بسم الله الرحمن الرحيـــــــم
تفسير سورة الروم من آية: (1) إلى آية: (32)
الدرس (202)
لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
تفسير (سورة الروم) هي من السور (المكية)
﴿الم﴾ (1) هذه من الحروف المقطعة ومرَّ معنا ذكرها في أول سورة البقرة.
﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ (2) ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ (3).
يعني أنَّ الروم غُلِبت وانتصرت عليها فارس ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾: يعني في أقرب الأرض مما تكونُ من أرض الشام مما هي قريبة إلى فارس.
وقال بعضُ المفسرين (الأرض) هُنا هي: جزيرة العرب، وعلى كل حال العبرة هُنا أنَّ الله عز وجل نصَرَ الفُرس على الروم.
﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾: وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يُحبُون أن تنتصرَ الروم لأنهم أصحابُ كتاب فهم نصارى، لكن المجوس ليسوا بأصحاب كتاب بل أنهم يعبدون النار ويعبدون النور والظلمة ولذلك كانت قريش تُحب ماذا؟ أن تنتصرَ فارس.
﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ (2) ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ (3).
ممن بعد ما غُلِبت الروم سيغلبون، ستغلب الروم فارس ﴿وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾.
﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (4).
﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ يعني في هذه السنوات ما دون العشر سيكون انتصار من؟ الروم على الفرس.
حصلَ ذلك في (غزوة بدر) فنصرَ الله أهل بدر وانتصرت الروم على الفرس فقال عز وجل:
﴿وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾
لله الأمر في جميع الأحوال مما مضى ومما سيأتي، وهُنا: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ من قبلِ ماذا؟ من قبل انتصار فارس على الروم ومن بعد انتصار الروم على فارس.
فليس الانتصار من قوتهم لا من قوة هؤلاء ولا من هؤلاء ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ﴾ إذا انتصرت الروم على فارس ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾
﴿بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ (5).
﴿بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ﴾ وهو ينصر أوليائه ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ فهو عزيز عز وجل قوي فيُهلكُ أعدائه ويرحمُ أوليائه ولذلك في سورة الشعراء لمَّا ذكر قصصِ الأنبياء
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ – وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾] الشعراء:8-9[
تكررت ﴿يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (6).
﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾ أي وعدَ الله وعدا، منصوبة لأنها مصدر ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾
﴿اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ لأوليائه في الدنيا وفي الآخرة.
﴿لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ وهم الكفار ثم وصفهم بالعلم، نفى عنهم العلم ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ثم وصفهم بالعلم -سبحان الله- كيف يصفهم بالعلم!
﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (7)
﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ لمَ؟ لأن من لا علم عنده فقط إلا بالدنيا فإنه جهل ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا﴾ إنما مجرد ظواهر من هذه الدنيا ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا﴾ من ظواهر وزينة الدنيا وما يتعلق بها.
﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ولو تمعنوا في بواطن الدنيا وما خلق الله عز وجل فيها لنفعهم هذا التمعن والتدبر.
﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾] غافر: 57 [
﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ لأنهم اشتغلوا بالدنيا ﴿وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ غافلون بهذه المُتع وبهذه الدنيا ﴿وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ (8)
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ هُنا (استفهام) للحث على أن يتفكروا.
بعضُ المفسرين قال: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ لم يُؤمروا بالتفكر في أنفسهم (لا) وإنما أُمروا أن يجعلوا أنفسهم محلاً للتفكر في خلق السماوات والأرض، فيكون قوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ في محل مفعول به.
وقال بعضُ العلماء (لا) -ولعل هذا الثاني هو الأقرب- لأنه لا تنافي بين ذلك، أُمِروا أن يتفكروا في أنفسهم ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾] الذاريات: 21 [
كيف خلقها الله عز وجل وما أودعَ فيها من الصفات والأعضاء وما شابه ذلك، وأيضًا تفكروا في أنفسكم وتأملوا في هذا السماوات والأرض وما بينهما.
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾
ما خلقهما إلا بالحق من أجل أن يُعبَد الله؛ لأن من تفكَر في هذه السماوات وفي هذه الأرض دعاه ذلك إلى ماذا؟ إلى أن يعبُد الله وأن يُوحِد الله
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾
] آل عمران: 190 [ إلى غير ذلك من الآيات.
قال: ﴿وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ ولذلك قال عن السماوات والأرض ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ ولذلك إذا قامت القيامة فإن هذه السماوات والأرض تزولان.
﴿إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ ﴿وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ يعني قدر معين من الزمن وإذا بهذه السماوات وبهذه الأرض في يوم القيامة يحصلُ لها ما يحصل ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ ]ابراهيم: 48 [
﴿وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ مع تلك الدلائل ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ يدُّل على أن معظم الناس كفرة غير مهتدين، وأن القِلة هم الذين آمنوا بالله وبرسله فقال: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ لأنهم أعرضوا عن التدبر والتفكر، أعرضوا عن التدبر في آيات الله عز وجل (الشرعية) وهو القرآن وأعرضوا عن التدبر في آيات الله (الكونية) من سماوات ومن أرض وما بينهما.
﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (9)
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا﴾ نظر اعتبار ليس نظر مجرد نظر.
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ الأقوام السابقة (كفار قريش) يذهبون إلى الشام فيَرون ما حلَّ بقوم ثمود وما حلَّ بقوم لوط، ويذهبون إلى اليمن فينظرون ما حلَّ بقوم عاد.
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ ولذلك قوم عاد ماذا قالوا؟ ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ الآية] فصلت: 15 [
﴿كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا﴾ أثاروا الأرض يعني من حيثُ الزرع ﴿وَعَمَرُوهَا﴾
﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾] الفجر: 9 [
﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا﴾ الآية] الشعراء: 149 [
أعظم من كفار قريش، ولذلك ماذا قال تعالى: ﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ﴾ يعني عُشر: ﴿وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾] سبأ: 45 [
فكيف تأمن كفار قريش من عذاب الله عز وجل!
﴿وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا﴾ أكثر مما عمرته كفار قريش.
﴿وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أتتهم الرسل بالبينات تلك الأمم السابقة.
﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ – سبحان الله – ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ دلَّ هذا على أنه لمَّا جاءتهم الرسل بالبينات كفروا فحلَّ بهم العقاب ليس ظُلمًا من الله بل لكمال عدله عز وجل ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ لكمال عدله ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ (10)
﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى﴾ (عاقبة): خبر كان مقدم منصوب.
(السوأى): هو اسم كان مؤخر.
﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى﴾ يعني أن من فعل الأفعال القبيحة السيئة عاقبته ماذا؟ العقاب السيء (السوأى) يعني تأنيث الأسوأ، وأي سوء أعظم بعد العذاب السيء الذي يكون لهم في الدنيا، أي عذاب أعظم من النار؟
﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا﴾ بسبب أفعالهم السيئة، عاقبتهم ماذا؟ السوأى العاقبة السيئة من العذاب في الدنيا ومن العذاب في الآخرة وهي جهنَّم.
﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى﴾ السبب؟ ﴿أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ﴾ لأنهم كذَّبوا ﴿أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ – سبحان الله – مع الطغيان ﴿وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ مع التكذيب الاستهزاء.
﴿وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾
﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (11)
﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بدأكم، بدأ الخلق فيما يتعلق بالبشر من ماء فكان أطوارَا ثم يميته ثم يحييه ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فالمرجع إلى الله عز وجل.
﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ وإذا رجعوا؟
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾ (12)
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾ ﴿يُبْلِسُ﴾ (الإبلاس) يدل على انهم يُبْهتون ويصبحون حيارى (الإبلاس) يعني اليأس بسبب ما يصيبهم إذا رأوا عذاب الله من الحَيرة.
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾
﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ﴾ (13)
﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ﴾ الذين أشركوهم مع الله في الدنيا لا يشفعون لهم بل يتَبرأون منهم كما جاء ذكره في آيات كثيرة.
﴿وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ﴾ – سبحان الله – من جعلوهم أندادا ماذا يقولون؟
﴿مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾] القصص: 63 [ يتبرأون من التابعين، هُنا يتبرأ التابعون من المتبوعين من (الرؤساء) ﴿وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ﴾ أي مَن عبدوهم ﴿وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ﴾.
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ (14)
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾] الزلزلة: 6 [
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ إلى فريقين.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾ (15)
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ﴾ الروضة: هو المكان المرتفع الذي به النبات الحَسَن.
﴿يُحْبَرُونَ﴾ يعني يُسَرُون ﴿فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾ (16)
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ﴾، ﴿وإنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ]الروم: 8 [في نفس السورة.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾
دل هذا على أنهم يؤتَون بقوة -عن قهر-
كما قال عز وجل: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾] الطور: 13 [يعني يُدفعون.
﴿ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا﴾] مريم: 68 [
فقال الله عز وجل هُنا: ﴿فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾.
﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ (17)
﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾ إذاً لمَّا ذكر الصنفين قال: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾ إذاً ما الواجب عليك حتى تنجو من هذا العذاب وتحصل على ذلك النعيم ﴿فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾] الروم: 15 [تسبيح الله، تنزيه الله عز وجل عما لا يليق به عز وجل.
﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ﴾ إذا دخلتم في المساء ﴿وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ إذا دخلتم في الصباح.
﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ (18)
﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يحمده أهل السماوات وأهل الأرض ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ﴾ لجميل أفعاله فهو المحمود على أفعاله.
﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا﴾ يعني وقت العصر.
﴿وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ وقت الظهر.
وقال بعضُ المفسرين من أن المقصود من التسبيح هُنا (الصلاة) ولا تعارض بينهما.
كما أن الإنسان مأمور بذكر الله وبتنزيه الله عز وجل وأعظم ما يُنزه الله عز وجل عنه هو الشرك بالله كذلك مأمور بالصلوات.
﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ﴾ (المغرب والعشاء)
﴿وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ (الفجر)
﴿وَعَشِيًّا﴾ (العصر)
﴿وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ (الظهر)
﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾
﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ (19)
﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ ومرَّ معنا ذلك في سورة آل عمران.
فقال عز وجل: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ يعني يُخرج البيضة من الدجاجة
– كمثال – والدجاجة من البيضة، وأيضاً يُخرج من صُلب الكافر المؤمن والعكس.
﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ -سبحان الله- ألا تتأملون؟ الله عز وجل أخرج من البيضة دجاجة -هذا كمثال- وأخرج الدجاجة من البيضة والعكس، وأخرج من صُلب هذا الكافر المؤمن.
فالذي أخرج هذه الأشياء قادرٌ على أن يُخرجكم من قبوركم وأن يبعثكم يوم القيامة ﴿وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ ولذلك لمَّا ذكر ما يتعلق بالأرض منبِّهًا على ماذا؟ لأن إحياء الأرض كانت هامدة فأحييت أيضًا هو يحيي عز وجل الناس من قبورهم ﴿وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ ولذلك ماذا قال؟ ﴿وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ مثل هذا الإخراج تُخرَجون.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾ (20)
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ ذكر الدلائل والعلامات على الآيات التي تدل على عظمته وعلى تفرده بالألوهية ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ علامات تدل على قدرة الله عز وجل ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ وهو أصل أبينا آدم ﴿ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾ في الأرض وتفترقون ومع ذلك يجمعكم الله عز وجل.
﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾] الإسراء: 104 [
﴿وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾] المؤمنون: 79 [
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (21)
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ يعني من جِنس أنفسكم، يعني خلق لكم زوجات مما يكون من جِنسكم لا من جنس آخر حتى تحصل الموافقة والمحبة والمودة
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ من أجل؟ ﴿لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ سُكنى الزوجة كما أن البيت سَكَنْ ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾ الآية] النحل: 80 [فتسكن إليها.
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ الآية] الأعراف: 189 [
﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ مودة بين الجنسين (محبة ورحمة) كلٌ منهم يرحم الآخر ويُحب الآخر، ولذلك والعلم عند الله ذكر المودة والرحمة هُنا من أن الزوج إذا لم يُحب زوجته فإنه واجبٌ عليه أن يرحمها وألا يؤذيها.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ في هذا الأمر ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ من يُمعن التفكير فإن هذا يدل على ماذا؟ على قدرة الله عز وجل إذ خلق لكم ما يناسبكم من هؤلاء الزوجات.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ (22)
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وما فيهما وما أودع الله فيهما.
﴿وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ﴾ اللغة ﴿أَلْسِنَتِكُمْ﴾ اللغة هذا لغة وهذا لغة، مع اختلاف اللغات – سبحان الله – تدل على ماذا؟ على عظمة الله عز وجل، لم يجعلهم متساوين في اللغة، بل ربما أن بعضهم في البلد الواحد تختلف لغاته ومع ذلك يدعون الله عز وجل مع اختلاف لغاتهم فيسمعُ الجميع ويُجيب من شاء أن يُجيبه.
﴿وَأَلْوَانِكُمْ﴾ أحمر أبيض أشقر، هذا يدل على ماذا؟ مع أن الأصل ماء واحد فاختلفت اللغات واختلفت الألوان.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ لمن لديه علم وبصيرة فيتمعن.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ (23)
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ بعضُ المفسرين يقول فيها تقديم وتأخير؛ لأن الليل يتعلق بماذا؟ يتعلق به المنام، وابتغاء الفضل بالنهار لكن الذي يظهر أن المنام يصدُق على الليل والنهار؛ لأن النوم كما يحصلُ في الليل يحصل في القيلولة.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ فتستريحون بعد التعب ﴿مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ في النهار تبحثون عن فضله – تبحثون عن الرزق عن طريق التجارة وما شابه ذلك –
﴿وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ يسمعون سماع تفهم وتدبر ليس مجرد سماع.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (24)
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ – سبحان الله – البرق يأتي ومع ذلك الإنسان ما بين (الخوف والطمع) عند قوم يطمعون في نزول المطر، وعند قوم يخافون مما يُمكن أن يُحدِثه هذا المطر، فيدل على ماذا؟ وهو برق واحد فكيف كان لهؤلاء بمنزلة الخوف وهؤلاء بمنزلة الطمع والرجاء.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ من يتعقل ويفهم، فأين عقولكم وأنتم تبصرون هذه الأشياء!
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ (25)
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ ما قامت السماوات والأرض إلا بأمره كما قال تعالى: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ الآية] الحج: 65 [
﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ الآية] فاطر: 41 [
كيف قامت هذه السماوات ولم تسقط على الأرض!
﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾] الأنبياء: 32 [
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ﴾ حينما يدعوكم اسرافيل للبعث والنشور من الأرض – من قبوركم –
﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ﴾] القمر: 6 [
﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ﴾ الآية] الإسراء: 52 [
﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ﴾ الآية] طه: 108 [
كلٌ يذهب إلى هذا الصوت الداعي فقال عز وجل هُنا: ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ﴾ قال (ثم) للزمن الذي يكون بين ماذا؟ بين الدنيا وبين الآخرة.
﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾.
﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ (26)
﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ له من في السماوات والأرض يتصرف من في السماوات ومن في الأرض له الملك والتدبير والتصرف لا أحد يعترض عليه.
﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ قنوت المؤمن والكافر، كُل من في السماوات ومن في الأرض قانتٌ خاضعٌ لله عز وجل.
﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (27)
﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ قال: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ بعضُ المفسرين قال: ﴿أَهْوَنُ﴾ بمعنى (هين) لأن مثل هذا يرد في اللغة العربية، يعني البداية والإعادة هي كلاهما هينٌ عند الله عز وجل.
لكن بعضُ المفسرين -إن لم يكن الأكثر-: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ يعني بالنسبة إليكم أنتم؛ لأن عندكم البداية هي أصعب من الإعادة.
﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ باعتبار ماذا؟ باعتبار نظركم أنتم وفي تصوركم أنتم، لكن هو عز وجل يستوي عنده ذلك، ولذلك ماذا قال تعالى: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾] لقمان: 28 [
﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ الصفة العُليا – الصفات العُلا – له عز وجل أما لكم فلكم مثل السوء.
﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فلا أحد يُشابهه عز وجل في صفاته ولا في أسمائه ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ولذلك ختَمَ الآية ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (العزيز) القوي الغالب الذي لا يُنالُ بسوء وهو (الحكيم) عز وجل في شرعه وفي أفعاله.
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (28)
﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ ما هو هذا المثل؟
﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ يعني ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ بمعنى أنه لو كان لديكم من هو (رقيق) يعني عبيد ﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ يعني ما رزقناكم من الرزق هل أنتم تشتركون معهم في هذا الرزق؟ فإنكم لا تريدون ذلك بل تأنفون من ذلك.
فأنت يا مخلوق لا ترضى أن المخلوق يُشاركك وهو عبدٌ لك فكيف ترضى أن تُشرِك مع الله عز وجل الخالق شيئا من مخلوقاته!
فقال عز وجل: ﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ تستوون معهم فيما رزقناكم؟
﴿تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ بمعنى أنكم تخافون من هؤلاء العبيد إذا شاركوكم كما تخافون ممن هو مثلكم في الحرية من الشُركاء الأحرار؟ لأن الإنسان إذا كان شريكاً مع مخلوق آخر حر فإنه يخشى على ماله.
﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ لا ترضون بهذا فكيف ترضون أن تُشركوا مع الله الخالق شيئا من مخلوقاته!
﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ يعني مثل ما فصَّلنا هذا المثل -وهو آية- نُفصل الآيات الأخرى لكن لمن؟ لقومٍ يعقلون.
﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ (29)
﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ مع هذا كله يا محمد هؤلاء اتبعوا أهواءهم ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ من غير حجة ولا دليل، ولا دليل لهم على الإشراك بالله عز وجل ﴿أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ﴾] الروم: 35 [الجواب (لا)
﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ لا أحد، الاستفهام هُنا (للنفي): لا أحد ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ لن ينصرهم أحد من عذاب الله، إذاً ما الواجب عليك؟
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (30)
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ لا تلتفت إلى هؤلاء و (الإقامة) تدل على الثبوت يعني أثبت واستمر ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ﴾ وذكر الوجه لمَ؟ لأنه أشرف الأعضاء.
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ يعني مائلاً عن الأديان الباطلة إلى دين التوحيد.
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ﴾ يعني الزموا فطرة الله؛ لأن فطرة الله على التوحيد وأُمرتم بالتوحيد، ولذلك النبي ﷺ كما ثبت عنه قال: ” ما من مولود إلا ويولد على الفطرة “
وقال ﷺ كما ثبت عنه: ” قال الله إني خلقتُ عبادي حُنفاء فاجتالتهم الشياطين “
﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ يعني الكل من حيثُ الفطرة سواء فطرهم الله على التوحيد ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ ولا أحد يستطيع ذلك.
وقال بعضُ المفسرين: هذا ليس بخبر وإنما هو خبر في سياق النهي يعني (لا تبدلوا خلق الله) يعني فُطرتم على التوحيد فلا تبدلوا ذلك.
وجاء هذا الدين من أجل أن يُقرِر هذه الفطرة ويزيد هذه الفطرة.
﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ ﴿ذَلِكَ﴾ ما هو؟ ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾
﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ الدين المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ فأين يأتيهم العلم وهم لم يتدبروا القرآن ولم يتدبروا آيات الله الكونية!
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (31)
﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ ما تفسير هذا الدين؟ ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ يعني أنكم ترجعون إلى الله عز وجل بالتوبة والإنابة ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ ذكر هذه الأشياء وهي أعظم ما يتعلق بالدين.
﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ التوحيد ﴿وَاتَّقُوهُ﴾ بمعنى ترك ما يُسخط الله عز وجل ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ ثُم ختم بالنهي ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ حتى أن بعض العلماء استدل بهذه الآية على من ترك الصلاة حتى لوكان تهاوناً وكسلاً فإنه (مشرك) لمَ؟ لأنه لمَّا ذكر الصلاة قال: ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وبعض العلماء يقول (لا) لأن المقصود هُنا ما مرَّ من صفاتٍ سابقة.
على كل حال بالنسبة إلى كفره ليس هذا الموطن موطن بيانه؛ فقد بيَّناه في موطنٍ آخر.
والقول الصحيح كما قال ﷺ ” العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ” كما ثبت عند الترمذي وهناك أحاديث أخرى.
﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ (32)
﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ﴾ فرقوا دينهم فهم لم يأخذوا بدين الإسلام وإنما صاروا أحزاباً وفِرقاً فيما يتعلق بالأديان الأخرى، ويدخلُ في ذلك أهل البدع والتحزبات؛ لأن كل شخصٍ يقول الحقُ عندي.
ولذلك في قوله عز وجل: ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ الآية] الأنعام: 159 [
﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾.