقول مثلا : كأن البرد قادم ــ توقع ، كأن السماء ستمطر ـــ توقع
وتكون للشك : إذا أتى بعدها اسم مشتق كاسم فاعل أو اسم مفعول كأن زيد قائم ، كأن زيدا مضروب
هنا للتشبيه { كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } شبههم الله عز وجل بالجهلة ؛ لأن حال هؤلاء حال الجهال بل إنهم أفظع من الجهال { كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}
يعني لو وقع هذا من جاهل لكان الأمر يسيرا لكن العالم هذا هو المشكلة