تفسير سورة البقرة ــ الآية ( 124 ) ــ الجزء الثاني
قوله تعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى :
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [البقرة:124]
من الفوائد :
ــــــــــــــــــــــــ
أن الابتلاء المذكور هنا لا يعني أن يقصر على ما لا يلائم العبد ، فإن الابتلاء قد يكون بالنعمة ، فلا يظن ظان أن ما أعطي أحد من نعمة أنها ليست ببلاء قال عز وجل { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }
ولذلك قال أبو حازم إني لا أحزن على ما فاتني من الدنيا فلعل ما منع عني في هذه الدنيا فهو خير لي ، فلقد رأيت أناسا كانوا على أحسن ما يكون فأتتهم هذه الدنيا فغيرت أحوالهم ، ولذلك قال عز وجل منكرا لما يتصوره ابن آدم من أن النعمة في جميع أحوالها أنها خير ، وأن المصيبة في جميع أحوالها شر { وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ } يعني ضيق { عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ } ما الجواب ؟ { كَلَّا } ليس الأمر كما يتصوره هذا الإنسان
ومن الفوائد :
ــــــــــــــــــــــــ
أن إبراهيم عليه السلام من سلالة نوح عليه السلام وقد قال السهيلي وابن عطية إن اسم إبراهيم معناه في العربية معناه أب رحيم ، ولعل هذا الكلام الذي قيل يؤيده أن إبراهيم هو كفيل لمن مات من أولاد المسلمين قبل أن يبلغوا ، ولذلك يقول العلماء هو أبو الأنبياء ، ومع أنه أبو الأنبياء فهو رحيم ، ولذلك في صحيح البخاري في حديث سمرة الطويل الذي رأى فيه النبي عليه الصلاة والسلام رؤيا ( فرأى رجلا وإذا به في روضة وعنده أولاد فقال من هذا ؟ فقال هذا إبراهيم وحوله أولاد المسلمين )
ومن الفوائد :
ــــــــــــــــــــــــ
أنه قال جل وعلا هنا { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ } الابتلاء وقع على من ؟
على إبراهيم ، من المبتلي ؟ هو الله ، المبتلى ؟ هو إبراهيم عليه السلام
ومن ثم : فإن كلمة { إِبْرَاهِيمَ } هنا مفعول به { رَبُّهُ } فاعل وهذه من الحالات التي يتقدم فيها المفعول على الفاعل ، وهنا كما قال العلماء في تقديم إبراهيم تشريف له عليه الصلاة والسلام إذ إنه بهذا الابتلاء شرف
لماذا شرف إبراهيم بهذا الابتلاء ؟ لأنه كما قال عز وجل لما ابتلاه بتلك الكلمات { فَأَتَمَّهُنَّ } ولذلك ماذا قال عز وجل { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى }
{ وَفَّى } ماذا ؟ ما ذكر هنا { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } فقام إبراهيم عليه السلام بهذه الكمات وأتمهن على الوجه المطلوب الذي يرضاه الله عنه ، وهذا فيه منقبة لإبراهيم عليه السلام ، وأثنى الله عليه وهذا إن دل يدل على أن من قام بشرع الله عز وجل وبقي على ما هو عليه دون أن تغيره الأحداث ودون أن تغيره الفتن حتى يلقى الله فإنه بإذن الله سيكون إماما كما كان إبراهيم ، وإن لم يكن إلى درجة إبراهيم لأن الإمامة درجات ، من أعظم تلك الإمامة النبوة
فمن لم تغيره الأحداث والفتن والشهوات والشبهات فسار على شرع الله فإنه سيكون إماما في الدين
والإمامة في الدين كما قال ابن القيم وقبله شيخه شيخ الإسلام لا تنال إلا بأمرين : الصبر واليقين ، ولذلك يقول ابن القيم يفسر تفسيرا أوضح وأبين يقول لأن ما يعتري ابن آدم إما شهوة وإما شبهة ، الشهوة ترد بالدين بالطاعة بالعبادة بالإيمان ، الشبهة ترد بالعلم ترد بالعلم ، فمن وقاه الله عز وجل الشبهة والشهوة ، فهنا الصبر مقابل الشهوة واليقين مقابل الشبهة لأنه هنا كما تكون الإمامة في الدين تكون في الشر ، قد يكون الإنسان إماما في الشر { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ }
فالشاهد من هذا : أن من سار على شرع الله عز وجل وأبقاه الله وثبته على الخير حتى يلقاه فإنه سيكون إماما بقدر ما عمل ، لأن الإمامة درجات في الدين وليست درجة واحدة
ومن الفوائد :
ــــــــــــــــــــــــ
أن إبراهيم عليه السلام كما قلت قبل هذا أثنى الله عليه بإتمامه تلك الكلمات ولأنه وفى ، كذلك هو أثنى عليه في مقامات كبيرة وكثيرة ، وقد ذكر عز وجل عن حاله كما قال عز وجل لما جرى ما بينه وبين أبيه آزر { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ }
لذلك ما يقال من أن إبراهيم شك فهذا خطأ لما رأى النجم ، لما رأى القمر بازغا ، لما رأى الشمس ، كلا ، كيف وقد قال { وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } بل قال عز وجل عنه { وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ } وهو صغير أتاه الله رشده فكيف يقع منه شك أو ريب ؟ ! وإنما تلك المناظرة التي في سورة الأنعام إنما هي من باب التنزل في المناظرة مع قومه
ولذلكم ماذا قال بعدها { إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) }
ومن الفوائد :
ــــــــــــــــــــــــ
ما هي تلك الكمات التي ابتلي بها إبراهيم فأتمهن ؟ واضحة هنا ؟
ليست واضحة ، اختلف فيها المفسرون اختلافا كثيرا كل على حسب اجتهاده ولكن لم يثبت دليل عليها ، لكن كل ما ابتلي به إبراهيم مما ذكره الله عز وجل لنا أو ذكره النبي عليه الصلاة والسلام فقد أتى به وأتمه على أكمل وجه ، من بين ما ابتلي به إبراهيم : ذبح ابنه إسماعيل ، ابتلي بصدود أبيه ، ابتلي بذلك الملك الظالم الذي عارضه في الله عز وجل
{ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } ابتلي بترك زوجته هاجر مع ابنه إسماعيل في واد غير ذي زرع ، ابتلي بإلقائه في النار
إذن : إبراهيم عليه السلام صار إماما ولن ينال أحد الإمامة إلا بالصبر وبحسن الختام ، فنسأل الله لنا ولكم التوفيق
ومن الفوائد :
ــــــــــــــــــــــــ
أنه قال هنا { فَأَتَمَّهُنَّ } أتى بالفاء ، الفاء تفيد في اللغة العربية في الأصل الترتيب والتعقيب ، تختلف عن الواو ، وتختلف عن ثم
لو قلت مثلا : جاء زيد وعمرو هما اشتركا في المجيء لكن ما تدري من هو الذي أتى قبل الأول ؟ لكن لو قلت جاء زيد ثم عمرو هنا الذي أتى أولا زيد ثم أتى عمرو لكن بعد مدة طويلة لأن ” ثم ” للتراخي للترتيب والتراخي ، أما الفاء فللتعقيب والترتيب ، من حين ما ابتلي به بهذه الكلمات أتمهن ، إذن هذا يدل على وجوب المسارعة إلى الخيرات
{ فَأَتَمَّهُنَّ } فقام بهن على الوجه المطلوب ولذا ننصح أي إنسان وهذا معروف كما هو مذكور في كلام الله فهو معروف من سيرة السلف ، متى ما وجدت في قلبك انشراحا وإقبالا على الخير من قراءة قرآن أو تعلم علم أو ما شابه ذلك فلتغتنم هذه الفرصة فلربما لا تتيسر لك ، نعم ، فمن وفق وأعطي الراحة والسعادة والإقبال والانشراح لعمل صالح طيب ولاسيما العلم الشرعي فاحرص ولا تتوان ؛ لأنه ربما يأتيك صارف من الصوارف فلا تستطيع بعدها أن تعمل هذه العبادة أو أن تطلب هذا العلم
ومن الفوائد :
ــــــــــــــــــــــــ
أنه قال هنا { بِكَلِمَاتٍ } كلمات الله نوعان : كلمات قدرية كونية متى ما أرادها وقعت ، وهناك كلمات شرعية دينية
الدليل على الكلمات القدرية الكونية في مريم { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا }
لم ؟ لأنه عز وجل لما أراد أن تنجب عيسى من غير أب { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
أما الكلمات الشرعية من ضمنها ما ذكر هنا : أمر كما قال ابن كثير أمر بهذه العبادات { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } فقام بهن على الوجه المطلوب
ومن الفوائد :
ــــــــــــــــــــــــ
أنه قال هنا { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } هنا إثبات صفة القول لله عز وجل بما يليق بجلاله وعظمته ، فهو يتكلم ويقول
ومن الفوائد :
ــــــــــــــــــــــــ
أنه قال { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } أتت هذه الجملة بعد ابتلائه لما ابتلي فصبر ووفى ما الثمرة ؟ ما الجزاء ؟ { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } ولذلك كل الأديان ترغب أن تنتسب إلى إبراهيم عليه السلام ، حتى نبينا عليه الصلاة والسلام أمر { أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
فكل الأديان وكل الملل تحب أن تنسب إلى إبراهيم عليه السلام .