تفسير سورة ( المدثر ) الدرس ( 261 )

تفسير سورة ( المدثر ) الدرس ( 261 )

مشاهدات: 402

تفسير سورة ( المدثر )

الدرس (261 )

فضيلة الشيخ :  زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــ

نشرع بعون من الله في تفسير سورة المدثر، وهي من السور المكية..

{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)}

{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} {الْمُدَّثِّرُ} يعني المتلفف بثيابه، وذلك كما مضت السورة السابقة، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}، {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} وقال هنا {قُمْ فَأَنْذِرْ} لأنه هو المناسب  من باب التحذير لهؤلاء، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} يعني وعظم ربك عز وجل، وأعظم ما يعظم الله به هو التوحيد، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} {وَثِيَابَكَ} يعني أن نفسك تطهرها من الذنوب، وأيضا يشمل ذلك أن تطهر ثيابك من النجاسات، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} يعني اترك، {وَالرُّجْزَ} المقصود من ذلك الأوثان، وكذلك الذنوب، ولذلك قال تعالى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}

{وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} أكثر المفسرين {وَلَا تَمْنُنْ} يعني لا تعطي عطية من أجل أن يعطيك المهدى إليه أعظم منها، وقد مر معنا في قوله عز وجل {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} تفصيل لهذه المسألة، وقيل {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} بمعنى أنك لا تمن بعبادتك على غيرك، لكن المعول هو الأول، {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} يعني أن ما أمرت به يحتاج إلى صبر، فاجعل صبرك ابتغاء وجه الله، {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} يعني نفح في الصور، {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} يعني أنه عسير على من؟ على هؤلاء الكفار، ولذلك قال بعدها {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} يعني من باب التأكيد، وأنه لا يسر في هذا اليوم لهؤلاء.

{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)}

{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} يعني أنه أتى إلى هذه الدنيا، ولا مال له، ولا ولد، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وأيضا أنا الذي خلقته وحدي، ولم يخلقه معي غيري، فقال تعالى في شأن هذا الرجل، وهو الوليد بن المغيرة كما هو المشهور من قول المفسرين، ومن ثم فإن الله هدده بأمره للنبي صلى الله عليه وسلم {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} يعني أنه مال كثير حتى إن هذا مد ومد بمعنى الاتساع {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)وَبَنِينَ شُهُودًا (13)} وذلك أن أبناءه كثر يشهدون معه في المجالس، ومن هؤلاء عمارة بن الوليد، وهشام بن الوليد، وخالد بن الوليد رضي الله عنهم أسلم هؤلاء الثلاثة، فقال الله {وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)} يعني أنه مهد، وسهل له كل ما يتعلق بمتع الدنيا، {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} يعني بعد ذلك كله يطمع أن أزيده، {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا} لن يحصل له مبتغاه {كَلَّا}، لم؟ {إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا} فهو معاند للقرآن، {إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} يعني من أن الله سيكلفه مشقة وعذابا لأن الصعود يتضمن المشقة، وهذا عذاب مرصود له، {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} وذلك لأنه لما اختلفت كفار قريش في الحكم على النبي عليه الصلاة والسلام هل هو شاعر أو كاهن أو ساحر هنا ماذا قال تعالى عن هذا الرجل؟ {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} يعني{فَكَّرَ} فيما يقوله في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، {وَقَدَّرَ}  ما يقوله في شأنه عليه الصلاة والسلام، {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)} أي لعن وعذب {كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)} كرره مرة أخرى بمعنى أنه قتل على أي حال قدر هذا الرجل فيما يتعلق بالنبي عليه الصلاة والسلام {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21)} يعني أنه نظر نظر تأمل وتفكير، وأيضا نظر إلى أصحابه الذين حوله {ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ} يعني أنه قطب وجهه {وَبَسَرَ} يعني ازداد تقطيبا لوجهه {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ} أدبر عن الحق {وَاسْتَكْبَرَ} واستكبر عن الحق، {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)} يعني ما هذا القرآن الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام {إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} عن السابقين فهو سحر مما أثره وأخذه عنهم، {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} ثم أكد ذلك فقال {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} يعني من قول البشر، {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} من باب التأكيد على ما حكم به من أنه سحر، والسحر إنما يأتي به المخلوق، فقال تعالى {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} يعني من أني سأدخله في سقر، وسيصلى نارها {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} وسقر اسم من أسماء جهنم، ولذا قال معرفا لها لما استفهم عنها {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} من باب التهويل والتعظيم {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} {لَا تُبْقِي} شيئا من اللحم والعظم والجسد، {وَلَا تَذَرُ} يعني ولا تترك من باب أن عذابها عذاب عظيم {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ}، {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} بمعنى أنها محرقة ومسودة للبشر يعني للبشرة، وقال بعض المفسرين {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} يعني أنها ظاهرة للبشر {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} والقول الأول هو الأنسب للسياق، ولا مانع من دخول الآخر فقال الله {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} بمعنى أنها تلوح وتسفع وتؤثر على بشرة الإنسان.

{لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا} يعني على النار{تِسْعَةَ عَشَرَ} يعني من الملائكة، {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}

{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)}

{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} لم يجعلهم خلقا آخر، وذلك لأن الله خلق هؤلاء الملائكة على ما أراده عز وجل، {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} يعني تسعة عشر {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} يعني اختبارا للذين كفروا لأنهم كانوا يستهزئون ويقولون تسعة عشر، ولذلك قال بعضهم:” ليكفيني بعضكم بعضهم، وأنا أتكفل بالباقي” 

{وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يعني ليتيقن الذين أوتو الكتاب لأن في كتبهم يعلمون أن عددهم تسعة عشر {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} يعني أن أهل الإيمان يزدادون إيمانا لما ذكر هذا العدد فإنه يوافق ما في كتبهم ممن آمن من أهل الكتاب، وأيضا يزداد أهل الإيمان من هذه الأمة، {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وذلك حتى يعلموا أن هذا القرآن حق، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} يعني لا يقع شك من حيث العدد فيما يتعلق بهؤلاء أهل الكتاب، وكذلك أهل الإيمان، {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ممن في قلبه ضعف إيمان {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} يستغربون فيقولون لماذا يضرب الله هذا المثل فيذكر تسعة عشر من أنهم خزنة جهنم، فقال {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} يعني جلع عددهم تسعة عشر من أجل ماذا؟ {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}.

{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} كما أضل الله فيما يتعلق بهذا المثل من شاء وهدى من شاء {كَذَلِكَ} هو عز وجل {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} يضله عن الحق، ويهديه إلى الحق {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} يعني أن جنود الله كثيرة، ولذلك ثبت في الحدث الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام:” إن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة”

{وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} {وَمَا هِيَ} يعني النار {إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} من أجل أن يتذكروا أن هذه النار نار عظيمة حتى يدعوا ما هم عليه من الشرك، ومن الذنوب، {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}.

{كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)}

{كَلَّا وَالْقَمَرِ} قال بعض المفسرين كلمة هنا {كَلَّا} للردع والزجر، وقيل بمعنى حق، وعلى كل حال كلمة {كَلَّا}  الأصل أنها تكون للزجر والردع، وقد تكون بمعنى حقا إذا كان هذا المقام يصلح لكلا ولكلمة حقا، وقد يصلح فقط لكلمة حقا، وعلى كل حال السياق هو الذي يقرر ذلك، وهذا هو القول الذي تجتمع به أقوال كثيرة من أهل اللغة {كَلَّا وَالْقَمَرِ} {كَلَّا}  يعني ردع وزجر لحال هؤلاء الذين ضلوا، وقالو ما قالوا، وكلمة حقا والقمر يعني أقسم الله بالقمر، {كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)} يعني مضى {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} يعني أتى بضيائه، {إِنَّهَا} يعني النار {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} يعني لإحدى الدواهي العظام الكبيرة {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} يعني هي نذير للبشر {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الطاعة، أو أن يتأخر عن الطاعة، فهي نذير، فليحذر المسلم فليقدم على الطاعة، وليتأخر عن الذنوب..

{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} يعني أن ما عملته فإنها مرهونة به لا تنفك عنه {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)} يعني أصحاب اليمين، الله يكفر عنهم ذنوبهم {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40)} يعني يسأل بعضهم بعضا {عَنِ الْمُجْرِمِينَ} يعني ما حالهم ثم بعد ذلك ذكروا أن حالهم في الجحيم فقال تعالى عن هؤلاء أهل الجنة يسألون أهل لنار {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} يعني ما أدخلكم في سقر {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)} يعني ممن يخوض في آيات الله، {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} يعني بيوم الجزاء والحساب {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} يعني حتى أتانا الموت، وهذه الآيات السابقة {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} فيها دليل على قول من يقول وقد مر معنا ذلك مفصلا من أن الكفار كما أنهم مخاطبون بأصول الشريعة، أيضا هم مخاطبون بفروع الشريعة، {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} بما أنهم كفار فلا يمكن أن تنفع فيهم شفاعة، فالله لا يأذن لأحد أن يشفع لهؤلاء؛ لأن الله لا يرضى عنهم {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} يعني أنهم لا شفاعة لهم أصلا، {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}  كما قال تعالى {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}، فقال تعالى {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)} هنا استفهام إنكاري { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } يعني لماذا هم أعرضوا عن التذكرة وعن هذا القرآن.

{كَأَنَّهُمْ} في إعراضهم {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ} يعني جمع حمار ولذلك لبلادة الحمر فهم بلداء {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} يعني استنفرت وفرت وهربت {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} وأعظم ما يكون في الحمر الوحشية فإنها تنفر من حين ما تسمع أي شيء {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}  قيل  من وحوش شديدة أو ممن يصيدها {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} وهذا يدل على عظيم إعراضهم عن هذا القرآن، كما أن الحمر الوحشية تنفر نفورا عظيما إما من وحش وإما من صائد، {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} يعني أن كل شخص منهم يريد ماذا؟ أن ينزل عليه كتاب من السماء، وهو هذا الكتاب  منشور بحيث يقرأ من أن محمدا صلى الله عليه وسلم على الحق حتى يؤمن، ولذلك قال الله عنهم {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}

{كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ} {كَلَّا} حرف ردع وزجر {كَلَّا}  يعني ردع وزجر لما طلبوا { بَلْ } حقيقة هؤلاء أنهم {لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ} {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} {كَلَّا} حرف ردع وزجر آخر لهم {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} يعني هذا القرآن تذكرة {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} يعني من شاء اتعظ به {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} لا يمكن لأحد أن يتذكر وأن يهتدي إلا بمشيئة الله، فللعبد مشيئة واختيار لكن مشيئته لن تكون إلا بعد مشيئة الله {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} يعني هو أهل عز وجل لأن يتقى، لا يتقى غيره، {وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} يعني هو أهل لأن يغفر عز وجل لمن تاب، وأناب إليه.

وبهذا ينتهي تفسير سورة المدثر….