أما بعد : ..
فقد ذكر البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ( وقف على الصفا فنادى في قريش إنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فلما اجتمعوا قال إني أني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقام شخص من بين القوم فقال ( تبًا لك ألهذا جمعتنا ؟ )
فأنزل الله عز وجل سورة المسد { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) }
هذا المتحدث الذي ناهض النبي صلى الله عليه وسلم و دعا عليه بالهلاك من هو ؟
أبو لهب : اسمه عبد العزى ، قرابته من النبي صلى الله عليه وسلم عمه ، إذًا لو نالتك أذية أو بلية من قول أو فعل من أي شخص فلا تستغرب هذا الأمر، فإن القريب قد يظلم قريبه ، هذا عمه !، لكن لما في قلبه من الخبث والشرك والحسد قال ( تبا لك ، ألهذا جمعتنا ؟)
كان من الأليق والأفضل والأحسن والأجدر بهذا العم أن يكون عضدا لابن أخيه
وسبب هذا فساد القلب ، ولذا نرى كثيرا من الأسر تشتت وتفرقت ،وهم أقرب ما يكون بسبب ما في القلب من الفساد ، بل إن هذا الرجل كان يسعى خلف النبي صلى الله عليه وسلم في مواسم الحج ويقول( احذروه فإنه كذاب )
دعا على النبي صلى الله عليه وسلم بالخسران فقال عز وجل { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ }
{ تَبَّتْ } : أي خابت وخسرت يدا أبي لهب دعا عليه ، هل تحقق هذا الدعاء ؟ نعم
{ وَتَبَّ } أي: وقع هذا الخسران ، وعبر باليدين لأن معظم ما يفعله الإنسان بيديه ، لكن يتعجب الإنسان كيف يكنيه الله سبحانه وتعالى والكنية تعظيم وتشريف
فلماذا كناه الله عز وجل ؟
هذا الرجل اسمه عبد العزى وكُنّي في الجاهلية بأبي لهب لحمرة كانت في وجهه ، كان شديد الحمرة ، فكناه الله عز وجل بأبي لهب لأنه سيلاقي نارا حمراء تناسب هذا الوجه القبيح الذي كان أجدر به أن يخضع للحق فأصابه هذا العذاب الذي هو النار
بل لما نزلت هذه السورة قال ( سيدافع عني مالي وولدي ) فقال عز وجل { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } يعني لن يغني عنه ماله وما كسب ، كسب هنا يعني الولد
النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في السنن ( إن أفضل ما أكلتم من كسبكم وإن ولدكم من كسبكم )
الولد من كسب أبيه { سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ }
{ نَارًا } : نكرها لتعظيمها ولتفخيمها ، ما صفة هذه النار ؟ ذات لهب، تناسب كنيته ،تناسب وجهه ، فإنه لما شرف بوجهه عند قومه فإن الله عز وجل سيخيّب ويذل هذا الوجه ، لأن أشرف ما في الإنسان هو الوجه
فلو تضرب إنسانا ضربة قوية أخف عليه من أن تبصق في وجهه ،
{ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ } أي : وامرأته ستصلى نارا كما سيصلاها هو لأنها كانت تحمل الشوك وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم من باب الإيذاء ، انظروا إلى هذا التوافق المرأة مع زوجها ، لأن أعظم قرين للإنسان هي الزوجة
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين ( تنكح المرأة لأربع لدينها ومالها ونسبها وجمالها فاظفر بذات الدين تربت يداك ) لأن الزوجة في الصحبة أعظم من الصاحب ، الصاحب قد يوثر في صاحبه بل يؤثر في صاحبه
فالزوجة من باب أولى لأنها تصحب الزوج أكثر من غيره في الساعات والزمن
ولذا سماها الله تعالى صاحبة قال تعالى { يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ(36)}
{ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ } أي بما كانت تحمله من حطب لإيقاع الأذية بالنبي صلى الله عليه وسلم ، كانت كما قال بعض المفسرين كانت تحمل الحطب الذي يشعل الفرقة بين الناس أي أنها نمامة ، مثلما تحرق النار الحطب فالنمامة تحرق الأسر والعلاقات
ولكن الله عز وجل كفاه شرها ، ولذلك أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام وأبي بكر رضي الله عنه ، فلم تر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ( يا أبا بكر أين صاحبك الذي صبأ والله لئن رأيته لأفعلن به ولأفعلن به ) فنزل قول الله تعالى
{ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ } الغشاوة على البصر وهذا فيه راحة للمسلم أنه متى أوذي في دين الله عز وجل فإنه سيعلو ولن يخيبه الله عز وجل
{ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ }
{ جِيدِهَا } أي عنقها { مِنْ مَسَدٍ } أي من حديد ، من نار قد لف عليه بإحكام ، لماذا العنق ؟ النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره في المنام أن يرى الرجل الغل ويحب القيد ، لو رأى الإنسان قيدا في رجله أحسن من أن يرى الغل في عنقه لم ؟
لأن القيد ثبات في الدين ، وأما الغل فهذا من سما أهل النار ، نظير ما كانت تحمله من حطب وشوك على كتفها الملاصق لعنقها كان لها عذاب يرصد والجزاء من جنس العمل { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا }
فنسال الله أن يثبتنا على دينه
هذا والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم