تفسير سورة البقرة
تفسير قوله تعالى :
{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ{44}}
البقرة 44
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسرنا في هذه الليلة لقوله تعالى :
{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ{44}}
وقبل أن أذكر فوائد هذه الآية بعض الإخوان أظن نسيانا قد يشبك بين أصابعه حال انتظار الصلاة وهذا منهي عنه
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام : (( من توضأ في بيته ثم خرج إلى الصلاة فلا يشبكن بين أصابعه ))
وبالتالي فإن التشبيك بين الأصابع منهي عنه من حين ما تخرج من بيتك إلى المسجد منهي عنه
إذا أتيت إلى المسجد وأنت تنتظر الصلاة منهي
داخل الصلاة منهي عنه
متى يجوز ؟
بعد الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فمن فوائد هذه الآية :
{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ{44}}
هذه الآية أتت في سياق اليهود فإن اليهود يدعون الخير ويأمرون به غيرهم
كيف يكون ذلك ؟
قال بعض ا لمفسرين :” كان اليهودي الذي هو العالم إذا أتاه قريبه يسأل عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال إنه حق فاتبعه ، لكن لو أتى شخص غريب قال : ” إنه ليس برسول
ثم هو في نفسه لا يعترف بأنه رسول
لم لا يعترف ؟
لأنهم يخشون أن يفوتهم ذلك العطاء الذي يأخذونه من سفهائهم فظنوا لو أنهم أقروا برسالة النبي عليه الصلاة والسلام أن تلك العطايا التي تؤخذ بهتانا وظلما من العوام ومن الضعفاء يظنون أنها ستذهب .
ولذا :
في الآيات التي قبلها :
(( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ))
ما هو الثمن القليل ؟
الدنيا كلها كما قال الحسن البصري يقول الدنيا كلها ثمن قليل
ومن الفوائد :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن الاستفهام هنا المذكور في الآية : (( أتأمرون الناس )) إنكاري إنكار على من ؟
على اليهود يأمرون الناس ويتركون أنفسهم وكان الأحق بالنصح وبالخير :
القريب أم البعيد ؟
القريب
وأقرب ما لك نفسك التي بين جنبيك
ولذلك :
من لم ينصح لنفسه يخسرها
ألم يقل الله عن أهل النار : (( خسروا أنفسهم ))
لأنهم لم يعملوا بطاعة الله في هذه الدنيا
ومن الفوائد :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن كلمة الناس مر معنا اشتقاقها :
من أربعة معاني :
نحن سمينا بالناس لأن بنا ولأن فينا أربع صفات وهي موجودة في الواقع :
الناس كلمة الناس في اللغة تطلق على :
النسيان :
ونحن ننسى
(( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل ))
ولذا :
في الحديث : (( نسي آدم فنسيت ذريته ))
المعنى الثاني من معاني الناس :
الأنس :
لأن بعضنا يأنس ببعض
فلو كان الإنسان وحيدا فريدا ما أنس
وأعظم ما يأنس الإنسان به أن يأنس بطاعة ربه
نعم
من وصل إلى هذه المرحلة ما نظر إلى غيرها :
شيخ الإسلام:
حبس في آخر حياته حبس أكثر من مرة لكنه في الحبسة الأخيرة ضيق عليه وأخذت منه الكتب ، ومنعت منه الأقلام والأوراق
فاشتغل بقراءة القرآن فقط ما عاد يكتب كان يؤلف كتبا في السجن كان يؤلف من قلبه من حفظه ألف كتاب :
(الصارم المسلول على شاتم الرسول ) من الكتب الكبيرة أكثر من خمسمائة صفحة وذكر آثارا عظمى من قلبه
قال العلماء : ولم يؤثر عنه غلط في هذا الكتاب
فمنعت منه الكتب ما عنده كتب ما عنده أوراق فاشتغل بقراءة القرآن
يقول ابن القيم : ” كان أخوه معه قد حبس يقول : ” والله لقد رأيت منه أشياء عجيبة والله لولا غضبه وسخطه علي إذا ذكرتها لذكرتها لكنه كان لا يحب هذا من الكرامات التي حصلت لكن ما كان يريد أن تذكر وهذا يدل على الصفاء والنقاء
فيقول ابن القيم :
” وهو من طلابه ” يقول ” كنا إذا اشتدت منا المخاوف وساءت بنا الظنون “
يعني : إذا أصابنا الهم والقلق يقول ” أتيناه في السجن فما هو إلا أن نكلمه ويكلمنا حتى يذهب عنا ذلك كله “
السجين يخفف هموم الزائر ؟
أي أنس
المفروض أن يكون العكس
ولذلك :
ماذا قال :
قال : (( إن حبسوني فخلوة وإن قتلوني فشهادة وإن نفوني فسياحة))
يقول : ” والله لو نفوني إلى قبرص لدعوت أهلها فأسلموا ))
الشاهد من ذلك :
أنه كان يقول لطلابه إذا أتوه قال: ” المحبوس هو من حبس قلبه عن طاعة الله والمأسور من أسره هواه “
إذاً :
نحن الناس يأنس بعضنا ببعض
لكن :
لنحرص على تمرين وتدريب قلوبنا على أن تأنس بالله حتى لا تحتاج إلى أحد
حضر فلان
غاب فلان
حضرت فلانة
غابت فلانة
تجد أنك في سعادة عظمى لكن تحتاج إلى مجاهدة كبرى
المعنى الثالث من معاني الناس :
الحركة :
ولذا قالت أم زرع : (( أناس من حلي أذني ))
يعني :
أن زوجها أعطاها من الحلي العظام لدرجة أنها إذا مشت تتحرك أو يتحرك هذا الذهب
ونحن لا ننفك عن الحركة أبدا
لا يمكن لأي إنسان أن ينفك عن الحركة لابد أن تنشغل
إن لم تشغل نفسك بالخير اشتغلت بغيره
لا يمكن أن يبقى الإنسان هكذا
ولذلك :
يقول عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم :
(( كل الناس يغدو ))
ما في أحد يقف لكن الناس صنفان :
(( فبايع نفسه فمعتقها ))
النوع الثاني (( أو موبقها ))
يعني مهلكها
ولذا :
إذا أردت أن تعرف حركة الناس اصعد إلى سطح بيتك إذا كان بيتك قريبا من الشارع العام وانظر كيف السيارات
يعني : تصور لو أن إنسانا لو أنه واقف مثلا في الطريق العام بالسيارة والناس يذهبون ألم يتصور الإنسان في يوم من الأيام أن هذه الحركة ستقف ؟!
لكن أين يذهب هؤلاء ؟
ما أكثر ذهابهم إلى الدنيا
لكن أين ذهابهم إلى أماكن الطاعة قليل
لو نظر إلى حال السلف وجد أن الحال يختلف
هم يذهبون لكن إلى أين إلى أماكن الخير
والنوع الرابع من معاني الناس :
الظهور
قال : (( إني آنست نارا ))
يعني أبصرت نارا
ولذا :
كل منا يريد أن يكون ظاهرا بارزا
في هذا الزمن كل يحب أن يشتهر وكل يود أن له صولات وجولات ومناقب
لكن من حيث الأصل يكون ظاهرا
لكن لا يسعى الإنسان إلى الظهور لأن الظهور الذي يقصد منه الإنسان العلو والشهرة هذا لا خير فيه
ومن الفوائد :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن كلمة البر اسم جامع لكل خير
التقوى : اسم جامع لكل خير
الله يقول : (( وتعاونوا على البر والتقوى ))
جمع بينهما فما معنى البر هنا وما معنى التقوى هنا ؟
لأنهما اجتمعتا
بينما لو أتت كلمة البر وحدها اسم جامع لكل خير
التقوى إذا أتت وحدها اسم جامع لكل خير
فإذا أتى البر والتقوى في آية واحدة فاعلم :
بأن البر : هو طلب فعل الخير
والتقوى : طلب ترك الشر
ومن الفوائد :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن النسيان نوعان :
وسبق ذكرهما :
النوع الأول : ذهول العقل عن الشيء
النوع الثاني : الترك
قد تقول لإنسان نسيت هذا الشيء يعني تركته وليس ذهولا
ما الدليل على أن من معاني النسيان الترك ؟
هذه الآية :
(( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ))
ما معنى وتنسون أنفسكم ؟
تتركون
ومن الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنه قال عز وجل هنا : (( وأنتم تتلون الكتاب ))
يعني : لو لم يتل هؤلاء الكتاب يجوز لهم هذا الفعل ؟!
الجواب : لا
لكن لماذا قال : ( وأنتم تتلون الكتاب )
هنا قيد لإقامة الحجة على هؤلاء فأنتم يا أهل الكتاب أولى من غيركم باتباع الحق فهذا تنديد بهم
مثل ما قال عز وجل :
((وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ))
طيب إذا كان لديه برهان له أن يدعو غير الله ؟
الجواب : لا
لكن لماذا قال ((لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ )) ؟
لأنه لا يمكن أن يأتي ببرهان أو دليل على جواز دعاء غير الله فيكون هذا أنكى له
ولذا قال السلف : ” من عصى الله من علماء هذه الأمة ففيه شبه من اليهود ، ومن عصى الله من عباد هذه الأمة ففيه شبه من النصارى ”
ولذا :
لو قال قائل :
لماذا وصف الله اليهود أو حكم عليهم بأنهم مغضوب عليهم ؟
لأنهم عرفوا الحق فتركوه
ومن الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أتقديم الخير للغير على النفس جنون أم صواب ؟
جنون
ولذا ختام الآية :
(( أفلا تعقلون ))
ليس من العقل أن تقدم الخير لغيرك وأن تبذله لغيرك ثم إذا بك لا تقدمه لنفسك
ومن الفوائد :
ـــــــــــــــــــ
أن النبي عليه الصلاة والسلام بين عقاب من علم بالشيء فأمر به وترك نفسه
قال عليه الصلاة والسلام : ( (يؤتى بالرجل يوم القيامة فتندلق أقتاب بطنه في النار _ يعين أمعائه _ فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى ))
حمار يحمل أسفارا للمشاق يدور بالرحى حتى يطحن الحب لأنه لم يستفد شيئا
( (يا فلان ما بالك ؟ قال : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه ))
ولذا عليه الصلاة والسلام كما عند ابن حبان رأى ليلة أسرى به رجالا تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار
من هؤلاء ؟
قال : خطباء أمتك الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وينسون أنفسهم ))
ومن الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لو أن الإنسان كان على معصية أيحق له أن ينهى غيره عنها
تصور :
لو أن إنسانا يشرب الدخان فأتى إلى إنسان آخر يشرب الدخان وقال : يا أخي اتق اله الدخان حرام
أيجوز له أن ينكر أو أن يسكت ؟
قال ابن كثير قال : ” أنت أيها العبد مأمور بأمرين :
بأن تفعل المعروف وتترك المنكر
الأمر الثاني : أن تدعو للمعروف وتنهى عن المنكر
فيقول : ” كونك واقعا في المنكر لا يعني أنك لا تنكر المنكر
يقول هذا خطأ حتى لا تجتمع عليك سيئتان
سيئة الوقوع في المنكر
وسيئة عدم إنكار المنكر
فأهون الشرين :
أنك تنكر ولو كنت في المنكر
لو كنت في المنكر أنكر هذا المنكر الذي أنت واقع فيه حتى لا تجتمع عليك سيئتان
فتكون الدرجات هنا درجة من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لكن يخالف
هذا سوء وله عقاب كما جاء بذلك الحديث
الأسوأ منه :
أنه يفعل المنكر ولا ينكر هذا المنكر الذي هو واقع في جنسه
ومن الفوائد :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن هذه الآيات التي ترد علينا مما يذكره الله عن الأمم السابقة أو عن من انتحل نحلة من النحل علينا أن نستفيد منها حتى لا نقع في مثل ما وقعوا فيه .