تفسير سورة الشعراء من الآية ( 69 ) إلى ( 175 ) الدرس (192 )

تفسير سورة الشعراء من الآية ( 69 ) إلى ( 175 ) الدرس (192 )

مشاهدات: 548

[ تفسير سورة الشعراء]

من الآية (69) إلى الآية (175) الدرس (192)

لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ(70)قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}

﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} واتل يا محمد على قومك {نَبَأَ} خبر إبراهيم، متى؟ {إِذْ قَالَ} أي وقت قوله: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} وهو يعلم ذلك {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا} سبحان الله كرروا الفعل مرة أخرى لم يقولوا (أصنامًا) وإنما قالوا: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا} مما يدل على أن عبادة الأصنام قد استقرت في قلوبهم، {فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} يعني ملازمين، (نظل) هو فعل يدل على النهار يعني في نهارهم يعكفون على الأصنام، في ليلهم يعبدون الكواكب لأنهم يعبدونها، ولذلك قال إبراهيم كما ذكر عز وجل في سورة الأنعام:

 {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: 76]

 

ثم أتاهم بالحجج: {(71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)}

{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} طبعا لن يستطيعوا أن يفروا من الجواب، لأن الجواب معلوم ولذلك لم يأتِ الجواب هنا {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} ولذلك قال لأبيه:

{َإِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]

 ولذلك هنا {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} الخطاب كلُّه لقومه، لكن لماذا أتى بالأب؟

قال بعضُ المفسرين: لأنه كان معهم، وقيل: لأنه نصحه منفردًا ثم نصح قومَه فكأن الجميع الأب وهؤلاء في الكفر واحد.

 

 فقال عز وجل هنا عن إبراهيم: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}

هل عندهم نفع؟ هل عندهم ضُر؟! فماذا كان الجواب؟ لم يجيبوا على نفس السؤال لأنهم يعرفون أصلا أن هؤلاء لا يسمعون ولا يملكون نفعًا ولا يدفعون ضرًا

{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)}

انظر سبحان الله إلى العِلَل الواهية {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} فنحن سِرنا على ما سار عليه آباؤنا كما قال تعالى عن شأنهم وعن شأن كل كافر:

 {َقَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]، يعني على عقيدة.

 

{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ(82)﴾

 {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ} أتاهم بحجج أخرى تدحض هذه العلل التي أتوا بها { ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} لم يقل حتى الأصنام لأنه لا قدر لهذه الأصنام ولا مكانة، أحجار! ولذلك في سورة الأنبياء كما مر معنا:

 {َقَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66-67]، فقال هنا: {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} ولو تقادم ما تقادم من سنوات على آبائكم وعلى أجدادكم، يعني ليس على آبائكم القريبين منكم بل حتى لو كانت هذه هي العادة عادة آباء آباء آباء آباؤكم مما تقدمت به السنوات {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} عاداهم لأن الله عز وجل يعادي هذه الأصنام التي تُعبَد من دونه عز وجل { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} الذي هو ربي وربكم ورب كل ما خلق عز وجل، فكل ما هو سوى الله فهو عالَم.

 {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} هل (إلا) هنا متصلة أم منقطعة؟

 بعض العلماء يقول: {إلا رب العالمين} يعني لأنهم كانوا يعبدون الله مع أصنامهم،

 وبعض العلماء يقول: استثناء منقطع يعني {إلا} بمعنى لكن، لكن رب العالمين ليس بعدو لي فأنا أعبده؛ -وهذا هو الأظهر- لمَ؟ لأنهم كانوا يجعلون لهم صنمًا أكبر، ولذلك: {َقَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 63].

{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} ثم ذكر من صفاته عز وجل التي لا توجد في أيِّ مخلوق ومن ذلك هذه الأصنام: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ(82)﴾

 

{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} إلى ما فيه صلاح وما فيه خير في ديني ودنياي.

 {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ} أتي بكلمة {فهو} وحده.

{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أتى بالفعل المضارع دل هذا على أنه يتقلب في نعم الله باستمرار، ولذلك هذه الآية والتي قبلها يؤكدها: {َوَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56-58].

{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} قال مرضت لأنه ليس بمريض الآن، لكن لو مرضتُ مستقبلًا {فَهُوَ يَشْفِينِ} فالشفاء من عند الله عز وجل، ولذلك النبي ﷺ في دعائه في الرقية كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة: “لا شفاء إلا شفاؤك” “بيدكَ الشفاء”

{وَإِذَا مَرِضْتُ} ولم يقل (أمرَضَني) مع أن الذي يُنزِل المرض هو الله، من باب التأدب مع الله، وقد مر ذلك معنا مرارًا قال ﷺ عند مسلم في دعاء الاستفتاح: ” والشرُّ ليسَ إليك”

 فقال هنا: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فلا تلجأ إلا إلى الله.

 {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} يعني أنه بعدما ينقضي أجلي يميتني ثم يحيين للبعث والنشور لا هذه الآلهة.

{وَالَّذِي أَطْمَعُ} سبحان الله مع مكانته عليه السلام يرجو الله عز وجل، لم يعتمد على عمله ولا على ما قام به {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} يوم الجزاء والحساب،

 وهل يقع من الأنبياء خطايا من الصغائر؟ مر معنا تفسير ذلك في قوله تعالى في سورة النساء: {َوَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 106].

 

﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)}

{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} أعطني حكمًا، والحكم هو: العلم النافع مع العمل الصالح مع الحكمة.

  {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} من جملة الصالحين ولذلك قال عز وجل: {َوَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 122] في المنازل العالية العظيمة مع الصالحين.

 {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ} لسان يعني ثناء {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ} لماذا أضيف اللسان الثناء إلى الصدق؟ بعض الناس قد يُثنى عليه لكنه ليس بثناء صدق يزول أو ثناء شر

 {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} ولذلك إبراهيم عليه السلام كل الملل تدَّعِي أنها على طريقته ولذلك ماذا قال تعالى؟ {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67] ولذلك ماذا قال تعالى في سورة مريم: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: 50]

{عَلِيًّا}: فَعلى ذكرهم {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} يعني ممن يأتي بعدي.

 {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10-11] {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} لأن بها النعيم الذي لا يزول،

فإذا كان الأنبياء عليهم السلام يدعون الله أن تُغفَرَ لهم خطاياهم وأن يُدخلَهم الجنة فما هو حال الصوفية الذين لا يسألون الله ذلك! بل إن بعضهم إذا وصل إلى مرحلة – كما يزعم – أن التكاليف تسقط عنه وأن المحرمات حلالٌ له! أعوذ بالله من الزيغ والهلاك.

 

 {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} لأنه في أول الآيات ذكر أباه {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} ولذلك في سورة مريم قال: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]، لكن لما علم أنه مات على الكفر توقف عن الاستغفار له: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]

 

{وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)}

 { وَلا تُخْزِنِي} يعني ولا تهينُني ولا يلحقُني العار، لأن أعظم الخزي في يوم القيامة

 {يَوْمَ يُبْعَثُونَ} يوم يبعث الخلق {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} لا الأموال ولا الأبناء ينفعون:

 {َيَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 34-36]

 {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} إلا من أقبل على الله بقلب سليم في هذه الدنيا سَلِمَ من الشبهات والشكوك والنفاق وما شابه ذلك، وإبراهيم عليه السلام أتى إلى الله بقلبٍ سليم في سورة الصافات:

 {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 83-84]

 

{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)}

 {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} في يوم القيامة قربت الجنة {لِلْمُتَّقِينَ} لمن اتقى الله عز وجل تُقَرَّب إليهم الجنة.

 {وَبُرِّزَتِ} يعني أُظهرت {الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} لمن ضَل.

 

{وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)}

{وَقِيلَ لَهُمْ} لهؤلاء الغاوين {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أين هم؟

 {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} في هذا اليوم {أَوْ يَنْتَصِرُونَ} ينصرون أنفسهم لأنهم معكم في نار جهنم:

 {َإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98]

{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} تلك التي تعبد من دون الله من الأصنام هم وهؤلاء الغاوون كبكبوا فيها يعني أنه ألقي بعضهم على بعض كما يُلقى الشيء على الشيء يكون بعضه على بعض، كما قال عز وجل في سورة الأنفال: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال: 37] فقال هنا:

{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}

جنود إبليس الذين يؤزونَهم إلى المعاصي، جنود إبليس من شياطين الإنس والجن

 

{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)

{قَالُوا} يعني قال الغاوون {وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} يعني مع هؤلاء الذين عبدوهم:

 {تَاللَّهِ} يحلفون بالله {إِنْ كُنَّا} يعني في الدنيا {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} يعني واضح {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} كيف نجعلكم مساوين لرب العالمين، ولذلك تعريف الشرك على أحد قولَي العلماء:

 مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، وهذا دليل من قال بهذا التعريف

 {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ – إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} كيف نسويكم برب العالمين الذي هو خلقنا وخلقكم؟! {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)}

{وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} جنود إبليس {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} من يشفع لنا {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} يعني يحبنا ويقربنا، كما قال تعالى:

 {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، وكما قال عز وجل: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18].

 

{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)}

 {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} تمنَّوا لنا كرة يعني رجعة مرة أخرى إلى الدنيا {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} لكن كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27]، فقال عز وجل هنا:

 

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآية وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(104)﴾

  {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي فيما ذكر من أحوال يوم القيامة وفي قصة إبراهيم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآية} لعلامة

 {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ} قوم إبراهيم {مُؤْمِنِينَ} فتسلَّ بهم يا محمد -عليه الصلاة والسلام-

 {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فهو العزيز القوي الغالب الذي نصر أولياءه

 وهو القوي الذي يبعث الناس يوم القيامة ويُجازي كلًّا بعمله

 وهو الرحيم بعباده فرحم إبراهيم عليه السلام ومن آمن معه.

﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116}

 {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} لأن نوحًا أول الرسل، لكن لو قال قائل لماذا لم يذكرهم على الترتيب؟

 ذكر أولًا قصة موسى لأنه كما سبق قلنا كان النبي ﷺ يتسلى بموسى لأنه أوذيَ كثيرًا، ثم لما ذكر موسى ذكر إبراهيم لأن كفار قريش يزعمون أنهم على ملة إبراهيم، هنا ذكر الأنبياء، ذكر من؟

ذكرَ أول الرسل نوح عليه السلام

{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} مع أنه لم يُرسَل إليهم أحد لأنه هو أول الرسل لأن من كذب ارسولًا فقد كذب بجميع الرسل لأن جميع الرسل أتوا بالتوحيد ومر ذلك مفصلًا كثيرًا.

 {إِذْ قَالَ لَهُمْ} كذبوه منى؟ وقت أن قال لهم {أَخُوهُمْ نُوحٌ} هو أخٌ لهم من حيث النسب، لا من حيث الإخوة الإيمانية {أَلا تَتَّقُونَ} ألا تتقون الله! {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} رسول وأمين وتعرفون أمانتي {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} يعني أمرهم بتقوى الله وأيضًا عليكم أن تطيعوني لأنني أنا رسول رب العالمين، فدل على أن التقوى لله وحده، وأما الطاعة تكون لله ولأنبيائه {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} ما أسألكم عليه مالًا {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}

ما أجري إلا على رب العالمين فالثواب الذي عنده خيرٌ مما تملكونه من هذه الدنيا

 {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} كررها مرة أخرى، لأنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا فكرر عليهم:

 {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح: 5-6]، الآيات.

 {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ} يا نوح {وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} الفقراء والسفهاء، ولذلك قال عز وجل في سورة هود {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27]، ولذلك أمروه بأن يطردَهم كما أمرت كفار قريش أن يطرد النبي ﷺ صهيبًا وبلالًا وما شابه هؤلاء، ولذلك قال عز وجل:

{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52]، فقال هنا عنهم:

 {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} هذا شيءٌ بعيد يا نوح

{قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ما يعملونه اللهُ مُطَّلِعٌ عليهم، إنما أنا لي الظاهر: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي}: ما حسابُهم إلا على ربي {لَوْ تَشْعُرُونَ}

 {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} سواء كانوا من الشرفاء أو من الفقراء.

رسالتي ومهمتي: {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} ولذلك في سورة هود: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32]

 هنا إذا انغلقت الأبواب أمام الطغاة يزبدون ويرعون بالتهديد وبالعذاب: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} ممن يُرجَم بالحجارة حتى يموت، وأشد القتل هو بالحجارة.

 

{ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآية وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(122)﴾

{قَالَ رَبِّ} لجأ إلى الله {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} كذبوني {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} احكم بيني وبينهم وانصرني عليهم {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فآمن معه، وما آمن معه إلا قليل، ولذلك قال عز وجل: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر: 10-11]

 فقال عز وجل هنا عن نوح: {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}

{فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} فِي الْفُلْكِ: يعني السفينة، الْمَشْحُونِ: يعني المملوءة بما خلق اللهُ عز وجل وبالبضائع التي حملوها، سبحان الله مشحون مليء مع أنها سفينة ما أساسها؟

 {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13]، ذات ألواح ومسامير مع الطوفان العظيم لما قال لابنه {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43]

 فقال عز وجل هنا: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} يعني من بقي من قومه، وكان من بينهم زوجته وابنه

 {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} ممن لم يركب مع نوح.

 {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآية} علامة ودلالة في قصة نوح وفيها عبر.

 {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} لأنه ما أمن معه إلا قليل؛ {وَإِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فنجَّا نبيَّه نوحا ورَحِمَه، وهو القوي الذي أنزل عقابه بأعدائه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124)

{كَذَّبَتْ عَادٌ} لأن عادا بعد نوح {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف: 69]، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} والقول فيها كالقول في قصة نوح {المرسلين} وكذلك الكلام في كلمة {أخوهم} حتى لا يتكرر الكلام كثيرًا، فما قيل في قصة نوح يقال في القَصص الأخرى.

{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126)} ومرت هذه في قصة نوح

 {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} ومرت هذه أيضًا.

 

{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آية تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)

{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آية تَعْبَثُونَ} {أَتَبْنُونَ} من باب الإنكار عليهم {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ} المكان المرتفع

 {آية} يعني علامة {تَعْبَثُونَ} يعني تبنون البنايات من باب العبث، وأيضًا تعبثون فأنتم في مكان عالي وتعبثون لمن يمر في السفل برميهم وبإيذائهم

 {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آية تَعْبَثُونَ} دل هذا على أن البنيان من باب العبث مذموم.

 

 {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} المصانع هي القصور وأبراج المياه العظيمة، ولذلك كما قال تعالى:

 {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف: 69]، {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} يعني كأنكم تخلدون في هذه الدنيا

{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} يعني إذا انتقمتم انتقمتم كانتقام الجبابرة الذين لا رحمة في قلوبهم

{ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} وكرر ذلك عليهم من باب أن يذكرهم بعد ما ذكرهم ببطشهم وبما يفعلونه مرة أخرى لشدة ما هم عليه، ولذلك قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]

 {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ – وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} تعرفون ما الذي أمدكم الله به، أمدكم بخيرات وهو الله {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ} لما قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} بين لهم أن الذي وجب عليكم أن تتقوه هو الذي {أَمَدَّكُمْ} بما تعلمون، أمدكم {بِأَنْعَامٍ} بهيمة الأنعام {وَبَنِينَ} أولاد من الذكور

{وَجَنَّاتٍ} بساتين {وَعُيُونٍ} {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فينزل بهذا اليوم عذابُه عز وجل العظيم فيكون هذا اليوم يومًا عظيمًا.

 

{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآية وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(140)﴾

 {قَالُوا} من باب التهكم به {سَوَاءٌ عَلَيْنَا} يعني يستوي عندنا {أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ}

سواءٌ كنت ممن يلي الوعظ أو لست أصلا ممن لا يعظ أبدًا، ولذلك لم يقولوا سواء علينا اوعظت أم لم تعظ، لا {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} من حيث الأصل، فلن نقبل منك وهذا يدل على أن أعظم الوعظ، الوعظ بالتوحيد لأنه وعظهم بالتوحيد.

ولذلك لو أن شخصا أتى في محاضرة وتكلم في التوحيد في كل محاضرته فهذا أعظم الوعظ، خلافًا لمن ينفر من الدروس العلمية المتعلقة بالتوحيد ويقول ما فيها تربية ولا فيها إيمان! سبحان الله هذا يدل على أنه جاهل نسأل السلامة والعافية.

 {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} يعني ما هذا الذي نحن عليه مما تدعونا إلى تركه إلا خلق الأولين يعني عادة وطريقة الأولين، يعني نحن كغيرنا ممن سبقنا، كما قال بعدهم لأن إبراهيم أتى بعد عاد وبعد ثمود {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} يعني ما هذا إلا خلق الأولين

 {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} لو قلت هذا الكلام {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أعوذ بالله من طمس البصائر

 { فَكَذَّبُوهُ} مباشرة ما الذي أتى؟ {فَأَهْلَكْنَاهُمْ} أهلكهم بالريح العتيق وأهلكهم بالصاعقة

 {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13]

 وكذلك بالصيحة -على أرجح التفسير- في قوله في سورة المؤمنون:

 {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 41]

 

{فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآية وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(140)﴾  {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآية} عبر في هذه القصة، وهي أيضًا عبر، هذه القَصص عبر لكم يا كفار قريش فانتبهوا أن محمدا ﷺ ما عاشر هؤلاء، فكونُه يذكر هذه الأشياء دل على أن ما أتى به هذا القرآن مما يتلوه محمد ﷺ هو الحق {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآية وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ} قوم هود {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فرحم هودا ومن معه وأهلك بقوته قومَ عاد.

﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141}

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} بأن ثمود بعد عاد

 {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ اللَّهِ} [الأعراف: 74]

﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)

 وهذه كلها مرت معنا فيما مضى.

{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)}

{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} يعظهم صالح عليه السلام، أتتركون في هذه الأماكن التي أنتم فيها، كما قال الله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} [الأعراف: 74]، يعني هل تظنون أنكم ستبقون آمنين من عذاب الله وأنتم باقون على الكفر!

{آمِنِينَ} يعني عندكم أمن

 {فِي جَنَّاتٍ} بساتين {وَعُيُونٍ} وهي مدائن صالح من جهة ما بين المدينة والشام، وأما بالنسبة إلى عاد فهي في اليمن {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} [الأحقاف: 21].

{وَزُرُوعٍ} دل على أنهم يزرعون الحبوب بجميع أنواعها

{وَنَخْلٍ طَلْعُهَا} عندهم النخل، {طلعها} الذي يخرج أول ما يخرج من الثمار

 {طَلْعُهَا هَضِيمٌ} يعني من طيبها ومن نضجها كأنها في ذاتها تُهضَم من غير أن يهضمها صاحبها، فأي نعيم بعد هذا النعيم من النعيم الدنيوي.

 {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} يعني حاذقين، ولذلك يقال مثلًا كما يقال بعض الناس وهي عامية لكنها لغة عربية إنسان مثلا معه سيارة فارهة أو مثلا بيتٌ فاره يعني حاذق يعني قليل مثلُه.

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)}

 {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} لما ذكَّرَهم وقال الفصل أمرهم أيضًا بتقوى الله عز وجل، بينما قصة نوح عليه السلام لطول الزمن لأنه لم يعظهم إنما الوعظ أتى بعد قوله:

 {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} الآيات

 {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} الذين تجاوزوا الحد في الطغيان والكفر

 {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} ثم أكَّد من أن هؤلاء ليس عندهم أي صلاح، لأن بعض الناس قد يفسد وعنده نوع من الصلاح قال: {وَلا يُصْلِحُونَ} من هم؟

{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48]

 

{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآية إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآية وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(159)﴾

{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ} الخطاب لصالح {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} يعني ممن أصيب بالسِّحر،

 وبعض المفسرين يقول: أنت من المعلَّلين بالطعام، مأخوذٌ من السُّحر “الرئة”

 لكن الذي يظهر: قصدوا بذلك السِّحر، لأنهم ذكروا بعد ذلك: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} وهذه علةُ من يعارض الرسل، ومر معنا هذا كثيرًا.

 {فَأْتِ بِآية إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أعطنا آية {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ} هي آية لهم ولذلك قال عز وجل:

 {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59] مُبْصِرَةً: يعني واضحة، حتى أنه لوضوحها كأنها تُبصِر نفسَها وأنَّ لها عينين تُبصِرُ ذلك من قوة الدلائل الواضحة على أنها آية ومعجزة

 {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} لكل منكم شرب من البئر لها يوم ولكم يوم، لا أحد يعتدي على حق الآخر، ولذلك قال عز وجل في سورة القمر: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ – إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ – وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 26-28]

 كل أحد يحضر في وقته للشرب، الناقة في يومها وأنتم في يومكم.

{وَلا تَمَسُّوهَا} هوَ أَحَسَّ بأنهم سيعتدون عليها، ولذلك عمم {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} بأي سوء

{فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وصف اليوم بأنه عظيم لأن العذاب الواقع فيه عظيم

 {فَعَقَرُوهَا} مع أن الذي عقرها كما هو المشهور عند المفسرين رجل يقال له قُدار، لكنه نسب إليهم هذا الأمر كلَّه لأنهم اتفقوا معه ولذلك قال عز وجل: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [القمر: 29]

عقروا الناقة ذبحوها {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} لم يندموا على كفرهم وعلى تكذبيهم! لا،

 نادمين خوفًا من أن ينزل بهم العذاب، لأن صالحًا عليه السلام ماذا قال؟

 {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65]، ولذلك قال عز وجل هنا:

 { فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} ما هو العذاب؟ الرجفة كما في سورة الأعراف، والصيحة كما في سورة هود، والصاعقة كما في سورة فصلت: {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}

 

 {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآية} علامة وعبرة في قصة صالح

 {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} يا محمد ما آمن الكثير من قوم صالح فاعتبِر وتسلَّ

 {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فرحم صالحا ومن معه؛ وهو القوي الذي أنزل عذابَه الشديد العظيم بهؤلاء الكفرة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160)}

ومعلومٌ أن قبل لوط إبراهيم، ولذلك ماذا قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]،

 {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71]

{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)} [سورة الشعراء]

 هذه مرت معنا، لكن وعظهم بعد ذلك:

{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}

 {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} دل هذا على رجحان من يقول من أنهم كما يأتون الرجال يأتون أيضًا الذكور ولو لم يبلغوا؛ ما سبقكم أحد إلى هذا الأمر.

 {مِنَ الْعَالَمِينَ} العالمون هنا هم الإنس فقط، فدل هذا على أن كلمة العالمين تطلق على كل ما سوى الله فهو عالَم كما في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]

وتطلق على زمن معين كما قال عز وجل عن بني إسرائيل: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِين} [البقرة: 47]، وتطلق على الإنس والجن {ليكونَ للعالمين نذيرًا}

 وتطلق على الإنس حسب السياق هنا الإنس.

 

 {وَتَذَرُونَ} أي تتركون {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} متجاوزون الحد، ولذلك قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج: 29-31] دل على أن اللواط اعتداء ولذلك النبي ﷺ كما ثبت عنه قال: “إذا وجدتم من يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعلَ والمفعولَ به”.

 

 

{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(175)﴾

{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} قال تعالى عن هؤلاء قوم لوط: {قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56]، هددوه بأن يخرجوه من ديارهم.

{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ} يعني عن وعظنا وعن نهينا.

 {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} القالين يعني: المبغضين، ولذلك قال تعالى:

 {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3] ما قلى: يعني ما قلاك، يعني ما أبغضك.

{قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} أبغض عملَكم الذي أنتم عليه.

{رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ}

في الغابرين: يعني بَقِيَت ممن أهلَكَهُم الله عز وجل، الغابر يعني الباقي، ولذلك قال عز وجل:

 {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود: 81]

قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35-36]، ما آمن معه أحد إلا كما قال المفسرون: لم يؤمِن إلا بناتُه، قيل اثنتان وقيل ثلاث

 فقال عز وجل هنا: { ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} دمرناهم تدميرًا وذلك بالحجارة: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} [هود: 82-83]

 فقال عز وجل هنا: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} بالحجارة {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} مطر سوء، ولذلك قال تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرقان: 40] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآية} علامة وعبرة في قصة لوط {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} لم يؤمن معه إلا بناتُه، فتسلَّ يا محمد، إن كُذِّبْتَ فقد كُذبَت رسل من قبلك:

 {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4]

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآية وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ} يا محمد فهو يتولاك ويرعاك {لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} عزيز قوي أهلك قوم لوط، ورحيم رحم لوط ومن آمنَ معه ونجاهم من العذاب الأليم.