تفسير سورة القصص من الآية ( 22 ) إلى ( 42 ) الدرس (196 )

تفسير سورة القصص من الآية ( 22 ) إلى ( 42 ) الدرس (196 )

مشاهدات: 535

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة القصص

من آية (22) إلى آية (42)

( الدرس 196 )

لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

 

 

﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ(24)﴾

{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ}: أي جهة مدين، تلقاء منصوبة على الظرفية المكانية، {وَلَمَّا}: يعني حين {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ}: لأن مدين هي ما بين أطراف الشام وأطراف الحجاز، فهي ليست تحت سيطرة فرعون {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}: يعني إلى الطريق السوي الذي أصل به إلى مدين من غير تعب ولا خوف ولا مشقة {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ}: الورود هنا الوصول وليس معناه الدخول؛ لأن قوله تعالى: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا}:[الأنبياء: 99]، يعني ما دخلوها فالورود يطلق على الدخول ويطلق على الوصول والظهور على الشيء، هنا وصل إلى الماء الذي يستقي منه أهل مدين {عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ}: يعني جماعة من الناس، {يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ}: أي تمنعان المواشي التي لهما عن الماء {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ}: يعني بعيد عن هؤلاء ومن خلف هؤلاء {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا}: يعني ما شأنكما لا تسقيان كغيركما {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ}: يعني حتى ينصرف ويرجع الرعاء: جمع راعي، فنحن ضعفاء ونساء ضعيفات {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}: يعني ليس لدينا رجل إلا هو الأب وهو شيخ كبير لا يستطيع {فَسَقَى لَهُمَا}: ولذلك يقول بعض المفسرين -ولم أرى دليلًا صحيحًا عليه- من أنهم كانوا يضعون حجرًا على هذه البئر لا يستطيع أن يرفع ذلك إلا عشرة من الرجال، فرفعه موسى عليه السلام وحده {فَسَقَى لَهُمَا}: سبحان الله {فَسَقَى لَهُمَا}: يعني من أجلهما لا يريد جزاء ولا شكورًا رحمة بهما، وهذا يدل على كرمه وعلى مروءته عليه السلام {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ}: ذهب وانصرف إلى الظل هل هو ظل شجرة أو ظل جدار الله أعلم المهم أنه ظل {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}: شكى إلى الله حاله، فأنا فقير لأي شيء تنزله علي سواء كان قليلًا أم كثيرًا، وقد قال بعض المفسرين قصد بذلك الطعام، وعلى كل حال شكا حاله إلى الله {إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}:.

 

﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ(28)﴾

سبحان الله جاء الفرج {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا}: يعني إحدى البنتين {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ}: دل هذا على أنها تمشي وهي ذات مروءة وحشمة وبستر وبعفاف {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ}: ليثيبك {أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}: فذهب معها {فَلَمَّا جَاءَهُ}: جاء موسى إلى أبيهم {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ}: يعني المقصوص، قص عليه حاله وشأنه مع فرعون {قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: لأن فرعون لا سيطرة له على هذه البلاد {نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: وهل هذا شعيب عليه السلام أم أنه غيره؟ بعض المفسرين يقول هو شعيب عليه السلام، لكن الذي يظهر من أنه ليس شعيب؛ لأن شعيبا عليه السلام كان بعد قوم لوط وهناك مسافة بين موسى وبين شعيب من السنوات، فليس بالنبي شعيب ولو كان هو النبي شعيب لصرح الله عز وجل ولذكر اسمه، فدل هذا على أن الصحيح أنه ليس بالنبي شعيب؛ لأن السنوات التي بينهما سنوات طويلة {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ}:ليكن أجيرا عندنا {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}: فخير من يُستأجر ويوضع على أي عمل القوي في ذلك العمل الذي يقوم به وأمين عليه؛ لأن من كان قويًا على العمل ومحسنًا للعمل لكنه ليس بأمين لم يقم بالعمل ولم يتم، ولو كان أمينًا لكن ليس عنده خبرة ولا قوة فلا يتم العمل {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}: وهذا يدل على مشروعية الإجارة {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ}: أي أن أزوجك {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}: وهذا يدل على أنه يجوز بل من السنة أن يخطب الرجل لابنته كما هنا، ولذلك عمر رضي الله عنه كما ثبت عنه عرض حفصة على أبي بكر وعلى عثمان رضي الله عنهم فتزوجها النبي ﷺ {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ}: حجج يعني سنوات مقابل الزواج، دل هذا على أن المهر لا يلزم أن يكون مالًا، ولذلك لو أن المرأة مثلا لو أنها لها ماشية وأرادت أن يرعاها شخص على أن يتزوجها مقابل الرعي كان هذا الرعي مهرًا، ولذلك النبي ﷺ كما ثبت عنه لما قال ذلك الرجل ما عندي مال يا رسول الله قال: زوجتكها بما معك من القرآن. {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ}: لم يخصص إحدى البنتين، ومعلوم أن الإنسان لو أراد أن يزوج ابنته فقال لشخص زوجتك إحدى بناتي أو إحدى بنتي فلا يصح النكاح، لابد أن يحدد زوجتك فلانة بحيث تكون معروفة لكن لماذا لم يحدد هنا؟ نقول إما أن يكون قد حدد، و على افتراض أنه لم يحدد فهذا شرع من قبلنا لكن شرعنا لابد من التحديد. {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا}: من السنوات {فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ}: لن أشق عليك فيما يتعلق بهذه الأجرة عندي طيلة هذه السنوات، {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}: وعلق الأمر بمشيئة الله؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يفعل خير إلا بعون من الله عز وجل  وهذا يدل على صلاح هذا الرجل {قَالَ ذَلِكَ}: قال موسى {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا}: أي هنا شرطية وجوابها فلا عدوان علي، أي الأجلين قضيت، الثمان سنوات أو العشر، أي شرطية وما زائدة للتأكيد {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ}: يعني كما أنه لا يعتدى عليه بأن تزيد علي في عشر سنوات، أيضًا لا تعتدي علي لو إنني قمت فقط بثمان سنوات، فالعشر من عندي، ولذلك جاءت الأحاديث يقوي بعضها بعضاً عن النبي ﷺ من أن موسى أتمّ أكمل الأجلين، قضى عنده عشر سنوات {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}: سبحان الله، يعني هذا عقد فالله وكيل وشاهد وحاضر علينا في هذا الأمر، ولذلك يعقوب عليه السلام لما طلبوا من أن يرسل معهم يوسف ماذا قال عز وجل  قال: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}:[يوسف: 66].

 

 

﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ(35)﴾

{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ}:عشر سنوات، { وَسَارَ بِأَهْلِهِ}: بالليل ومرت معنا هذه في سورة النمل {وَسَارَ بِأَهْلِهِ}: مع زوجته {آنَسَ}: أبصر {مِنْ جَانِبِ الطُّورِ}: الجبل {نَارًا}: وهي نور، هو ظنّ أنها نار لكنها نور، ولذلك قال عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا}:[النمل: 8]، ولذلك النبي ﷺ كما في الصحيح قال عن الله عز وجل : “حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سُبُحات -عظمة وبهاء وجهه- ما انتهى إليه بصره من خلقه” {لَعَلِّي}: وبيّنا في سورة النمل لما قال {سَآتِيكُمْ}:[النمل: 7]، ما الجمع بينهما؟ {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ}: لأنه أضل الطريق {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ}: مثل العصا التي يكون في آخرها شعلة من نار، والجذوة هي القبس بشهاب قبس هي الشهاب والقبس {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}: أي تستدفئون لأنهم كانوا في ليلة شاتية {فَلَمَّا أَتَاهَا}: على أنها نار {نُودِيَ}: خاطبه الله عز وجل {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ}:[مريم: 52]، قال كثير من المفسرين الأيمن هو عن يمين موسى؛ لأن الجبل لا يمين له وليس له يسار، كما تقول عن يمين القبلة وعن يسار القبلة، وبعضهم قال الأيمن يعني من اليُمن والبركة لأن البركة فيه {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا}:[النمل: 8]، { مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ}: يعني من جانب الوادي الأيمن {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ}: والبقعة هي القطعة من الأرض، ولعلها سميت بقعة لأنها تختلف عن القطعة التي بجانبها {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ}:  لماذا هي مباركة؟ لما فيها {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا}:[النمل: 8]، {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ}: من الشجرة (بدل) من شاطئ الوادي الأيمن، واختلف في الشجرة الله أعلم ما حقيقة هذه الشجرة، ليس هناك دليل نعلمه من حيث السنة يكون صحيحًا في تعيينها.

إذًا ما معنى هذه الآية؟ الله جل وعلا قال في هذه السورة {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ}: وقال {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ}: [مريم: 52]، من مجموع الآيات موسى أتى، فلما أتى إلى هذه النار التي يظنها أنها نار نودي عن يمين الجبل، وهذا الجبل عنده وادي وهو الوادي الأيمن أيضًا، في جانب هذا الوادي الأيمن شجرة، من الشجرة يعني ابتداء كلام الله عز وجل من هذه الشجرة، وليس معنى ذلك أن الشجرة هي التي تكلمت أو أن هذا الكلام خلقه الله أو أن الله عز وجل خلق مخلوقًا فتكلم بهذا الكلام؛ لأنه لا يمكن أن يقول هذا المخلوق أو هذه الشجرة إني أنا الله رب العالمين، فدل هذا على أن الله عز وجل قرب موسى فناجاه، وليس معنى ذلك -لأن الله عز وجل لا يقاس بخلقه- والله في العلو عز وجل ولا يقاس بخلقه، ولذلك ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير ومع ذلك نزولًا يليق بجلاله وبعظمته، وهذا المكان هو الجانب الغربي ليس الشرقي {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ}: في سورة النمل  {وأَلْقِ عَصَاكَ}:[النمل: 10]، يعني نودي أيضًا {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ}: لأن هنا (أن) تفسيرية {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ}: أي تتحرك {كَأَنَّهَا جَانٌّ}: مع عظمها كأنها حية صغيرة تسرع من حيث الحركة، وإلا فهي ضخمة حركتها كحركة الحيّات الصغيرة {وَلَّى مُدْبِرًا}: هرب مدبرا ولم ينظر إلى ما وراءه {وَلَمْ يُعَقِّبْ}: يعني لم يرجع فناداه الله عز وجل {يَا مُوسَى أَقْبِلْ}: فلا خوف عليك {وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ}: أنت في أمن من هذه العصا ومن غيرها، وأما ما يقال من أن هذه العصا أخذها موسى عليه السلام من مدين من ذلك الرجل الصالح وصار لها ما صار، فهذا لا نعلم له دليلًا صحيحًا من حيث سنة النبي ﷺ.

{اسْلُكْ}: يعني أدخل، في سورة النمل {وَأَدْخِلْ يَدَكَ}:[النمل: 12]، {فِي جَيْبِكَ}: الجيب هو المقطوع مما يدخل الإنسان رأسه فيه {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}: منيرة مشرقة من غير سوء من غير عيب فيها من برص وغيره، مع أنه كان أسمر وهذه آية وعلامة {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ}: الله عز وجل أمره إذا خاف من هذه الحية أنه يضع ويدخل يده إلى جنبه وإلى جناحه حتى يزول ما يخافه، ولذلك قال بعض المفسرين: قال إن من كان في خوف فوضع يديه على فؤاده وما شابه ذلك، فإنه يزول عنه رعبه وخوفه إذا أيقن ذلك، ولكن وإن كانت فيه بعض الآثار لكن لا أعلم دليلًا صحيحًا من سنة النبي ﷺ حول ذلك فقال عز وجل: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ}: ذكّرَ الإشارة هنا لتذكير الخبر {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ}: يعني دليلان وحجتان {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}: في سورة النمل في تسع آيات إلى فرعون وقومه، لأن القوم هم الأقرباء للإنسان، لكن هنا قال الملأ هم الحاشية التي حوله، فدل هذا على أن هذه الآيات هي أدلة دامغة لقوم فرعون وإلى الملأ من فرعون فقال عز وجل: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}: وهذا الفسق الأكبر {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}: كما مر في الآيات السابقات وهو لا يتعلل بذلك من أجل أن يترك الدعوة إلى الله عز وجل لا، وإنما من أجل أن يشكو حاله إلى الله لكي يعينه الله {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا}: يكون معينًا لي الردء يعني المعين الردء أي يصدقني كلام هارون في تبيين الحجج يثبت صدق موسى، أراد بذلك توضيح الحجج ولذلك قال في سورة طه {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي}:[طه: 25-28]، وهنا قال {أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا}: فموسى عليه السلام فصيح لكن أفصح منه هو أخوه هارون {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ}:سنقوي عضدك، لأن العضد من المرفق إلى المنكب لأنه إذا كان قويًا فإن صاحبه يكون قويًا، وكذلك الظهر ولذلك قال في سورة طه {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}:[طه: 31]، أزري ظهري؛ لأن الظهر إذا قوي دليل على قوة الإنسان، فقال هنا {رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا}:حجة {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا}: يعني اذهبا {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}: ستغلبونه وهذا يدل على القول الآخر الذي قلنا من أنه لم يتمكن من فرعون من قتل السحرة.

 

﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ(42)﴾

{بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ}: آيات واضحات وهي الآيات التسع التي مر ذكرها كثيرًا {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى}: هذا سحر وافتراء من موسى {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ}: هذا شيء أتيت به يا موسى ولذلك قال تعالى {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}:[يونس: 78]، {وَقَالَ مُوسَى}: ردًا عليهم {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ}: هو أعلم بمن جاء بالهدى من عنده، ولم يقل أنا المهتدي من باب أن يدمغهم بالحجج ولذلك هذا كما قال عز وجل {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}:[سبأ: 24]، ومن نظر إلى الواقع وجد أن النبي محمد ﷺ وأصحابه من حيث حالهم هم على الهدى، وكفار قريش على الضلال ،من رأى حال موسى رآه على الهدى والخير، أما أولئك على الضلال {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ}: وهو أعلم أيضًا بمن تكون له عاقبة الدار من التمكين في هذه الدنيا وأيضًا عاقبة الدار في الآخرة، ولذلك قال تعالى: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}:[الأعراف: 145]، لما ذكر قصته في سورة الأعراف {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}: فلا فلاح ولا خير للظالمين وأنتم ظلمتم ولذلك قال عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}:[النمل: 13-14]، فمع أنهم مفسدون أيضًا هم ظالمون، ولذلك لما ذكر عز وجل قصته لما أرسله قال: {فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}:[الأعراف: 103]، وفي الآية الأخرى {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}:[الأعراف: 133]، فعندهم الإجرام والإسراف والظلم {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}:  هنا دل هذا على أنه ادعى الألوهية كما ادعي الربوبية لما قال {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}:[النازعات: 24]، {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ}: فأوقد لي على الطين نارًا حتى تجعل لي بنيانًا مرتفعًا عاليًا لأنظر إلى إله موسى، وهذا من باب التدليس على قومه {فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى}: الظن هنا اليقي،ن يعني موقن {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}: ولذلك قال عز وجل في سورة غافر: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ}:[غافر: 36]، قال ابن كثير -رحمه الله-: فقد بنى بنيانًا عظيمًا من أجل أن يوهم أصحابه وأتباعه على انه لا إله غيره وقد كذب فلا معبود بحق إلا الله عز وجل، {وَاسْتَكْبَرَ}:، {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ}:، {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ}:، من غير حق، لأنه أصلا لا حق لهم في ذلك، فإنما استكبارهم هو بغير الحق، ولا يجوز الكبر حتى بحق إلا في بعض المواطن التي جاءت السنة بها من باب تخويف العدو مثلا في القتال أو فيما شابه ذلك {وَظَنُّوا}: يعني أيقنوا {أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ}: لو انهم يؤمنون بالآخرة لما كفروا {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ}: مثل ما ينبذ يعني يطرح الشيء الذي يكون تافهًا {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ}: في البحر وأقرب الأقوال أن هذا البحر هو البحر الأحمر، {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}: عاقبتهم الغرق كما ذكر الله عز وجل قصتهم في سورة الأعراف وفي سورة الشعراء {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً}: أئمة شر كما أنه هناك أئمة خير هناك أئمة شر كما هنا {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}: هذا حالهم في الدنيا صدوا الناس عن دين الله {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ}: ولذلك قال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}:[هود: 98]، وقال بعدها: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}:[هود: 99]، فقال هنا {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ}: دل هذا على أن قوله {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً}:[هود: 99]، في سورة هود {فِي هَذِهِ}: يعني في الدنيا {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ}: من المطرودين من الملعونين؛ لأنهم أرادوا العلو في الدنيا فأذلهم الله فصاروا من المطرودين المقبوحين الأذلاء.