تفسير سورة البقرة ـ الدرس ( 53 )
تفسير قوله تعالى :
{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ{58} فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ{59} }
البقرة 58 ، 59 ( 1 )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسيرنا في هذه الليلة لقوله تعالى :
((وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ{58} فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ{59} ))
قبل أن أشرع في تفسير هاتين الآيتين وما تحتهما من فوائد بقيت معي فائدتان في الآية السابقة
الآية السابقة كما ذكرت لكم هي تتعلق بما جرى لبني إسرائيل في التيه لما أمرهم الله أن يدخلوا الأرض المقدسة فنكصوا على أعقباهم جبنا وخوفا تاهوا في الأرض أربعين سنة وأوضحنا ذلك بالتفصيل في الدرس الماضي
فقال تعالى مبينا عظيم نعمه عيهم إذا أغدق عليهم النعم في ذلك التيه :
((وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ{57} ))
مما تبقى تبقى فائدتان في قوله ((وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ{57} ))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما معنا في هاتين الآيتين :
فمن الفوائد :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن بني إسرائيل لما تاهوا في الأرض أربعين سنة من عصيانهم من أن يدخلوا الأرض المقدسة بيت المقدس انقرض هذا الجيل فأتى جيل آخر من ذرية هؤلاء العصاة فكرر عليهم الأمر كرر الأمر على هؤلاء الذرية :
((وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ ))
ما هي هذه القرية ؟
بيت المقدس الذي أمر أجدادكم أن يدخلوها فعصوا فعاقبهم الله بالتيه في الأرض أربعين سنة .
فما الذي جرى ؟
الذي جرى أن يوشع وهو فتى موسى الذي ذهب معه لمقابلة الخضر كما قص الله في سورة الكهف كان قائدا للجيش فغزا تلك القرية ومن معه من سلالة هؤلاء القوم وقد ذكر ذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين :
وكادت الشمس أن تغرب و كان ذلك يوم الجمعة ومعلوم أن العمل على اليهود في يوم السبت محرم فلو غربت شمس ذلك اليوم عليهم لما جاز لهم أن يستمروا في القتال
فماذا قال يوشع ؟
قال : (( اللهم إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم فاحبسها )) فحبس الله الشمس فلم تغرب حتى فتح الله عليهم
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما عند أحمد قال : ” ما حبست الشمس إلا ليوشع ليالي ذهابه إلى بيت المقدس “
ما حبست الشمس لأحد
لو قال قائل :
ورد حديث أن موسى عليه السلام لما أخذ عظام يوسف وقد ذكرنا ذلك لكم من أجل أن يعبر البحر وأظلم عليهم الليل حتى قيل له إن يوسف أخذ عليهم العهد ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه فقال : أين هي
قالوا : هي عند عجوز
يعني : خبر هيه العظام عند عجوز
فأخبرتهم تلك العجوز أن العظام في تلك البحيرة فنقلوا العظام
الشاهد من هذا :
أن الشمس حبست لموسى حتى يتمكن من أخذ عظام يوسف لكن هذه الزيادة لم تصح
إذاً :
ما أثر من أن الشمس حبست لموسى عليه السلام حتى ينقل عظام يوسف لا تصح
لو قال قائل :
ورد أن الشمس حبست من أجل داود عليه السلام
نقول :
أيضا هذا لا يصح
لو قال قائل :
حبست الشمس من أجل سليمان
(( قال ردوها علي ))
يعني : حبست الشمس من أجل أن يصلي صلاة العصر التي فاتته بسبب الخيول
فالجواب عن هذا :
أن هذا لا يصح وأن قوله : (ردوها علي )) ما هي ؟
الخيل
وما ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أسري به من مكة إلى بيت المقدس وأخبرهم أن علامة صدقه أن عيرا لهم من تجارة ستقدم قبل طلوع شمس ذلك اليوم فكادت الشمس أن تطلع فحبست للنبي عليه الصلاة والسلام حتى قدم العير ورأوها قبل لأنه قال : ” ستأتيكم عند شروق الشمس “فحبست من أجله عليه الصلاة والسلام
هذا الحديث مختلف فيه
لكن يقول ابن حجر هو عند الطبراني بإسناد حسن
فدل هذا على أن الشمس لم تحبس فيما مضى إلا ليوشع
أما نبينا عليه الصلاة والسلام على القول بصحة ذلك فإنه يختلف عن غيره
لو قال قائل : كيف حبست الشمس ؟
هل تأخرت رجعت إلى مدارجها الأولى أو أنها وقفت أو أنها تباطأت في المشي ؟
العلم عند الله ما يدرى لكنها حبست هذه الشمس إما : أنها ردت على أدراجها حتى يكون الفارق متساويا في الزمن وإما أنها وقفت وإما أنها تباطأت في المشي
على كل حال
يوشع فتح بيت المقدس
إذاً :
أتى وقت الدخول ونصره الله على هؤلاء القوم الجبارين
فقال تعالى :
((وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً ))
لو قال قائل :
ما هي هذه القرية ؟
بيت المقدس لدلالة ما جاء في سورة المائدة :
((يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ))
وأيضا يدل له أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن يوشع ذهب إلى بيت المقدس لفتح هذه القرية
ومن الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن الله أمرهم بأن يدخلوا هذه القرية الأمر هنا أمر بالدخول في سورة الأعراف
لو تأملنا لوجدنا أن هناك فروقا بين هذه الآية وبين هاتين الآيتين وما ذكر في سورة الأعراف :
هنا :
((وَإِذْ قُلْنَا ))
في سورة الأعراف :
((وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ))
هنا : (( ادخلوا ))
هنا :
(( اسكنوا ))
هنا :
((فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً ))
هناك ما ذكرت كلمة الرغد
هنا :
قدم السجود
وهناك :
قدم الحطة
وهناك :
من دون ذكر الواو ( سنزيد المحسنين )
وهنا بالواو ” وسنزيد المحسنين
هنا :
((فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً ))
هناك :
((فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ))
هنا :
((فَأَنزَلْنَا ))
في سورة الأعراف :
((فَأَرْسَلْنَا ))
هنا : صرح :
((فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ))
هنا :
((فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ )) بضمير الغيبة
هنا :
((يَفْسُقُونَ{59} ))
هناك:
(يَظْلِمُونَ{162}
الفروق هذه فيها فائدة ؟
أكيد فيها فائدة إذا فرغنا إن شاء من ذكر فوائد هاتين الآيتين ذكرنا الفروق
ومن الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنه قال هنا ” القرية ” القرية في اللغة العربية من قريت الماء إذا جمعته لأن القرية تجمع طائفة من الناس
ما الفرق بين القرية وبين المدينة ؟
قال بعض علماء اللغة :
الفرق بين القرية وبين المدينة :
أن القرية من يسكنها القلة من الناس
بينما المدينة هي التي سكنها الكثير من الناس
ومن الفوائد :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنه عز وجل قال : ((فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً ))
يعني : الرغد ما هو ؟
هو الشيء الكثير الواسع ففيه إشارة إلى أن الله أباح لهم ما يشاءون مما يكون في هذه القرية والكل يتنوع ربما أنك تأكل نظير شيء فكأنهم في هذه الآية أمروا أن يأكلوا بما نتجته هذه القرية وأيضا لهم أن ينقلوا محاصيلها إلى ما شاءوا من الديار الأخرى فيعتاضوا بما يصرفونه يعتاضون عنه ببضاعة أخرى فجعل لهم الأمر موسعا ميسرا مسهلا
ومن الفوائد :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال : ((فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً ))
رغدا هنا فيه شيء محذوف
الأصل : ((فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ــ أكلا ــ رَغَداً ))
أكلا مصدر وهو الموصوف
إذاً : رغدا صفة
لو قال لك قائل في اللغة العربية ائتني بصفة حذف الموصوف منها فقل هذه الآية :
((فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً ))
الأصل :
((فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ــ أكلا ــ رَغَداً ))
ما إعراب رغدا ؟
رغدا : صفة لموصوف هذا الموصوف محذوف لدلالة السياق عليه
ومن الفوائد :
ــــــــــــــــــــــــــــ
أن الله عز وجل أمرهم حال دخول القرية أن يدخلوها على أي وصف ؟
سجدا
حال الدخول أيمكن للإنسان أن يسجد على الأعضاء السبعة ؟
لا يمكن
إذاً :
يقصد من ذلك الركوع والتواضع والاستكانة
وهذا يدل على ماذا ؟
يدل على أن المسلمين واجب عليهم إذا دخلوا أي قرية فتحوها وطهروها من الشرك وأهله أن يدخلوها متواضعين متذللين خاضعين لله لا أن يقابلوا هذه النعمة بالكفران
لأنه مما سبق في السنوات المتأخرة أنه لما ينتصر بعض المسلمين على الكفار نجد أنهم يقابلون هذا النصر بالرقص بالمزامير وهذا ليس من شكر النعمة وإنما لو رأى إنسان حال النبي عليه الصلاة والسلام كما ذكر أهل السير لما دخل مكة فاتحا لها دخل عليه الصلاة والسلام بماذا ؟
بتواضع وبسكون
حتى قال بعض الأنصار : اليوم يوم الملحمة
فغضب عليه الصلاة والسلام
فقال عليه الصلاة والسلام : (( اليوم يوم المرحمة ))
لا يوم الملحمة
ولذلك :
لما دخل مكة ماذا فعل في بيت أم هانئ ؟
صلى ثمان ركعات سماها بعض العلماء هي صلاة الفتح يعين يندب لمن كان أميرا من المسلمين وفتح بلدة من بلدان الكفر أنه إذا دخل يدخلها متواضعا وأن يصلي ثماني ركعات شكرا لله
ولذلك :
سعد بن أبي وقاص لما فتح الفرس ودخل قصر كسرى ونظر ورأى ذلك القصر المنيف ورأى تلك الجواهر ورأى الدنيا قال :
((كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ{25} وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ{26} وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ{27}))
يعني: لو أنهم اتقوا الله عز وجل لبقيت لهم هذه الدنيا
فماذا صنع ؟
صلى ثمان ركعات شكرا لله عز وجل
العجيب :
من حال الصحابة لأن القلوب إذا امتلأت بالإيمان فعلت الأعاجيب
يعني : لما فتحوا الفرس رأوا الدنيا إمامهم عاصروها عايشوها
رأوا ما فيها فما غيرت فيهم لا خلقا ولا دينا ولا إيمانا ولا سلوكا بينما نحن العالم بعيد عنا وإنما هو قريب منا بهذه الوسائل وسائل التواصل فماذا صنعت بنا ؟
غيرت كثيرا من أحوالنا
غيرت كثيرا من سلوكيات شبابنا
إذاً :
ما يميز الإنسان هو ما يحمله في قلبه من خضوع وخشوع لله
فالقضية والله ليست قضية العالم الخارجي انفتح علينا وأصبحنا في العالم كالقرية الواحدة
لا القضية قضية إيمان قضية تعظيم لله
وإلا فالصحابة فتحوا فارس وفتحوا الروم وفيها بنات الأصفر من أجمل النساء وفتحوا الفرس ورأو ا زخارف الدنيا كلها ومع ذلك ما فعلت بهم شيئا بل إنهم سطروا أروع ما يكون من العظمة
ولذلك :
لما جمعت الغنائم والكنوز أمام سعد بن أبي وقاص أتى رجل بصندوق مليء يعني يساوي أو يعظم ما جمعوه
فقال هذا وجدته في ناحية من نواحي القصر
فلما رآه سعد رأى ما فيه من الجواهر والدرر
قال : ما اسمك حتى أذكرك لعمر فيكافئك
فقال : والله لو أردت المكافأة ما رأيت هذا الصندوق أنت ولا عمر
لو كافأني عمر كم سيعطيني لن يعطيني الشيء الكثير
والله لو أردت المكافأة ما رأيت هذا الصندوق أنت ولا عمر
فولى الرجل فقال سعد : اتبعوا هذا الرجل
فتبعوه حتى عرفوا من أصحابه أنه عامر بن عبد الله التميمي من الزهاد
فالشاهد من هذا :
أنهم جمعوا هذه الغنائم وأرسلوها إلى عمر في المدينة فلما رآها ورأى هذه الجواهر
قال وعلي موجود في مجلسه قال : إن قوما ردوا هذا إنهم لأمناء
فقال علي : يا أمير المؤمنين عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا
فالشاهد من هذا :
أن الله أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة شكرا لله على هيئة التواضع والخضوع والذل
ثم هنا عبر بالذل حتى قال بعض المفسرين أنهم أمروا بالسجود على الأعضاء السبعة
كيف ؟
قالوا : لأنهم بعد الدخول يؤمرون بالسجود
هذا السجود ما هو ؟
سجود الشكر
وأقرب كما عند مسلم : (( وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ))
ولذلك:
أذل ما يكون من الذل والانصياع والانطراح بين يدي الله السجود والركوع
ولذلك القرآن لا يقرأ لا في الركوع ولا في السجود كما في حديث علي :
” نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يقرأ القرآن في الركوع والسجود “
لم ؟
قال شيخ الإسلام : ” لأنهما مقام ذل والقرآن لا يتناسب مع حالة الذل لأنه كلام الله “
ولذلك نهي المسلم أن يقرأ القرآن وهو راكع وهو ساجد