تفسير سورة [ العصر ]

تفسير سورة [ العصر ]

مشاهدات: 484

( تفسير سورة العصر )

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:

أما بعد:

فقد قال الله عز وجل:

{ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) }

 

هذه السورة يقول عنها الإمام الشافعي رحمه الله:

 ” لو لم يُنزل اللهُ عز وجل على الناس إلا هذه السورة لكفتهم “

ولعلها السورة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قوله ( لو لم ينزل الله على الناس إلا سورة لكفتهم ) أُبهِمَت في الحديث، فلعل الشافعي رحمه الله يفسر هذا الحديث بأن هذه السورة هي سورة العصر، وهي سورة قصيرة في آياتها ولكنها عظيمةٌ في معانيها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال تعالى { وَالْعَصْرِ{1} }

هنا قَسَم من الله عز وجل بالعصر، ما هو هذا العصر؟

العصر هو الزمن، الدهر، ويدخُل فيه ضِمنا كما قال بعض العلماء: ما بعد الزوال إلى الغروب، ويدخل ضمنا أيضا كما قال بعض العلماء: صلاةُ العصر لأنها الصلاة الوسطى.

 

فأقسم عز وجل بالزمن، وقسمه عز وجل بالزمن جاء في مواضع متعددة:

أقسم بالضحى {وَالضُّحَى } الضحى1، أقسم بالليل {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } الليل1 ، أقسم بالنهار.{وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى }الليل2

لم أقسم عز وجل بالزمن، لمَ أقسم بهذه الأوقات؟

لكي يبين عز وجل للناس أن الزمنَ عظيم، وأن هذه الدنيا لا تُمدَح إلا إذا جُعلت مَطِيَّةً للآخرة فاستُفيدَ مِن ليلِها ونهارِها، فلا يُضَيِّعُ الإنسانُ على نفسِه الأوقات التي تَمُرُّ به دون أن يَتقربَّ فيها إلى اللهِ عز وجل، ولذا لو نظرنا إلى ما بعدها من الآيات لوجدنا أن هذا يؤكد ما قررناه.

والقَسَم في اللغة تأكيد

ما الذي بعدها؟

{ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ {2} }

{ إِنَّ } هنا مُؤكِّدة، تأكيدٌ ثاني، { إِنَّ الْإِنْسَانَ} أي: أن كلَّ إنسان، لأن [ ال ] التي في الإنسان هنا تدل على العموم المطلق،

لأن علامةَ العمومِ المطلق في [ ال ] أن تُحْذَف ويصح أن يَحِلَّ مَحَلَّها [ كل]، يعني: [ كلَّ إنسانٍ لفي خُسر ] في خسارة، هكذا حكمَ اللهُ عز وجل على بني الإنسان أنه في خسارة.

 

ثم عبَّر هنا بكلمة { في } لأن الإنسان كلما انحط في الضلالة كلما كان في سُفًل وذُل وانهيار وانحطاط، بينما لو كان تقيًّا مؤمنا ما يأتي بكلمة [ في ] وإنما يأتي بكلمة [ على ] التي تدل على العلو والرفعة، قال تعالى { أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }البقرة5 علَوا بهدى الله عز وجل، ولذلك جمع الله عز وجل بين الفريقين وفرَّق في الكلمتين، قال تعالى:

 { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى } في الطرف الثاني { أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }سبأ24.

إذاً/ مَن أراد العلو فعليه بطاعة الله،

ومن أراد السُّفُل والذل فطريقه في معصية الله عز وجل.

 

ثم استثنى جل وعلا، قال { إِلَّا }

يقول العلماء ” إن الاستثناءَ معيارُ العموم، يعني عمَّم أن الإنسان بجميع أنواعه لفي خسارة، إلا من؟ { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا  } هذا هو الوصفُ الأول

{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } هذا هو الوصفُ الثاني.

{ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ } هذا هو الوصفُ الثالث.

{ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر } هذا هو الوصفُ الرابع.

قال تعالى { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا } يعني صدَّقوا، ولا ينفع الصدق فقط، لابد من عمل، وكون الإنسان يؤمن بشيء يدل على أنه تلقى هذا الشيء، فهذا يدل على فضلِ العلم، لأنك لا تُصدقُ بشيء إلا إذا أُخبِرتَ به، فهذا يدل على العلم، فكلمة { آمَنُوا } تدل على العلم

إذاً الإيمان يُتَعَلّم؟ نعم، الإيمان يُتَعَلّم، ولذلك قال بعض الصحابة رضي الله عنه:

 ( تعلمنا القرآن والإيمان ) وقال تعالى: { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ }الشورى52

 فدل على أن الإيمان يُتعلَّم، فالإنسان لا يمكن أن يزداد إيمانُه إلا بالعلم الشرعي، ومعلومٌ أن الإنسان كلما ازداد علما ووفقه الله عز وجل ولم يُضِلَّه فإنه يكونُ في نور وهدى وخير وإقبال على الله عز وجل.

ـــــــــــــــــــــ

الصفة الثانية {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }

فالعملُ الصالح داخلٌ ضِمنَ الإيمان، لكن الله عز وجل أفرَدَ العملَ الصالح بالذكر مِن باب الاهتمام به،{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ما هو العملُ الصالح؟

هو الذي أخلَصَ العبدُ فيه لله عز وجل، وعَمِلَ بهذا هذا العمل على مقتضى سنةِ رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم

– سبحان الله – إذا عمِلَ الإنسان العمل الصالح يكافئه الله عز وجل بصلاح حاله في دنياه قبل أخراه، ما رأينا إنسانا يعملُ صالحا إلا أصلحَ اللهُ عز وجل له حالَه وشأنَه في حياته،

 ففي أخراه من باب أولى، وهذا يدل على فضل العمل الصالح، وأن الإنسان يقتطفُ ثمارَه في دنياه قبل أخراه.

آمنت وتعلمت وعملت العمل الصالح، سُررت به، هذا نعيم ولذة، ما الواجب عليك؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصفة الثالثة { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ }

الواجبُ عليك: أن تنقُلَ هذا النعيم الذي شعرت به إلى أخوانك الآخرين، لا تكن أنانيا، ولذا قال تعالى { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ } والحق: هو العمل الصالح، هو الإيمان، فهو حق لأنه آتٍ مِن الله عز وجل وهو الحق، يعني: الراسخ القوي الذي مَن سَلَكَه فلن تَزِلَّ قدمُه بإذن الله تعالى، لا في هذه الدنيا، ولا على الصراط الذي يوضع على متن جهنم، لأنه حق.

 

{ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ } يعني يوصي بعضُهم بعضا، وفي هذا دليل على النصيحة، فإذا رأيت من أخيك المسلم ما يُخالف شرعَ الله عز وجل فإن عليك أن تُناصِحَه، وعليه أن يقبلَ منك.

ويدل هذا على: أن الصالحين يجب أن يتواصوا بالخير لأن أهل الفسق والفجور يتواصون على الشر، ولذلك الفاسق يحب أن يعمل غيرُه مثلما يعمل حتى يشاركَه

ولذا أهل الباطل لما قال لهم النبي ﷺ ( قولوا كلمة تسودون بها العربَ والعجم، قالوا: نقول ألف كلمة، قال قولوا ” لا إله إلا الله ” ) لكنهم علِموا بمقتضاها، فماذا قالوا؟

 { وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ }ص6 يريده محمدٌ منا، والآخرون ماذا قالوا؟ { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ }نوح23، يتواصون بالباطل، ألا يجدر بأهل الحق أن يتواصوا على الحق وعلى العمل به؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصفة الرابعة { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ }

تنقُلُ هذا النعيم وهو العملُ الصالح إلى غيرك، ربما تُؤذَى، ربما تَشتم، ربما تُضرب، ربما يُؤخذ مالك، لكن لا بد مِن الصبر، فالطريق ليس ممهدا، فعليك أن تصبر لأنه في سبيل الله عز وجل، وهذا يدل على: أن الصراع قائمٌ بين أهل الحق والباطل إلى قيام الساعة، فلا يَستغرب أحد أن يفعل أهل الباطل ما يفعلون في زمننا هذا، أو ما سيكون في الزمن الآتي، لكن ماذا علينا نحن؟

أن نتواصى فيما بيننا على الحق، وأن ننقل هذا الحق، وأن نصبر على الأذى في نقل هذا الحق،

 ولذلك يقولُ ابنُ القيم رحمه الله: ” إن مَن تمسّك بهذه الصفات الأربع المذكورة في هذه السورة صار عالما ربانيا ” من هو العالم الرباني؟

هو مَن عَلِم العلمَ الشرعيّ، وعَمِلَ به، ودعا إليه، وصبَر على تَحُمّل الأذى في الدعوة إليه،

  وهي المسائل الأربع التي ذكرها الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهَّاب رحمة الله عليه، قال:

 ( اعلم رحمك الله: أنه يجب عليك تعلّم أربعَ مسائل، ذكَر: العلم والعمل والدعوة والصبر )

{ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}

يعني: أنت يا ابنَ آدم محكوم عليك بالخسارة إلا إن أنقذك اللهُ عز وجل، وسبيلُ الإنقاذ العلم الشرعي ثم العمل الصالح ثم الدعوة إلى هذا العمل الصالح ثم الصبر على تحمُّل الأذى.

 

هذا هو الوجه الذي ذكره معظم العلماء في تفسير هذه السورة، ولهم تفسير آخر، لكن هذا التفسير أشهر وأوضح وهو الذي يليق بهذه السورة العظيمة.

نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.