تفسير سورة القصص من الآية ( 71 ) إلى ( آخر السورة ) الدرس (198 )

تفسير سورة القصص من الآية ( 71 ) إلى ( آخر السورة ) الدرس (198 )

مشاهدات: 575

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة القصص

من آية (71) إلى نهاية السورة

( الدرس 198 )

لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

 

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين أما بعد:

فكنا قد توقفنا عند قول الله عز وجل:

﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)﴾

لما ذكر عز وجل: { وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ ۖ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: بين هنا بعض الدلائل التي تدل على وجوب توحيد الله عز وجل قل يا محمد لهؤلاء: { أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا}: أي مستمراً {إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: وهذا يدل على أن الليل لو استمر للناس لشقَّ عليهم هذا الأمر، بل إن الإنسان حينما يأتي الليل يشتاق إلى النهار وكذلك العكس {مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ}: ولم يقل يأتيكم بنهار؛ لأن وجود النهار لا يتعلق فقط بالمعيشة بل هناك منافع متعددة ولذا قال: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ}: لماذا قال أفلا تسمعون؟ لأن السماع يظهر أكثر وأكثر في الليل فقوله تعالى: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ}: سماع تدبر وتفهم.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا}: أي مستمراً {سرمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ}: بصراً باستفادة وانتفاع، وهنا ذكر الإبصار؛ لأن الإبصار يظهر أكثر في النهار.

ومن رحمته عز وجل {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ}: وذلك بطلب المعيشة {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: فهذا يؤدي بكم إلى شكر الله عز وجل ورحمة الله إذ جعل هناك ليلاً ونهاراً فلو جعله ليلاً دائماً لشق على الناس ولتعطلت مصالحهم، وكذلك لو جعل النهار {سرمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.

 

﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(75)﴾

هنا تكررت هذه الآية وقد مرت معنا هذه الآية قبل آيات، فالمقصود والعلم عند الله من أنهم يُنَادَون مرتين أو أنهم ينادَون مرة ثم يأتي كلامهم تباعا على حسب السياق فقال هن:ا {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}.

{وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا}: أي من كل أمة أتى الله عز وجل بنبيٍّ يشهد على أمته، ولذلك قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا}: [النساء:41] وكذلك ذكر عز وجل ذلك في سورة النحل، فقال هنا: {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا}: فيشهد على أمته كلّ نبي يشهد على أمته {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}: أين الدليل لكم على كفركم وعلى شرككم {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ}: هناك في يوم القيامة علموا علماً واضحاً ظاهراً أن الحق وهو التوحيد والدين الحق لله عز وجل الذي يجب أن يفرد لله عز وجل، ولكن هذا العلم لا يفيدهم فقد فات وقت التوبة ووقت المهلة.

{فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم}: يعني غاب عنهم {مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: من الافتراءات وهو أشد الكذب الذين زعموا من أن هناك آلهة من دون الله عز وجل.

﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(82)﴾

لما ذكر الله عز وجل في أول السورة حال موسى مع فرعون بين هنا أن هناك شخصاً من بني إسرائيل حتى قال بعض المفسرين إنه ابن عم موسى، وقيل: إنه ابن خالته ولا أعلم دليلاً صحيحاً حول ذلك، المهم أن هذا وهو قارون من بني إسرائيل {فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ}: يعني تطاول عليهم بشتى أنواع البغي من الأقوال والأفعال، {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ}: وهذا البغي سببه أن الله عز وجل أنعم عليه لكن كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}: [العلق].

{وَآتَيْنَاهُ}: أعطيناه {مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ}: (ما) هنا موصولية بمعنى الذي، والمفاتح: هي المفاتح للصناديق التي تُكنز فيها الذهب، ويحتمل على القول الآخر من أن المفاتح هنا هي الصناديق، وعلى كل حال فقد أعطاه الله عز وجل نعماً عظيمة { لَتَنُوءُ}: لتثقل {بِالْعُصْبَةِ}: بالجماعة من الرجال، وقد قيل العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين، وكلمة تنوء تدل على عظم ما أعطي من هذه الكنوز {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ}: بالعصبة وهم كما قال تعالى {بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}: دل على أنهم عصبة وأنهم ذو قوة  {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ}: وعظه قومه لا تفرح فالفرح الذي لا يؤدي إلى الكبر ولا إلى البطر ولا إلى الطغيان لا بأس به ولذلك قال عز وجل: {فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}: لكن نهاه عن الفرح المؤدي إلى الطغيان والاعتداء فقال الله عز وجل عنهم { لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}: فرح بطر وخيلاء وكفر للنعمة.

{وَابْتَغِ}: يعني واطلب {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ}: يعني أنك تنفق من أجل الدار الآخرة {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ}: قال بعض العلماء: { وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ}: يعني أن لك في هذه الدنيا أن تأكل وأن تشرب وأن تتلذذ لكن يكون التقديم للآخرة أكثر، مع أن جملة من العلماء يرون أن قوله تعالى: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ}: يعني لا تنسَ نصيبك من الدنيا من إنفاق لوجه الله عز وجل فيها؛ لأن هذه الدنيا إنما خلقت من أجل أن يتقرب العبد فيها إلى الله عز وجل، ولا مانع من القولين فهو أُمِرَ بالإنفاق وبكثرته، وأيضاً أُمِرَ بأن يأخذ من الدنيا ما تقوم به حياته {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ}: أحسن في عبادة الله وأحسن إلى الخلق كما أحسن الله إليك، ولذا قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}: [الرحمن:60] لكنه لم يحسن فقال هنا: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}: ولا تطلب الفساد في الأرض والله عز وجل لا يحب المفسدين وأهل الفساد.

{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي}: سبحان الله كفر بنعمة الله عز وجل ونسب النعمة إلى قوته وإلى حوله وإلى ذكائه وإلى معرفته كما يزعم من أنه يعرف مكاسب التجارة {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ}: هو يعلم ذلك؛ لأنه قرأ في التوراة من أن الله عز وجل أهلك أُمَمَاً سابقة {أَوَلَمْ يَعْلَمْ}: والاستفهام هنا للتقرير: هو يعلم {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ}: وأكثر جمعاً للأموال {وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}: لَا يُسْألون سؤال استعلام لأن الله عز وجل محيط بكل شيء، وإنما يُسْألون سؤال توبيخ وذم واحتقار، أو يُحمل على أنهم لا يُسْألون في موقف ويُسألون في موقفٍ آخر كما قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: [الحجر:92]

مع ذلك كله {فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ}: الفاء مترتبة على ما مضى، مع ذلكم النصح فإنه {خَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ}: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ}: تمنّوا أن يكون لهم مثل ما أعطي قارون {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}: لذو حظ ونصيب عظيم إذ له هذه الزينة وهذه الأموال.

{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ}: هنا ظهر أهل العلم الذين يريدون الدار الآخرة ولا ينظرون إلى مُتَع الدنيا ولا إلى أصحابها -والموفق من وفقه الله-، فإن هنا موعظة لأهل العلم ولا سيما في مثل هذا الزمن حتى لا ينخدعوا من مُتَع الدنيا، حتى لا يبيعوا دينهم من أجل هذه الدنيا {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ}: هنا قالوا لهم (ويلكم) نُصبت باعتبار الفعل {وَيْلَكُمْ}: حذروهم قالوا ويلكم يعني انتبهوا واتعظوا واعتبروا {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}: ما يلقّى هذا الثواب ولا يُلقّى هذا العمل ولا يُلقّى هذه المرتبة العظيمة إلا الصابرون فعليكم أن تصبروا ولا تلتفتوا بأعينكم إلى هذه المُتع.

{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}: سبحان الله أراد أن يعلو فخسف الله به في قاع الأرض {فَخَسَفْنَا بِهِ}: أيضاً {وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ}: أي من جماعة {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ}: يعني لم ينصر نفسه ولم تكن له فئة وجماعة تنصره.

{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ}: بالأمس في الوقت القريب الماضي {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ}: ويكأن الله: معناها نعجب وأيضاً نحن نعلم، إذًا علمنا وأيضاً نعجب من قدرة الله عز وجل إذ بسط الله الرزق لمن يشاء {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ}:بمعنى أنه يوسع على هذا ويضيق على هذا وأحياناً وله تدابير عظيمة والناس يرونها في أنفسهم يقدّر الله عز وجل على شخص في زمن وإذا به في زمنٍ يغنيه وكذلك العكس، {ويَقْدِر}: يعني :أنه يضيق من حيث المعيشة {لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ}: وهذا يدل على أن من أراد الله وأراد الدار الآخرة فإنه لن يندم، سبحان الله! كانوا كما ذكر عز وجل قبلها بآيات يتمنون مثل مال قارون، الآن يقولون: {لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}: نعجب من قدرة الله عز وجل ونعلم أنه لا يفلح الكافرون، فلا فلاح لهم ولا حصول لهم على خيرٍ ولا يزول عنهم كرب، هنا لما ذكر قصة قارون مع أنه من قوم موسى هنا فيه تسليه للنبي ﷺ فقومك إن كذبوك ولو كانوا أقرب الناس إليك كعمك أبي لهب فهناك من كذب موسى من قومه.

﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)﴾

{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ}: أشار إليها من باب تعظيمها {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا}: الجنة {لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ}: لا كحال قارون {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}: فبغى عليهم، فقال عز وجل: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}: العاقبة الحسنة للمتقين، والعاقبة للتقوى فإنه وإن ضاقت عليهم الدنيا فإنهم وإن أوذوا في سبيل الله فالعاقبة الحسنة لهم.

{مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ}: دل هذا على أن الذي يفضل به الإنسان إنما هو عمل الحسنات، والذي يُصغر الإنسان ويحط من قدره فعل السيئات {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ۖ}: كما قال تعالى: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ}: [الأنعام:160] {وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فالله لا يظلمهم لكمال عدله.

{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ}: قال كثيرٌ من المفسرين هذه الآية نزلت وهو في طريقه ﷺ إلى الهجرة لأنه لما هاجر من مكة إلى المدينة بعد ما آذته قريش نزلت هذه الآية فوعده الله عز وجل أن يعود إلى مكة مرةً أخرى {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ}: يعني أنزل عليك القرآن وفرض عليك فيه أحكاماً {لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ}: إلى مكة، لكن هنا نكّرَه: (إلى معادٍ)؛ لأنه معاد به تشريف به تعظيم به رفعة به شرف للنبي ﷺ، ولذلك فتح مكة عليه الصلاة والسلام ورده الله إلى معاد، وقد قال بعض المفسرين إن كلمة معاد هنا: {لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ}: يعني إلى الموت، وفي قولٍ آخر إلى الجنة ولا تناقض بينها، فالله عز وجل رادّه وقد رده إلى مكة قد انتصر وله الشرف وله الرفعة وأيضاً مصيره ولو أخرج من بلدته إلى الموت لكن عاقبة النبي ﷺ ومن اتبعه إلى الجنة.

قل يا محمد لهؤلاء: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}: لم يقل أنا جئت بالهدى لأن حال النبي ﷺ يدل على أن حالته هو من جاء بالهدى، وأن حالهم حال من أعرض، سبحان الله! في نفس السورة قال موسى لقوم فرعون: {وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ۖ}:(37) النبي ﷺ حاجج قومه فقال: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.

{وَمَا كُنتَ تَرْجُو}: يا محمد {أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ}: يعني القرآن {إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ}: ولذلك في نفس السورة كما مر معنا: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ}(46) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ(6)}: [الدخان] فرحِم الله النبي ﷺ وأنزل عليه هذا القرآن ورحم قومه فأنزل عليهم هذا القرآن {فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ}: لا تكن معيناً للكافرين وهو ﷺ حاشاه أن يكون كذلك ولكن إذا كان الخطاب موجهاً للنبي ﷺ -وحاشاه أن يكون معيناً للكافرين- إذاً الخطاب لغيره من باب أولى فليحذروا، وتأمل هنا ماذا قال موسى في نفس السورة ماذا قال الله عز وجل عنه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ}:(17).

فقال هنا :{وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ ۖ}: {لا}: ناهية، {يصدنك}: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون، والواو: واو الفاعل حذفت لالتقاء الساكنين وهي في محل رفع فاعل، حتى لا يقول الإنسان لماذا لم يقل وَلَا يَصُدَّنك { بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ ۖ}: لأنك على الحق وهم على الباطل {وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ}: ولا تلتفت إلى هؤلاء ولا إلى إعراضهم {ولا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: وحاشاه أن يكون من المشركين، ولذلك القول فيها كالقول في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}:[الزمر:65] فدل هذا على أن أمته يجب أن تكون حذرة من الشرك، مع أنه ﷺ حاشاه أن يقع في الشرك، لكن إذا كان الخطاب موجهاً له مع أنه لا يفعل ذلك فغيره عليه الحذر من باب أولى.

{وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ}: والقول فيها كالقول في الآية السابقة {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ}: { لا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ}: لا معبود بحق إلا هو {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ}: وأكد هنا {لا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} إذاً هو الذي يستحق العبودية لأن ما سواه يفنى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ(27)} [الرحمن] {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}: وفي هذا إثبات صفة الوجه لله عز وجل بما يليق بجلاله وبعظمته، ومر معنا ذلك مفصلاً في سورة البقرة عند قوله تعالى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ} [البقرة:115].

{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}: بعض المفسرين قال كل شيءٍ لا يراد به وجه الله فهو زائل وهالك وباطل، كما ذكر البخاري في صحيحه عن مجاهد و الثوري ولا تعارض بينهما، قال ابن كثير – رحمه الله -في التفسير: كل شيء هالك إلا وجهه فيفنى الناس و يفنى الخلق ويبقى الله عز وجل، وأيضاً كل عملٍ لا يراد منه وجه الله فمآله إلى الزوال فمآلهُ إلى الزوال {لَهُ الْحُكْمُ}: الحكم الشرعي والقدري والجزائي {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: وترجعون إلى الله فيحكم عليكم بحكمه الجزائي، أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.

وبهذا ينتهي الحديث عن تفسير سورة القصص.