تفسير سورة ( الطلاق )
الدرس (252 )
فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير سورة الطلاق… وهي من السور المدنية….
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)}
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} وقد مر معنا في قوله عز وجل في أول سورة الأحزاب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} مر معنا من أن الخطاب الموجه للنبي موجه لأمته، فلا يخص عليه الصلاة والسلام بحكم إلا بدليل
قال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} ولم يقل: “إذا طلقت” من باب أنه يشمل الجميع، {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} يعني مستقبلات لعدتهن، ولذلك ثبت قوله عليه الصلاة والسلام: ” فليطلقها حاملا أو حائلا” يعني من أن الإنسان إذا أراد أن يطلق الطلاق السني، فإنه يطلق زوجته إذا كانت حاملا قد استبان حملها، أو إذا كانت غير حائض يعني أنها كانت في طهر لم يجامعها فيه، ومن ثم فإن قول البعض من أن طلاق الحامل لا يقع قول باطل، فإنهم لم يفهموا النصوص الشرعية، فدل هذا على أن طلاق الحامل هو الطلاق السني، ومن ثم فإن الطلاق البدعي أن يطلق الإنسان والمرأة حائض، أو أنه يطلق المرأة في طهر جامعها فيه، بل إن الطلاق الشرعي أن تطلق في طهر، يعني بعد أن طهرت من حيضها في طهر لم تجامعها فيه هذا هو الطلاق الشرعي، ويكون طلقة واحدة.
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} لأنه إذا طلق في الحيض فإن الوقت يطول على المرأة، لكن هنا إن طلق في طهر لم يجامعها فيه هنا بعد الحيض، فإن نفسه تشتاق إلى جماعها، ومن ثم فإن في هذا تقليلا من الطلاق؛ لذلك قد يطلقها في الحيض؛ لأن نفسه لا تتوق إلى الجماع، لكن إذا حصر بهذه الأشياء ولله الحكمة البالغة فيما شرع فقال عز وجل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} يعني اضبطوا العدة من قبل الزوج، ومن قبل الزوجة، وذلك حتى لا تتزوج المرأة في عدتها، فيكون زواجا باطلا، وحتى لا تختلط الأنساب.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} أمرهم بتقوى الله مما يدل على أن تقوى الله تصلح بها بإذن الله أمور الزوجين وأمور الأسرة.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} فدل هذا على أن إخراج أو أن خروج المرأة من بيت زوجها إذا طلقها طلاقا رجعيا، فإنه محرم، ومن ثم فإن ما يصنعه البعض من أنه إذا طلق امرأته طلقة واحدة يعني له المراجعة لها أخرجها أو خرجت فإن هذا لا يجوز، فما يفعله الناس مخالف للسنة، فقال تعالى {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} بل أضاف الأمر إلى بيوتهن باعتبار أنهن مالكات لهذه البيوت من حيث سكناهن في ذلك مع أنهن لا يملكن هذه البيوت إنما يملك هذه البيوت من هم؟ هم الأزواج، ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما كما في الصحيح: ” رقيت بيت حفصة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم ” مع أن البيت بيت النبي، ومن ثم فإن قول البعض من أنه يقول: إن البيت إذا لم ينسب إلى المرأة دل هذا على أن هناك خصاما، أو أن هناك غير وفاق بينهما، فنقول هذه الآية ترد ما تقولون، ولذا قال {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} ولذلك قال تعالى {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} {فِي بَيْتِهَا} دل هذا على ماذا؟ على أن المرأة ينسب إليها البيت باعتبار أنها تسكن فيه، وإن كان ملكا لزوجها.
{وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} يعني إذا وقعت في فاحشة مبينة يعني أن تلك الفاحشة قد وضحت وضوحا تاما، وذلك بأن تزني، وهذا هو أعظم ما يكون من الفاحشة بينة أو أنها ذات خلق سيء أو قول سيء فإن له حينها أن يخرجها، ثم قال {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} يعني ما مضى حدود فيجب ماذا؟ أن يحافظ عليها، {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ومر معنا ذلك مفصلا فيما يتعلق بالحدود في سورة البقرة.
{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} فتنقلب تلك العداوة إلى محبة، وذلك الفراق إلى ألفة، ومن ثم فإنه كما قال بعض المفسرين ما يدرى ربما أنها تنجب له ولدا، فإذا هذا الولد يكون بإذن الله يكون وفاقا بينهما، فلا يستعجل الإنسان في طلاق زوجته {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} ومن ثم فإن المرأة إذا طلقت وهي مطلقة طلاقا رجعيا فإن لها من الحقوق مثل ما للنساء، فالرجعية ما تزال زوجة، بل إنها إذا بقيت في بيت زوجها تتجمل وتتزين لعله أن يجامعها، فإذا جامعها بنية الرجعة فإنها تعتبر رجعة صحيحة، ويكون بذلك راجعها قبل زوال عدتها.
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} يعني قاربن انقضاء العدة فهنا كما قال الله {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ومر معنا تفصيل ذلك في سورة البقرة، {فَإِذَا بَلَغْنَ} يعني قاربن انقضاء العدة {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} بمعنى أنكم تمسكونهن بمعروف بحسن معاشرة، وإذا فارقتم المرأة فلتفارقوها بالمعروف من غير سوء ومن غير كلام ومن غير إساءة لها، وبحث عن الماضي {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} يعني أمروا بالإشهاد عند طلاق المرأة وعند إرجاعها بأن يشهد اثنين قال {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ومر معنا العدالة فيما يتعلق بالشهود بحديث مفصل في آية الدين في سورة البقرة. ومن ثم قال بعض العلماء إنه يشترط لصحة الرجعة أن يشهد اثنين لكن الصحيح لو أنه راجعها من غير أن يشهد فإن الرجعة تكون صحيحة، لكن هل يأثم أم أنه لا يأثم؟ بناء على الخلاف {وَأَشْهِدُوا} هل هنا للوجوب أم للاستحباب؟ ومن ثم فإن على من طلق زوجته، وأراد أن يراجعها عليه أن يشهد اثنين. {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} يعني في كل أمر من الأمور إذا شهدتم فلتكن شهادتكم من أجل الله، من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل، لا لغرض من الدنيا.
{ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} ولذلك في سورة البقرة {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ} وقال {مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} وبينا في سورة البقرة الضمائر المتعلقة بها {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} .
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} لما ذكر في أول الآية {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} هنا من اتقى الله فيجعل الله له مخرجا في دنياه، وفي أخراه، فيفرج الله عنه حتى قال بعض السلف لو أن الناس كلهم أصيبوا بمصيبة، فإن الله ينجيه ويجعل له مخرجا، ولو كان كل الناس قد أصابهم ما أصابهم قال هنا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} من المخرج أن الله يجعل لك مخرجا إذا اتقيت الله فيما يتعلق بماذا؟ بزوجتك وما بينكما من معاشرة أو طلاق أو نحو ذلك.
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} يأتيه الزرق من حيث لا يدري كيف أتاه هذا الرزق، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} يعني من يتوكل على الله ويفوض أمره إلى الله، فالله هو كافيه قال تعالى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}
{إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} يعني ما قدره الله سيقع، ويحصل لا محالة، لكن عند وقته، ولذلك ماذا قال بعدها {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} فلا يستعجل الإنسان {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} فكل ما قدره الله سيقع في زمنه المحدد الذي قدره.
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)}
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} هذا صنف من النساء، {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} وهي المرأة التي انقطع عنها الحيض، ولذلك قال بعض العلماء: إن الحيض ينقطع عند خمسين سنة، وقيل بأكثر، والصيحح أنه لا يحد بعدد من السنين؛ لأن هذا يختلف باختلاف البلدان، واختلاف بيئة المرأة، بل متى ما انقطع حيضها فطلقت فإن عدتها تكون ثلاثة أشهر. قال {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} يعني شككتم قال بعض المفسرين يعني إن تيقنتم {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} والصحيح أن الريب هنا على ظاهره يعني إن شككتم، قال بعض المفسرين: إن شككتم هل هذا دم حيض أم لا {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} والصحيح الذي هو ظاهر الآية من أن حكم هؤلاء النسوة إن ارتبتم في حكمهن فحكمهن هذا الحكم، ما هو؟ {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}.
{إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} يعني من تزوجت ولم يسبق لها أنها حاضت فحينها إذا طلقت فعدتها أيضا ثلاثة أشهر، ولماذا ثلاثة أشهر؟ لأن المرأة إذا كانت تحيض ولم تكن حاملا فعدتها ثلاث حيض، والغالب أنه في كل شهر تكون حيضة.
{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} هذه يسميها الفقهاء بأم المعتدات، يعني متى ما كان الحمل موجودا فإن العدة لا تنتهي إلا به سواء كان متوفى عنها زوجها، أو فارقها زوجها حال الحياة. إذن مع وجود الحمل لا يلتفت لعدة حيض أو لأشهر أو ما شابه ذلك، وإنما ينظر إلى الحمل حتى لو لم يكن بين حملها وبين وضعها إلا يوم فإن عدتها تنتهي، وفصلنا ذلك في سورة البقرة عند قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} فإذا وضعت ما في بطنها إن كان واحدا فإن عدتها تنتهي بوضع الحمل حتى لو طلقها في الشهر التاسع ثم بعد ساعة وضعت فإن عدتها قد انتهت، ومن ثم فإن الحمل إذا كان أكثر من احد فإن عدتها لا تنتهي إلا بوضع كل الحمل المتعدد.
{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} كرر تقوى الله {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} ييسر له أموره في دنياه، وفي أخراه.
{ذَلِكَ} يعني ما مضى {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ} يعني ما أمركم الله {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} فطبقوه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} كرر تقوى الله {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} وتأمل في الآيات في كثير منها تأتي مغفرة الذنوب وتكفير السيئات مع ماذا؟ مع حصول الأجر؛ لأن تكفير السيئات يزول عن الإنسان ما يخافه، والأجر يأتي إلى الإنسان ما يحبه.
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)}
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} يعني من وسعكم يعني أسكنوا المطلقات {أَسْكِنُوهُنَّ} قال بعض المفسرين هذا فيما يتعلق بمن؟ المرأة التي هي قد طلقت طلاقا بائنا، ولا رجعة لها إلا بزوج آخر، فقال تعالى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} بمعنى: أنكم لا توقعوا الضرر بهن حتى يخرجن من هذا السكن، {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وذلك لأن المرأة المطلقة طلاقا بائنا لا نفقة لها، لكن إذا كانت حاملا فينفق عيها من أجل الحمل فقال الله: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فأتوهن أجورهن على هذا الإرضاع، والقول الآخر من أن سياق الآيات يتعلق بالمطلقة الرجعية، لم؟ لأن المطلقة طلاقا بائنا كما جاء في الحديث الصحيح لا نفقة لها، ولا سكنى، فقال الله هذه الآيات فيما يتعلق بالرجعية، لكن من يقول من أن المقصود طلاق البائن قال: المرأة الرجعية ينفق عليها سواء كانت حاملا أو غير حامل، فلماذا ذكرت هنا؟ فالجواب عن هذا من أن المرأة الرجعية لها النفقة، لكن لما كانت مدة الحمل تطول ربما يتوهم من أنه لا نفقة لها لما طالت المدة فأتى هذا الحكم لبيان هذا الأمر، ولذلك ماذا قال تعالى {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} أي تشاوروا فيما بينكم بمعروف من أجل مصلحة الولد فيما يتعلق برضاعه.
{وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} وقال هنا {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} لأنه لا ينبغي لأب أن يعاسر الزوجة فيما يتعلق بإرضاع ابنه، ولا الأم، أين الأم الحنون؟ فلاينبغي أن يكون بينهما هذا التعاسر، {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} يعني إن لم تتفقوا فسترضع له أخرى يعني امرأة أخرى.
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} يعني النفقة إنما تكون على حسب وسع الإنسان إن كان غنيا فعلى حسب غناه، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} يعني من ضيق عليه رزقه {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ} يعني مما كتب الله له {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا} يعني إلا ما أعطاها {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} لما قال {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} فقال هنا {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} وهذا شأن أي عسر يأتي بعده اليسر، ولذا قال تعالى {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} يعني كثير من القرى {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} وفي هذا تحذير كفار قريش من الكفر بهذا الدين، {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} {عَتَتْ} يعني طغت وتجاوزت أمر الله {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} يعني عذابا فظيعا تنكره القلوب.
{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} يعني عاقبة أمرها {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} يعني أن العاقبة ليست عاقبة طيبة بل الخسارة.
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} ومن ثم قال بعض المفسرين {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} يعني في الآخرة وقوله {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} يعني في الدنيا، وقيل المقصود في الآخرة، فيكون قوله تعالى {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} من باب التكرار والتأكيد على شدة عقوبته، {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ} دل هذاعلى ماذا؟ على أن الذي ينجي من عذاب الله تقوى الله، {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} يعني أصحاب العقول هم الذين يتقون الله لأنهم آمنوا ولذلك ماذا قال بعدها {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} وهو القرآن فيه الذكرى وفيه الشرف لمن أخذ به.
{رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ} {رَسُولًا} هل هو بدل من {ذِكْرًا} باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ لهذا الذكر، فكان بدلا عنه من حيث الإعراب، أو أنه منفصل عما مضى يعني وأرسلنا رسولا {رَسُولًا} يعني منصوبة بفعل محذوف يدل عليه المقام.
{رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} {مُبَيِّنَاتٍ} يعني أنها موضحات للحق، {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} في آية أخرى {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} لأن القرآن إنما أنزل من أجل أن يخرج الناس كلهم من الظلمات إلى النور، لكن هناك من لم يوفق، لكن الذي يوفق هو الذي يستفيد وينتفع من هذا القرآن. {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} من ظلمات الجهل والشك والنفاق وما شابه ذلك إلى نور الإيمان والعلم والخير والهدى، وبينا ذلك أكثر في سورة البقرة مفصلا، فقال الله {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} وقد مر معنا في السور ة السابقة ما يتعلق بهذا قال هنا {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} أحسن الله الرزق، وأحسن الرزق هو الجنة. {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ} يعني لتتأملوا ولتتدبروا ولتتعظوا حتى تعلموا أن الله هو الذي يستحق العبادة، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} {مِثْلَهُنَّ} من حيث العدد؛ لأنهن سبع كما أن السماء سبع، وقد جاءت أحاديث منها: ” من ظلم شبرا طوق من سبع أراضين” ، لكن المثلية ليست من حيث الصفة لأن صفة الأرض تختلف عن صفة السماء، المقصود من ذلك العدد. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} أمر الله مما أمر به جبريل أن ينزل بالوحي، أيضا ما أمر الله به من الأوامر الكونية القدرية {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} ولذلك ماذا قال عز وجل {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}. {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} من أجل ماذا؟ {لِتَعْلَمُوا} يعني خلق الله السموات والأرض من أجل ماذا؟ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}الله على كل شيء قدير، فلا يعجزه شيء وأحاط بكل شيء علما إذن ما الذي يلزمكم إذا أقررتم لأنهم يقرون بأن الله هو الذي خلق السموات {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وهذا يدل على أنه يلزمكم أن تعلموا {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ومن ذلك أنه يبعثكم يوم القيامة {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} ….
وبهذا ينتهي تفسير سورة الطلاق……