تفسير سورة البقرة ــ الدرس الثاني والعشرون
تفسير قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {29} } البقرة 29
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسيرنا في هذه الليلة تفسير لقوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {29} }
من الفوائد :
أن الله ذكر لهؤلاء الآيات والعبر
فمما ذكر من العبر ما تقدم في الآية التي قبلها :
وهو أنه عز وجل بين أنه هو الذي أوجدهم من العدم وانه يتوفاهم وأنه يحييهم ثم مردهم إلى الله عز وجل
ولذلك قال عز وجل :
{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ }الذاريات21
ثم ثنى هنا بذكر علامة أخرى تدل على وجوده وأحقيته بأن يعبد جل وعلا
وهو خلقه للسموات والأرض
وهو جل وعلا إذا ذكر في كتابه علامة ذكر هذه العلامة تدل على قدرته جل وعلا وعلى وحدانيته
ولذلك قال عز وجل في آيات كثيرة :
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ }آل عمران190
{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ }
{ أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ْ
{ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا{27} }
والآيات في مثل هذا المعنى كثيرة
ولذا من وجد في قلبه قسوة وبعدا وانصرافا فعليه أن يتأمل في هذا الكون فلينظر إلى بديع صنع الله في هذه الصحارى وما اشتملت عليه من أودية وصخور ، وإلى السماء من عظيم صنعه من النجوم والسعة والأشكال والألوان
فهذا مما يزيد من محبته لله
وإذا أحب العبد ربه حرص على أن يطيعه وخاف غضبه وسخطه
ومن الفوائد :
أن هذه الآية المذكورة هنا { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا } تلتقي من حيث المعنى التام مع قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات56
إذًا :
خلقنا لعبادته وهوهنا ذكر انه خلق الأرض لنا
خلق الأرض لنا من أجل :
أن نلهو أن نلعب أن نعبث ؟
لا
خلق الأرض لنا وخلقنا لحكمة
هو جل وعلا خلق لنا ما في الأرض ليكون هذا المخلوق معينا لنا على عبادته عز وجل
ولذلك قال :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا }
ومن الفوائد :
أن الأصل في الأشياء :
الإباحة
والدليل هنا :
إذًا :
هو خلق لنا هذه الأرض ، وما عليها يدل على أنه أباحه لنا إلا إذا دل الدليل على أنه محرم
وهذا يدل على رحمة الله عز وجل بالخلق
ولذلك : في المعاملات :
ماذا قال تعالى ؟
{ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا }
فلم يرد عز وجل لنا عنتا ولامشقة ولا تعبا
لكن المشكل عند الناس أنهم ضيقوا على أنفسهم بأنفسهم :
لما تأتي مثلا إلى المعاملات :
المعاملات من حيث الأصل : حلال
لكن لماذا يحرم كثير منها مع أن الأصل في المعاملات الحل ؟
تصرفات الناس
لو أنهم أخذوا هذه المعاملة على الوجه الشرعي ما حرمت
فكونه عز وجل يخلق لنا ما في الأرض ويبيح لنا المعاملات إلا ما دل الدليل الشرعي على تحريمها
هذا يدل على أنه عز وجل أراد بنا اليسر
ولذلك في هذه السورة :
ماذا قال عز وجل ؟
{ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }
ومن هذا اليسر :
ما ذكر في هذه الآية
ومن الفوائد :
أن هناك آية تؤيد هذه الآية من حيث المعنى الذي ذكرته آنفا في الفائدة السابقة
وهي قوله تعالى :
{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ }الجاثية13
{ مِنْهُ } :
تفضلا وكرما وامتنانا
فإذا كان هو المتفضل أفيجدر بعبد تفضل الله عليه أن يعبد غيره ؟
أو أن يقدم هوى نفسه عل طاعة ربه ؟
لا يجدر به
ومن الفوائد :
أنه في هذه الاية كما أن الأصل في الأشياء الإباحة
الأصل في الأشياء : الطهارة
مثال :
لو أتيت إلى سجاد متسخ به وسخ عظيم وشككت هل هو نجس أو طاهر
ماذا عساك أن تفعل ؟
نقول : صل
الأصل في الأشياء الطهارة
لو أنك أتيت إلى بقعة من البقع واستربت في أمرها وأردت أن تصلي
نقول : صلِّ
فالأصل في الأشياء : الطهارة
كما أن الأصل في الأشياء :
الإباحة إلا إذا دل الدليل
لو أن الإنسان وجد على هذه الأرض دابة لم يأت الدليل الشرعي على تحريمها
أفيجوز له أن يأكلها ؟
نعم
ما رأيكم في الزرافة أيجوز أكلها أم لا ؟
لم يأت دليل من الشرع على أن الزرافة محرمة
وبالتالي فإن الأصل في الأشياء : الإباحة
السلحفاة :
جائز أكلها
إذًا هذه قاعدة :
” الأصل في الأشياء :
” الإباحة والطهارة إلا ما دل الدليل على تحريمه “
لو قال قائل :
وهي الفائدة التي تليها :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا }
إذًا :
ما فائدة العقارب والحيات والصراصير والمؤذيات ؟
ما فائدتها لنا ؟
هي محرمة
لم ؟
لأن الله قال :
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ }
وقال في وصف النبي صلى الله عليه وسلم :
{ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ }
لكن هو خلق لنا كل ما على الأرض
ما على الأرض :
عقارب حيات صراصير أشياء مؤذية مقززة
مزعجة
إذًا :
هو خلق لنا كل ما في الأرض :
إما للانتفاع به
أو للاعتبار
فنحن ننتفع مثلا ببعض النباتات ببعض الدواب
لكن العقارب والحيات للاعتبار
نعتبر
فإن مثل هذه الأشياء المؤذية التي تراها قد تجد مثيلا لها ونظيرا لها في النار أعظم وأشد
وهذا يدل إلى أن الله عز وجل خلق لنا ما في الأرض جميعا فننتفع به فنستعين به على طاعة الله
ثم في المقابل ما ليس بمحمود لنا ولا بمرغوب عندنا كالعقارب والحيات أيضا هي عندنا محل اعتبار وتذكرة وعظة لك بحيث لا تحيد عن هذا الطريق
ما هوالطريق
عبادة الله عز وجل
ومن الفوائد :
أن هذه الآية دليل على أنه عز وجل خلق الأرض والسموات
لكن في كم يوم ؟
في ستة أيام
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ }
في ستة أيام
ابتداؤها : يوم الأحد
ما الدليل ؟
ما الدليل على أن ابتداء الله لخلق السموات والأرض أنه يوم الأحد ؟
الدليل :
أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن آدم أتم الله الخلق به يوم الجمعة
فلما نحسب ستة أيام تكون البداية من يوم الأحد
لو قال قائل :
هو عز وجل قادر على أن يقول لهما كونا فتكونا
فلماذا في ستة أيام ؟
قال القرطبي :
” من أجل أن يعلم عباده التأني والترفق والتثبت “
هو قادر على أن يخلقهما بكلمة ” كن ” لكن أراد بذلك جل وعلا أن يعلم عباده أن يتثبتوا وأن يتأنوا وأن يترفقوا
” فالرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه “
ومن الفوائد :
أنه ورد عند مسلم :
أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :
((خلق الله التربة يوم السبت ، والجبال يوم الأحد ، والشجر يوم الاثنين ، والمكروه يوم الثلاثاء والنور يوم الأربعاء وبث الدواب يوم الخميس
وخلق آدم يوم الجمعة ))
كم يوم ؟
سبعة
والله جل وعلا يقول { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }
فكيف الجواب ؟
الجواب :
أن كثيرا من أهل العلم يرون أن هذا الحديث خطأ ، وإنما رواه أبو هريرة عن كعب الأحبار وليس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ويرى الألباني صحة الحديث ويقول :
هذه الأيام تختلف عن الأيام الستة المذكورة في كلام الله
بدليل :
أن هذه الأيام تتعلق بالأرض :
((خلق الله التربة يوم السبت ، والجبال يوم الأحد ، والشجر يوم الاثنين ، والمكروه يوم الثلاثاء والنور يوم الأربعاء وبث الدواب يوم الخميس
وخلق آدم يوم الجمعة ))
ومن الفوائد :
أن هذه الآية دليل على أن الله خلق الأرض قبل السماء ؟
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ }
دل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء
كم المدة ؟
{ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }
كم المدة في خلق الأرض وكم المدة في خلق السموات ؟
{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ {9} }
هذا الآن خلق الأرض
كم يوم ؟
في يومين
ثم ماذا قال عز وجل ؟
{ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) }
يعني :
أربعة أيام باليومين السابقين
يعني : هو خلق عز وجل الأرض في يومين
ثم ما عليها وما فيها من الأٌقوات في يومين
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا }
إذًا :
هو خلق عز وجل الأرض في يومين وما فيها من الأقوات في يومين
وخلق السموات في يومين
لكن بعض الناس قد يقرأ ما قاله الله في آخر سورة النازعات
{ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا }
أول ما ذكر السماء وقلنا أول ما خلق الله : الأرض
{ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) }
كأن الأرض خلقت بعد السماء
ولا تعارض :
أول ما خلق الله الأرض في يومين فتركها على حالها
ثم خلق بعد ذلك السماء في يومين
ثم بعد ذلك في يومين دحا الأرض بأقواتها وبما فيها
ولذلك قال :
{ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }
ما معنى دحاها ؟
اقرأ ما بعدها :
{ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) }
من الفوائد :
إثبات صفة الخلق لله عز وجل
ولو قال قائل :
هل المخلوق يخلق ؟
الجواب :
نعم المخلوق يخلق
الدليل :
قال تعالى : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } المؤمنون14
فدل ذلك على أن هناك خالقين سوى الله عز وجل
ولكن لتعلم :
أن الخلق نوعان :
خلق إيجاد من عدم
وخلق تقدير وتصوير
{ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } المؤمنون14
يعني :
المقدرين والمصورين لهذه النطفة التي تطورت من شيء إلى آخر
ولذلك في اللغة العربية :
خلق بمعنى : قدر
ثم إن خلق المخلوق يكون خلقا نسبيا لأن هذا الشيء الذي خلقه المخلوق هو في الحقيقة هو الذي خلقه عز وجل
لم ؟
لأن الله لما خلق المخلوق خلقه وخلق صفاته
ومن صفاته : الخلق
ولذلك :
قال عليه الصلاة والسلام :
(( إن الله خالق كل صانع وصنعته ))
فما يوجد من صناعات وتقنيات وتطورات إنما هي من صنع الله إذ يسر لهذا المخلوق أن أرشده ودله على الطريقة التي بها يصنع هذه الأشياء
ومن الفوائد :
وجوب الإيمان بالقضاء والقدر فيما يخص الرزق
أين موطن ذلك ؟
موطن ذلك أنه عز وجل لما خلق لنا ما في الأرض جميعا
هذا فيه طمأنة لنا أن رزقنا مقدر ومكتوب
ولذلك :
قال عليه الصلاة والسلام – كما في الحديث الحسن – :
(( إن الرزق ليطلب ابن آدم أكثر مما يطلبه أجله ))
فليكن الإنسان مطمئنا فيما يخص رزقه
فالله عز وجل قد تكفل بذلك
ولابن القيم رحمه الله كلام جميل حول الرزق يقول :
” تأمل حال الجنين يتغذى في بطن أمه من طريق واحد من طريق السرة
ما نوعية هذا الغذاء ؟
الدم
فإذا خرج من بطن أمه انقطع ذلك الطريق من الرزق
فيفتح الله له طريقين وهما :
ثديا أمه
ما مصدر غذاء هذين الطريقين ؟
اللبن السائغ اللذيذ الذي هو أفضل من الدم
فإذا انقطع هذان البابان أو هذان الطريقان بفطمه فتح الله له أربعة أبواب :
طعامان وشرابان :
فأما الطعامان :
فاللحم وما يشبهه
والنوع الثاني : النباتات وما يتفرع منها
وأما الشرابان :
فالماء
والثاني :
سائر المشروبات من الألبان والعصيرات ونحوها
فإذا مات ابن آدم انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة :
فإن كان لله تقيا عابدا منيبا مخلصا فتح الله له بدل تلك الأبواب الأربعة ثمانية أبواب وهي أبوبا الجنة يدخل منها حيث شاء
فلا يقلق أحد فيما يخص رزقه
ومن الفوائد :
أن في هذه الآية علاجا للبخلاء :
فإن من علم وأيقن أن الله خلق له ما على هذه الأرض فإنه ينفق
لم
لأنه يعلم أن ما على هذه الأرض له نصيب منها بينما إذا كثرت شهوات الإنسان وأصبح تطمح شهوته إلى شهوات أخرى فإنه في مثل هذه الحال يبخل لأنه يخاف إن أنفق أنه لا يأتيه شيء في اليوم التالي
ونسي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( ما من يوم إلا وملكان ينزلان ))
هذا كله يسير في معنى الآية (( إلا وملكان ينزلان أحدهما يقول : اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا ))
لم ؟
لأن هذا لما آمن الإيمان الكامل بهذه الآية أخلف الله عليه
بينما ذلك لما كان في إيمانه نوع من التقصير والقصور عوقب بأن يصاب ماله بالتلف
ومن فوائد هذه الآية :
أن الله لما خلق الأرض خلق بعدها السموات
ثم بعد خلق السموات دحا الأرض فأخرج ما فيها من النباتات وما شابه ذلك
ولكن لتعلم :
أن الله أول ما خلق الأرض ثم خلق السموات أن الأرض والسموات كانتا متلاصقتين
والدليل :
قوله تعالى في سورة الأنبياء :
{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا }
فأول الأمر :
كما قال بعض المفسرين :
السموات والأرض كانتا متلاصقتين ففتقهما الله عز وجل
وقال بعض العلماء :
إن كونهما رتقا – وهذا يتبع القول والمعنى الآخر – أنه عز وجل فتق السماء بإنزال الخيرات منها والأرض كذلك
ولذلك قال تعالى في أواخر سورة الطارق :
{ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ{11} }
ترجع بماذا ؟
بالمطر
{ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ{12} }
يتصدع منها النبات
ومن الفوائد :
أن الأصل في البناء أن يبدأ بالأعلى أم بالأسفل ؟
بالأسفل
وهنا بدئ بماذا ؟
بالأسفل
أول ما خلق الله الأرض
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ }
مما يدل على أن البناء الحقيقي يكون من الأسفل
ولذلك لما خلق الأرض جل وعلا بنى وخلق السماء
ومن الفوائد :
أن خلقه عز وجل للسماء من ماذا ؟
من دخان
الدليل قوله تعالى :
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }
لما خلق عز وجل الأرض ، والأرض بها الماء فتصاعد من هذا الماء بخارودخان فعلا يعنى سما على الأرض فخلق الله السماء من هذا الدخان
ومن الفوائد :
أنه عز وجل لما خلق السماء أودع فيها شيئا
في سورة فصلت :
{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا }
يعني :
ما يخص كل سماء من هذه السموات مما أراده الله أن يكون فيها قضى في كل سماء ما يخصها وما يناسبها
ولذلك
لما كانت السموات السبع لنا تعلق بها وبما يكون فيها من مصالح جمعت في القرآن بينما الأرض لم تذكر إلا مفردة لم تذكر على وجه الجمع
لم ؟
لأن الأرض التي نحتاج إليها هي العليا
بينما السفلى والتي تحتها لا علاقة لنا بها
ومن الفوائد :
أن جمهور المفسرين قالوا : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ }
يعني :
صعد وارتفع جل وعلا على السماء فخلقها
وقال بعض المفسرين من أهل السنة وهذا الرأي لا يخالف الطريقة التي سلكها أهل السنة والجماعة في إجراء اللفظ على ظاهره :
أن استوى هنا ليست بمعنى ارتفع وعلا
لم ؟
لأن الاستواء في القرآن إذا ذكر يذكر على ثلاثة أنواع :
إما أن تأتي كلمة استوى معدَّاة بحرف على فتكون بمعنى العلو والارتفاع والصعود :
{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }
هنا لا تفسير للاستواء إلا بأنه جل وعلا علا وارتفع على العرش
إذًا :
كلمة استوى عديت بحرف على
والنوع الثاني :
من مجيء استوى في القرآن :
أن تعدى بإلى فتكون بمعنى ( (قصد ))
قال هنا : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ }
يعني : قصد السماء
والنوع الثالث :
من معاني استوى في كتاب الله أنها تأتي من غير تعد
يعني :
تأتي مطلقة فتكون بمعنى التمام والكمال
الله لما ذكر شان موسى :
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى }
يعني : كمل وتم
كلمة استوى في القرآن ترد على ثلاثة معاني :
إن عديت بحرف على
{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }
فبمعنى الارتفاع والعلو
إن عديت بحرف إلى تكون بمعنى قصد كما هنا :
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ }
وإن لم تعد بحرف إنما أتت مطلقة فتكون بمعنى التمام والكمال
كما قال تعالى :
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى }
ومن الفوائد :
أنه جل وعلا عليم ونثبت هنا صفة العلم لله
ولكن هذا العلم علم مطلق واسع
ولذلك ماذا قال – { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
البقرة29
سبحان الله!
لو قال قائل :
ما علاقة ختام هذه الآية بأولها أو بثناياها ؟
الله خلق سبع سموات وأوحى في كل سماء أمرها وخلق سبع أرضين
وما بين السماء والأرض أشياء مع هذه المخلوقات العظيمة
قال الله عن الأرض :
{وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ }
الذاريات48
وقال عن السماء :
{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } الذاريات47
فهي واسعة الأرجاء ومع ذلك مع أنها واسعة الأرجاء وفيها سبع أرضين وسبع سموات تصور :
كم فيها من المخلوقات :
من حشرات
من حيوانات
من طيور
من إنس
من جن
من ملائكة
من
من
وكل صنف من مخلوق له طبيعته في الحياة
{ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } طه50
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم }
يعني :
النمل امة
النحل أمة
النسور أمة
الصقور أمة
كل أمة لها شانها في الحياة
كل صنف من هذا المخلوق له جزئيات
آحاد هؤلاء الأصناف من المخلوقين له طبيعته التي يختلف فيها عن الآخر
طبيعتي تختلف عن طبيعتك
طبيعتك تختلف عن طبيعة الآخر
نحن كبشر كبني أدم
ومع ذلك :
ما يلج في صدرونا
وما تفعله جوارحنا
وما تفعله المخلوقات الأخرى لا يخفى على الله منها شيء
ولذلك في الحديث الذي قال عنه الذهبي له طرق وصححه شيخ الإسلام في الفتاوى :
أن النبي عليه الصلاة والسلام اخبر أن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة
تصور :
لو أن إنسانا يسير بخيل خمسمائة سنة
كم يقطع من المسافة ؟
تلك المسافة هي التي بين السماء والأرض
وبين كل سماء والأخرى مسيرة خمسمائة سنة
وفوق السماء السابعة بحر :
ما بين أعلاه وما بين أسفله مسيرة خمسمائة سنة
والعرش على الماء
والله استوى على العرش
قال النبي عليه الصلاة والسلام – مع بعد تلك المسافة – قال :
(( ولا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم ))
ومن الفوائد :
أن من لوازم الخلق :
العلم
ما أول الآية ؟ { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ }
آخر الآية :
{ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
من لوازم من يصنع ويخلق أن يكون عالما
هذا المكبِّر من صنعه لابد أن يكون عالما
كيف يصنعه وإلا فإنه لا يمكن لوكان جاهلا
لو أردت أن أصنع مثله ما استطعت لأنه ليس عندي صفة العلم بتصنيعه
إذًا :
هو جل وعلا في أول الآية لما ذكر الخلق بين أن من لوازم من يخلق
أن يكون عالما
ولذلك في قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ }
انظروا :
أول الآية :
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ }
لم ؟
{ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا }
الطلاق12
بل من لوازم الخلق :
العلم والقدرة
قد تعلم كيف صنع هذا المكبر
لكن هل لديك قدرة على صنعه ؟
لا
ومن الفوائد :
أنه عز وجل لما كان عالما بكل شيء يدل على سعة علمه بكل شيء الموجودات والمعدومات
ولذلك :
قال عز وجل في أوائل سورة غافر عن الملائكة :
{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا }
قال ابن القيم :
جمع الله عز وجل بين سعة الرحمة وسعة العلم
لأنهما متلازمان
انظروا :
لأنهما متلازمان
لأن من يرحم عنده علم
ومن عنده علم يرحم
مثال :
لو أتانا شخص يسأل يطلب مالا بعضنا :لا يعطيه
وبعضنا قد يعطيه ويعطيه القليل
لم ؟
لأن بعضنا يشك ما عنده علم بحال هذا الشخص
فلم يرحمه
وبعضنا توسم بعض الأشياء الظاهرة فيه فعلم بعض الأشياء فرحمه بقدر ما علم به
لكن تصور :
لو علمنا علما يقينيا بأن هذا الشخص الذي أتى هو فقير ووقفنا على حاله
كيف تكون رحمتك له ؟
إذًا :
بقدر ما يكثر ويعظم علمك بالشيء تكون رحمتك لهذا الشيء
ولذلك :
هو جل وعلا رحمته عن علم
نحن قد نرحم لكن عن جهل
تصور :
لو أن ابني مثلا كان صغيرا في سن العاشرة والجو شديد البرودة وأتى وقت صلاة الفجر فلم أوقظه رحمة به
رحمة محمودة وإلا مذمومة ؟
مذمومة
رحمة من جهل جهلنا أن هذا الطفل أو أن هذا الفتى سينشأ في مستقبل أمره على تضييع الصلاة
لو أننا علمنا بان تربية الأبناء منذ الصغر بإذن الله على الصلاة بأنه يدعوهم إلى المحافظة ما تركناه
هذه رحمة عن جهل
لكنه جل وعلا رحمته عن علم
ولذلك قال ابن القيم :
“كلما زاد علم المخلوق بالشيء كلما ازدادت رحمته “
ولذلك :
أرحم الناس بالناس هم العلماء لأنهم علموا من شرع الله عز وجل ما هو نافع ومفيد للناس فأحبوا أن ينقذوا الناس مما هم فيه من الزيغ والضلال
وأعظم الناس شرا للناس هم الجهال
لاسيما إذا كان مع هذا الجهل حمق
فإنه في مثل هذه الحال تكون أضراره أكثر من منافعه
وبهذا الحديث نتوقف والله أعلم