التفسير الشامل ـ تفسير سورة ( الحجرات )
الدرس (236 )
فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير سور الحجرات، وهي من السور المدنية…..
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} هنا نهي للمؤمنين أن يقدموا أي قول، وأي فعل على ما شرعه الله، وشرعه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على ماذا؟ على التحذير من الابتداع والخرافات، ولذلك لأن هذا الدين كامل{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، ولذا قال {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} وأمرهم بتقوى الله {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فهو سميع لجميع أقوالكم وعليم بأحوالكم، ومن ثم فإنه لا يجوز لأحد أن يتعدى على شرع الله بزيادة أو بنقصان، لا من حيث القول، أو من حيث العمل.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي صلى الله عليه وسلم} يعني لما ذكر في الآية السابقة النهي عن التقدم عليه بقول أو فعل قال هنا إذا تكلمتم مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته، ولذلك حتى بعد مماته عند قبره، ولذلك عمر رضي الله عنه لما رأى رجلا رفع صوته كاد أن يعلوه ضربا، لكنه لما كان غريبا فإنه عفا عنه، وقال: ” لا ترفع صوتك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم”
{لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ليس معنى ذلك أنهم يخفضون أصواتهم فلا يسمع،لا، وإنما يرفعون أصواتهم بحيث يسمع، لكن هنا قال {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} لا تكن أحوالكم مع النبي صلى الله عليه وسلم كحال بعضكم مع بعض كأن ترفعوا الصوت أو يا فلان باسمه، ولذلك قال تعالى {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} فماذا قال تعالى {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} أي لئلا تحبط وتبطل أعمالكم {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} باعتبار أن هذا الأمر قد يغضب النبي صلى الله عليه وسلم فيغضب الله منه {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} وهذا ينافي ماذا؟ ينافي احترام النبي صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} يعني يخفضون أصواتهم{عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} اختبر قلوبهم من أجل ماذا؟ من أجل التقوى، وهذا يدل على ماذا؟ على أن القلوب تمتحن حتى تكون القتوى فيها أعظم وأعظم، {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} هل يصبرون أم لا يصبرون؟ فإذا طبقوا هذا الأمر فإن الله قد امتحن قلوبهم للتقوى.
{لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} مغفرة لذنوبهم، وأجر عظيم من الله, وأعظم هذا الأجر الجنات، وأعلى ما في الجنات من النعيم رؤية الله.
فقال الله بعدها {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} لما بين أن من يخفض صوته يكون له هذا الأجر بيَّن أن من يرفع صوته عند حجرات يعني عند بيوت النبي صلى الله عليه وسلم من أنهم أخطئوا خطأ عظيما، وذلك أن بعض القبائل أتته وهو في بعض حجراته عليه الصلاة والسلام فنادوا بأعلى أصواتهم: يا محمد يا محمد، فهؤلاء جفاة من الأعراب، فقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} فهم لا يعقلون، ولا يفهمون قدرك يا محمد.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} يعني لو ثبتوا وصبروا وثبت صبرهم {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} قال{حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} في دنياهم وفي دينهم، ثم قال {حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} يعني لو أنه خرج ليس إليهم وإنما خرج لأمر طارئ فكان عليهم ماذا؟ أن يصبروا حتى يكون خروجه من أجل الخروج لهم {حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فهو عز وجل يغفر ذنب من أخطأ، ويرحم الله من عباده من أقبل عليه {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} وهذه السورة فيها إرشادات للأمة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} يعني بخبر {فَتَبَيَّنُوا} وفي قراءة {فتثبتوا} {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} أي لئلا تصيبوا قوما بجهالة من حيث إنكم تجهلون حاله فلربما ترون أن هذا الخبر الذي أتى به الفاسق من أنه صدق، ويترتب على ذلك أنكم تجهلون الحال، ويترتب عليه ما لا تحمد عقباه فقال الله {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} نادمين على ذلك الفعل الذي ترتب على هذا الخبر، ولذلك بعض المفسرين ذكر من أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم ليأخذ منهم الزكاة، فإنه خاف أن يقتلوه، ومن ثم رجع فقال يا رسول الله منعوا الزكاة، فالنبي صلى الله عليه وسلم تبين له بعد ذلك أتى رئيسهم وقال يا رسول الله: إن رسولك أتى إلينا ثم رجع، فخشينا من أنك غضبت علينا، فأنزل الله هذه الآيات، ومن ثم فإن هذا السبب فيما يتعلق بالوليد بن عقبة بن أبي معيط قال بعض المفسرين: الحديث فيه ضعف، وقال بعضهم لشواهده يكون حسنا، ولذلك قال ابن كثير: ومن أحسنها ما ذكره الإمام أحمد، ثم ذكر ما يتعلق بشأن الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} هذه نعمة من الله أن الرسول فيكم {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} لو يطيعكم فيما تقترحون فإنه لو أطاعكم لتحملتم في ذلك العنت والمشقة، ومن ثم فإنه لا يطيعكم في كل شيء، وإنما يطيعكم فيما فيه مصلحة {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} لكنه يطيعكم فيما فيه منفعة ومصلحة، {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} حبب إليكم الإيمان وهذه من أعظم النعم المحببة إلى العبد الإيمان، ومع ذلك{وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} سبحان الله! هذا من باب الترقيق، {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} وهو الأعظم، {وَالْفُسُوقَ} الذي يكون دون الكفر، {وَالْعِصْيَانَ} يعني أنه يكون أقل، أو أنه يشمل ماذا؟ الكفر والفسوق، وعلى كل حال فيه ماذا؟ من أنه كره إليهم الكفر، وكره إليهم الفسوق والعصيان يعني سواء كانت الصغائر أو ما يتعلق بها. {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} من ظفر بهذه الأشياء فهو الراشد، الذي هو يحسن التصرف ولذلك ماذا قال عز وجل {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} دل هذا على أن من اتبع الدين فهو الراشد {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} من أجل ماذا {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، فقال الله {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}.
{فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} يعني ما مضى من تلك النعم، ومن ذلك تحبيب الإيمان وتزيينه وكره الكفر والفسوق والعصيان هو فضل من الله تفضل به عيكم ونعمة من الله {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} والله عز وجل عليم بكل شيء، وحكيم عز وجل، ومن ثم فإنه علم بأن قلوبكم تصلح لهذا الخير، فأعطاكم هذه الأشياء، وهو حكيم عز وجل يختار لهدايته من يشاء.
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)}
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} وهذا يدل على أنه متى ما اقتتل طائفتان، أو قبيلتان فيجب على ولي أمر المسلمين أو من ينوب منابه من أنه يصلح بين هاتين الطائفتين، أو أي شخص مما يكون له وزن وقيمة وعقل ورشد يصلح بين هاتين الطائفتين، لكن الأمر يتعلق بولاة الأمر أوضح وأوضح، {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} بصيغة الجمع مع أنه ذكر {طَائِفَتَانِ} هذا يدل على أن الطافة تشمل أعدادا أكثر، {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} يجب عليكم أن تصلحوا بين هاتين الطائفتين بأي نوع من أنواع الصلح بحيث لا يكون فيه ظلم على أحد، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} بمعنى أن إحداهما {بَغَتْ} أي اعتدت على الأخرى، {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} وذلك عن طريق ولي أمر المسلمين {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} حتى ترجع إلى أمر الله، {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} يعني إن فاءت ورجعت فليكن الصلح مبناه على عدل، لا أنه يكون على ظلم وعلى جور لها، {فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} يعني هذا في جميع أحوالكم قال لما ذكر العدل بين الطائفتين قال هنا {وَأَقْسِطُوا} في جميع أحوالكم يعني من العدل، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} يعني من يكون عادلا في حكمه.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن هذه المقاتلة من كبائر الذنوب، ومع ذلك دل هذا على ماذا؟ على أنهم مع هذه المقاتلة مازالوا إخوة، وفي هذا رد على الخوارج الذين يقولون صاحب الكبيرة مخلد في نار جهنم، وأنه كافر، ففي هذا رد عليهم، وقد مر معنا ذلك مفصلا في تفسير سورة البقرة عند قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية فقال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}
قال هنا {فَأَصْلِحُوا} لما أتى في الصلح قال {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} بالتثنية لكن عند القتال {اقْتَتَلُوا} دل هذا على أن شأنهم حال السلم وحال الصلح يكون في اجتماع، لكن في حال القتال من أنهم جماعة في شتات فقال تعالى {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أمر بتقوى الله وهذا يدل على ماذا؟ على أن تقوى الله سبيل إلى ماذا؟ إلى الوصول إلى رحمة الله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} يعني لا يسخر رجال من رجال من القوم من حيث الأصل في اللغة العربية يطلق على الرجال ولا يدخل في ذلك النساء إلا إذا وجد دليل كما قال تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} يشمل الذكور والإناث، لكن من حيث أصل اللغة من أن القوم يطلق على الرجال، ولذلك قال بعدها {وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} ومن ثم فإن بعض المفسرين قال إن القوم يشمل هنا الرجال والنساء، وإنما ذكر النساء فيما يتعلق بهذا الأمر إفرادا؛ لأن السخرية فيما يتعلق بشأن النساء أكثر منه في جنس الرجال، والقول الأول هو الذي عليه الأكثر.
قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} يعني لا يستهزئ قوم من قوم، {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} فلا يجوز الاستهزاء لا بقول ولا بفعل، ولا بحركة، ولا ما شابه ذلك، فإن المستهزئ قد يظن أنه أعلى من غيره، وغيره أفضل منه.
{وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} لا تعب أخاك المسلم؛ لأنه بمثابة نفسك بمثابة نفسك، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}.
{وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} يعني لا ترموا بالألقاب من النبذ الذي يدل على رمي الألقاب التي هي غير مستحسنة، {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} إلا إذا كان الإنسان يلقب بلقب لا يمكن أن يعرف إلا به، فإنه لا بأس بذلك من أجل أنه يعرف فقط للتعريف لا من أجل الاستهزاء، يعني يقال فقط اللقب من أجل ماذا؟ أن يعرف به، ولا يكن المقصد الاستهزاء.
{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} هنا فيه معنيان {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} يعني بئس وذم لأن تقول لأخيك المسلم يا فاسق وهو تقي، فكيف تقول له هذا الكلام؟ {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} لأن الفسوق لا يستوي مع الإيمان، فكيف تلقبه بالفسق، وهو مؤمن، أو كما هو القول المشهور {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} يعني أن تلك الأشياء المنهي عنها هي ماذا؟ هي اسمها فسوق مذمومة {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} فأهل الإيمان لا يسخر بعضهم من بعض، ولا يلمز بعضهم بعضا، فإن هذا اسم للفسق يعني اسم للفسق، {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} فقال هنا {بِئْسَ الِاسْمُ} الذم هنا على الاسم، ما هو الاسم؟ {الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} من أنكم تقعوا في الفسق بعد الإيمان إذا فعلتم ما مضى.
{بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
لذا يقول ابن القيم رحمه الله يقول الناس بين قسمين: إما تائب وإما ظالم، من لم يتب فهو ظالم، دل هذا على أن من لم يتب فهو ظالم لنفسه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} يعني كونوا في جانب، والظن في جانب، يدل على البعد، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} يعني لتتجنبوا كثيرا من الظن من أجل ألا نفع في الظن الذي بعضه إثم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} إلا إذا كان الظن محمودا، وذلك مثل الظن الذي يكون عن طريق اجتهاد العلماء فيما يتعلق بمسائل علمية مبنية على أدلة شرعية، ليس اجتهاد من العقول والآراء، فإن هذا له شان آخر، لا يدخل في هذا الأمر، {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وأيضا من عرف بالفسوق والمجاهرة بذلك فإن الإنسان يظن به الظن السيء من أجل أن يحترز منه.
{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا} {وَلَا تَجَسَّسُوا} يعني لا تتحسسوا الأخبار عن هذا الأمر، سبحان الله! ماذا قال بعدها؟ {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} هنا ماذا؟ أتى بالظن، ثم ذكر التجسس، ثم الغيبة؛ لأن الإنسان إذا ظن ما الذي يترتب عليه؟ يبحث يتجسس وإذا تجسس ما الذي يؤدي به؟ إلى الغيبة {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} يعني أيحب أي إنسان أن يأكل لحم أخيه من جنسه من الآدميين وهو حي؟ الجواب: لا، فكيف إذا كان ميتا؟! فكيف إذا كان أخا له؟! وفي هذا تشنيع بماذا؟ بالغيبة، مما يدل على أنها من كبائر الذنوب؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم قال:” أتدرون ما الغيبة؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قال إن كان في أخي ما أقول؟! قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته”
{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} يعني أنكم تكرهون ذلك، إذن عليكم أن تتركوا الغيبة، فهذا يدل على أن من اغتاب أخاه المسلم فحاله كحال من يأكل لحم أخيه، ومن ثم فإن الغيبة لا تكون محرمة على وجه الإطلاق، ولذلك قال العلماء: إن من الغيبة ما يكون منها جائز، ومن ذلك إذا كان هناك مصلحة، من بين ذلك: من أن الإنسان لو أتى مثلا إلى القاضي، وقال إن فلانا قد ظلمني، وصرح باسمه، هذا ليس من الغيبة لأخذ مظلمته، أو استفتاء قال يا شيخ إن فلانا من الناس فعل كذا وكذا فما الفتيا في ذلك؟ مع أن الأفضل من أنه يبهم فيقول فيه شخص فعل كذا وكذا.
أيضا من بين الأشياء: الاستعانة على إزالة المنكر، كأن يأتي إنسان إلى شخص مثلا، هو والد لشخص، فيقول إن ابنك يفعل كذا وكذا من المنكرات حتى تزجره، أيضا مثلا من بال مثلا أن يأتي مثلا إلى من له ولاية على شخص أو ولاية على أشخاص، ويقول إنهم يفعلون كذا وكذا من أجل أن يزيل هذا المنكر، أو أيضا تحذير المسلمين من شر سيقع بهم من المبتدعة كالمبدعة وأهل الأهواء والذين يحرفون في دين الله حتى لو صرح بأسمائهم إذا لم ينزجروا إلا بتصريح أسمائهم، فإنه يجوز أن يذكروا، وذلك من باب تحذير المسلمين من شرهم.
أيضا فيما يتعلق بالإنسان المجاهر لو أن إنسانا كان مجاهرا بفسق كأن يكون مغنيا فإنه لو اغتيب على أنه مغني مما جهر به فلا إشكال في ذلك،
لكن لو اغتيب في شيء لم يجهر به، فإنه يكون غيبة، ويكون محرما، ويكون أيضا فيما يتعلق بالألقاب كأن يكون هناك شخص لا يمكن أن يعرف إلا إذا ذكرت لقبه، فهنا إذا ذكرت لقبه عرف، ومن ثم فإنه إن كان من باب التعريف، وليس من باب الغيبة، وليس من باب التحقير فإنه لا بأس بذلك.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} أمر بتقوى الله {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} لأن الإنسان قد يقع وكثيرا ما يقع إذن باب التوبة مفتوح، فالله تواب، وأيضا يرحم من أقبل عليه.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)}
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} يعني لا أحد يفخر على أحد؛ لأن الأصل من أنكم من آدم وحواء, وإذا كنتم من آدم وحواء، فكيف يحصل لمز؟! كيف تحصل الغيبة التجسس الظن التفاخر؟! ولذلك ماذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} بعض الناس يفهم هذا الفهم في هذه الآية فهما غير سليم، {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} الأكثر من المفسرين أن الشعوب هي رؤوس القبائل الكبيرة، والقبائل هي الأقل يعني هي المنفصلة من تلك القبائل، هذا هو الأشهر، وبعض العلماء يقول: إن الشعوب هم الأعاجم،
والقبائل هم العرب، وأيضا بعض المفسرين قال: إن الشعوب هي التي تنتسب إلى الأرض، وأما القبائل فتنتسب إلى أنسابها، ومن ثم فعلى القول الذي يقول من أن الشعوب هي الأعاجم، ومن أن القبائل هي العرب، فإن هناك مسألة هل العربي أفضل من الأعجمي؟
فالجواب عن ذلك: إذا وجدت تقوى الله، فإن تقوى الله هي المقدمة، لكن إن استوى الأعجمي والعربي في تقوى الله، فإن العربي أفضل، ولذلك يقول شيخ الإسلام قال: إن العرب لم يظفروا بهذه المنقبة ليس من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، لا، بل من حيث الأصل هم أفضل من العجم، لكن لو أن الأعجمي أفضل من حيث التقوى، فالأفضل هو الأعجمي، لكن إذا تساويا، فإن العربي أفضل من العجمي، ولذلك يقول الألباني رحمه الله يقول ولو كنت أعجميا؛ لأنه من ألبانيا لو كنت أعجميا فهذا القول الذي يقوله شيخ الإسلام تدل عليه الأدلة منها: حديث النبي صلى الله عليه وسلم ” إن الله اصطفاني من بني هاشم، واصطفى هاشم من كنانة…” إلى آخر الحديث، وهناك أدلة أخرى.
المهم قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} من أجل ماذا؟ {لِتَعَارَفُوا} ليحصل بينكم التعارف، ومن ثم بين أن الكرم ما هو؟ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} يعني من هو أتقاكم، لم يقل إن أكرمكم عند الله هو الفتي، لا، قال {أَتْقَاكُمْ} قال {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ} يعني أعظم الناس كرامة عند الله هو الذي أعظم تقوى، فهناك من يكون تقيا، وهناك من يكون هو أتقى، الأتقى هو أعظم وأكرم عند الله من التقي فهي درجات.
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} عالم بكل شيء، وخبير ببواطن الأمور، وهو يعلم من هو الأكرم عنده، ومن هو التقي، من غير التقي.
{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}
{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا} ليس المقصود كل الأعراب الذين يسكنون في البادية؛ لأن هناك من الأعراب من هو على خير وهدى، ولذلك في سورة التوبة {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ}
هنا لطائفة معينة من الأعراب، {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا}
ومن ثم هل هؤلاء الأعراب منافقون أم أنهم مسلمون لكنهم ضعيفو الإيمان؟
البخاري يقول في صحيحه هم منافقون، لكن الذي عليه المحققون كابن القيم، وكما ذكر ابن كثير من أن هذه الآية في أعراب قد أسلموا، لكن الإيمان لم يتمكن من قلوبهم، وليسوا بمنافقين، والأدلة من الآية، {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإيمان والإسلام {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فلو كانوا هذا هو الأمر الأول فلو كانوا منافقين لم يقل {قُولُوا أَسْلَمْنَا} فدل هذا على أنهم مسلمون، لكن لم يعظم الإيمان في قلوبهم، وليعلم: أن الإسلام الذي يكون مقبولا عند الله كحال هؤلاء ممن لم يتمكن الإيمان في قلبه لابد أن يكون معه إيمان، ولو كان قليلا يصحح إسلامه؛ لأنه إذا لم يكن عنده إيمان أصلا فإنه يكون منافقا.
{وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} يعني هذه يتوقع ماذا؟ أن الإيمان يدخل في قلوبكم، {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ} يعني لا ينقص من أعمالكم {شَيْئًا} فأمرهم بطاعة الله {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} لم يحصل عندهم شك، ثم قال {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} يعني مع الإيمان ولو طال الزمن من السنوات فإنهم يبقون على يقين، {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} يعني ثبتوا على الإيمان، {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} يعني لم يحصل منهم شك، {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الذين صدقت أعمالهم ما في قلوبهم وصدقت أعمالهم أقوالهم.
{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} هنا {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} دل هذا على أنهم لو كانوا منافقين لما قال عنه من أنه دين، {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لا يخفى عليه شيء، ولذلك ماذا قال بعدها في ختام الآية؟ {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} بكل شيء لا يخفى عليه شيء.
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} دل هذا على أنهم ضعفاء إيمان، {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا} قل يا محمد لهؤلاء {لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ} أثبت لهم الإسلام، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} كيف يصفهم بالإيمان {أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} مع أنه قال {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}؟!
فالجواب عن ذلك: كما قال ابن القيم رحمه الله قال: لأن الإسلام لا يمكن أن يكون مقبولا إلا مع إيمان يصحح هذا الإسلام، قال هنا واصفا إسلامهم بأنه إيمان؛ لأنه لابد في الإسلام من إيمان، وإلا كان منافقا، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
يعني ما غاب في السموات، وما في الأرض مما لا تدركونه، ولا تعرفونه فإن الله يعلمه، {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فالله بصير ومطلع على أعمال خلقه….
وبهذا ينتهي تفسير سورة الحجرات…..